منتجو الأدب هم مستهلكوه!!
بقلم غسان عبد الله
الأدب رافد رئيس من روافد الثقافة، ومكون أصيل من مكونات الحضارة، ولا ترقي أمة من الأمم إلا إذا ارتقت آدابها، بمعنى أن الرقي الحضاري يعني في الوقت ذاته رقيَّ آداب هذه الأمةِ..
فالأدبُ هنا سببٌ ونتيجةٌ في الوقتِ ذاتِهِ، وإذا نظرنا إلى الأدبِ في الوطن العربي نَجِدهُ انعكاساً لهذا المنظور، فانحدارُ الجوانبِ السياسيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ تبِعَهُ بلا شكٍّ انحدارُ النواحي الثقافيةِ (وفي جملتِها الأدب)، وإذا كانتِ الثقافةُ تعاني ركوداً شديداً، فإن الأدبَ يعاني ركوداً أشدّ، فهي ظلماتٌ في طيِّها ظلماتٌ.
والحياةُ الأدبيةُ أصبحت مجالاً للشَّلليةِ ولفئاتٍ واحدةٍ مسيطرةٍ لا تتركُ مجالاً لغيرها، وأصبحتِ الأحقادُ وحْجْبُ المنابرِ عن الأدباءِ الآخرين هي السمةُ الغالبةُ، ولعلَّ تعبير أحدِهم يوافِقُ الحقيقةَ عندما قال: “منتجو الأدب هم مستهلكوه”.
في ما مضى كنتُ أحضرُ ندواتٍ أدبيةً ممتازةً لمناقشةِ أعمالٍ أدبيةٍ جادّةٍ فلا أجِدُ إلا بضعَ أفرادٍ لا يزيدونَ عن عشرة بالكثير، وأغلبُهم إما أصدقاء أدباء أصلاً أو أقاربُ لمن تقومُ الأمسيةُ بمناقشةِ إنتاجه، وهذا الوضعُ المؤسفُ على الرغمِ من أنه من الحقائِقِ الثابتةِ أنَّ الأدبَ ضرورةٌ وليس ترفاً، ويكفي للتدليلِ على ذلك أن الأدبَ يدخلُ في نطاقِ التنميةِ البشريةِ وبناءِ كينونةِ الإنسانيةِ في الإنسان. ولو نظرنا إلى مكوناتِ المواطنِ الصالحِ لرأيناها جميعاً تخضعُ للأدب، ولا يتمُّ تمامُها إلا بالأدبِ، ونقصدُ بالأدبِ الحيِّ المنشودِ الذي هو غير متوفرٍ تماماً كما يلزم في هذه الظروفِ مع شدّةِ الحاجةِ إليه.
وفي ثنايا القضية المشار إليها تلميحاً إلى أطرافِ المعادلةِ المؤثِّرةِ في حيويةِ الأدبِ من حيثُ من يقومُ بإنتاجِ الأدبِ ذاته، ثم من يقومُ بتلقّي هذه الآثار الأدبية ويتفاعلُ معها، سواءٌ على مستوى النُّقّادِ بالكشفِ وتحقيقِ التواصلِ المنشودِ بين المُبدعِ والمتلقّي، أو على مستوى القُرّاءِ بأصنافهم المختلفةِ الإيجابي منهم والمتلقي السلبي. ونحن نرى اليومَ كيف انصرفَ الناسُ عن القراءةِ والفاعلياتِ الثقافيةِ والفكريّةِ بوجهٍ عام، وكيفَ طحَنَتْهم شواغلُ الأيامِ ومتطلِّباتُ المعاشِ، إضافةً لما تضمُّهُ النُّظُمُ التعليميةُ والتربويةُ في المجتمعاتِ العربيةِ من قصورٍ شديٍد لا ينجمُ عنه إلا شخوصٌ يعانون من الأمِّيةِ الثقافية، والتباعدِ بينهم وبين الملكاتِ الأدبية، ويجعل النفور قائماً بينهم وبين الابتكارِ وحبِّ البحثِ والمعرفةِ، وطبعاً لن نتحدّث عن أثرِ الأميّةِ بصفةٍ عامّةٍ وندرةِ وجودِ المكتباتِ في المنازلِ، وضعف أداءِ المكتباتِ العامةِ والمؤسساتِ الثقافيةِ، والفسادِ الذي يضربُ أعطافَ الثقافةِ من كلِّ جانبٍ فهو واقعٌ لا شكَّ فيه.
والطرفُ الآخرُ من المعادلة هو ضعفُ ثقتِنا في أنفسنا، وانبهارُ طائفةٍ من النُّقَّادِ والأدباءِ بأضواءِ الثقافةِ الغربيةِ، فنجِدُ أنهم انصرفوا بوجُوهِهِم وقلوبِهم إليها، ينهَلُونَ من مَعِينها، وينقلون نقلاً حرفياً بلا تفاعُلٍ أو تحقيقِ ما يناسبُ بيئتَنا وأحوالنا، ولن نتحدّثَ حولَ غرائبِ ما ينتجونَهُ من الأعمال المبهمةِ بدعوى التّطويرِ والتّحديثِ، والغارقةِ في الغموض، وتعاني من أسقامِ الوجدانِ، وضلالِ الأفكار، فلسنا هنا بموقِعِ الجلاد الذي يحاكِمُ ويُصدر أحكامه.
لقد وقفنا منذ السنوات الأولى، منذ الثمانينيات على وجهِ التحديِد أمام كتاباتِ البنيويين العرب، أو الحداثيينَ العرب، بإحساسٍ ظلَّ حتى وقتٍ قريبٍ مزيجاً من الانبهارِ والشعورِ بالعجزِ.. العجزِ عن التعاملِ مع هذه الدراساتِ البنيوية، وفَهمِ أهدافِها، بل فَهمِ وظيفةِ النّقدِ ذاتِهِ في ظلِّ المصطلحاتِ النّقديّةِ المترجمةِ والمنقولةِ والمنحوتةِ والمحرّفةِ التي أغرقونا فيها لسنوات.. والتي كانت تبعدنا – وما زالت حتى اليوم – عن الأعمالِ الأدبيةِ موضوع المناقشة، بدلاً من أن تقرِّبَنا منها. فقد كنا نقفُ أمامها في عجزٍ كاملٍ عن فكِّ طلاسِمها أو شفرتِها. لقد ثَبُتَ أن هذه الأعمال لا تنتسبُ إلينا ولا تعانِقُ ثقافتنا وهويتنا، وهذا اللونُ من الكتابةِ يمكن أن نسمّيه (ضَحِكٌ كالبكاء) فما أن تقرأ تلك الطلاسمَ والألغازَ حتى تصابَ بنوبةِ ضَحِكٍ مُرٍّ، وبالتالي عندما يتباعدُ الأديبُ عن اللغةِ السهلةِ ويرنو إلى التَّعقيدِ والغموضِ واستغراقهِ الكاملِ في ذاتيّتهِ وتهويماته يصابُ العملُ الأدبيُّ بالقصورِ في الإيصالِ، على الرغم من أنَّ مهمةَ اللغةِ الإيصالُ، فتنشأُ حينها تلكَ الأسوارُ العاليةُ بين الأدباءِ وجمهورِهم، ما يُفْقِدُ الأدبَ ركناً أساسياً لهُ، بل هو الهواءُ الذي منهُ يتنفّس، وهو تفاعلُ الناسِ مع هذا الأدب، فيحيا في عزلةٍ تؤدّي إلى اندثارِ معناه.
وأخيراً لن نكون في هذا الهامشِ الثّقافيِّ ممن يجلدونَ ذواتِهم ويروِّجونَ (لثقافةِ القهر) على حدِّ تعبيرِ بعضِ المثقفين، لكننا عَمَدْنا لذلكَ من أجلِ تشريحِ هذا الواقعِ الصعبِ، ويبقى دائماً الدورُ الأهمُّ للناقِدِ والأديبِ والقارئِ المثقفِ، نريدُ فعلاً أن نخرُجَ من تلكَ الهوّةِ بمزيدٍ من الإنتاجِ والعملِ، وتأكيدِ الأصالةِ والدفاعِ عنها، وفي الوقتِ ذاتِهِ نقبلُ الآخرَ الثَّقافيَّ ونتعاملُ معهُ ونستفيدُ منهُ ونتحاورُ معه، وننقلُ الأدبَ من أبراجِهِ العاجِيّةِ إلى أذهانِ وقلوبِ الناسِ ليؤدّي دورَهُ المنشودَ دائماً في الإمتاع والانتفاع، وينقُلهم إلى مواقف جديدةٍ وأفكارٍ جديدةٍ وعوالمَ جديدةٍ تسكُنُها البهجةُ، كما تسكُنها الأوجاعُ، ويحرِّكهم نحو الأداءِ المتميِّزِ والمثمرِ في الحياةِ.