فضاءات فكرية

القيمُ والمبادئ المعيارية في أصولها وتطبيقاتها

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

عندما نتحدثُ عن المبادئ والقيم، يجب بداية التفريق والتمييز بينهما، فالقيم هي ضوابط السلوك ومعايير الفعل، وهي عبارة عن مجموعة الفضائل الدينية والأخلاقيات السلوكية الاجتماعية، ومنها منظومة الأخلاق التي تضبط تفاعل المجتمع وانضباطه في علاقات أفراده ببعضهم بعضاً..

فيُقال: الدِّين القيّم؛ أي المنهج المعتدل السامي الذي يحتكم إليه الناس في المجتمع، للتثبّت من الصواب والخطأ في أقوالهم وأفعالهم، لتجنّب الانحراف أو الخلل.. أي أن القيم هي معايير للحكم على السلوك؛ تتغير بتغير الظروف والمجتمعات والأفراد، ولكنها بالمجمل يجب أن تخضع في المضمون للمبدأ، وتتحرك في ضوئه وعلى هديه.. لأن المبدأ أساس ومحور ثابت يُبنى عليه غيره، ولا يتغير بتغير الظروف والأحوال.. والمبادئ تتجلى في قواعد وقوانين رئيسية ومنطلقات ومرتكزات جوهرية يتم اعتمادها كمرجعية للسير والفعل والعمل، وللأفكار والأقوال على مستوى الفرد والمجتمع.. وعلى عكس القيم، تتجلى المبادئ في الحقائق التي تتجاوز الفوارق الثقافية والفردية؛ لما تتمتع به من وضوح وثبات ذاتيّ، وكأنها تترسخ في عقلية الأفراد والمجتمعات.

وعلى الرغم من ذلك، هناك الكثير من الناس مَنْ يخلطُ بين المبدأ والقيمة، وبين من يمثلها أو يحركها أو يتبناها أو من يدّعي تبنّيها وتمثيلها.. أي أنهم لا يميزون بين الذات والموضوع وحركة التطبيق الفعلي.

وهذا الخلط قد يأتي في غالب الأحيان عن حسن نية بشكل غير مقصود، ليماشي حالة رغبوية أو نزعة ذاتية أو حالة تشوق جواني.. وقد يكون أحياناً مقصوداً فيأتي عن سوء نية وسابق تصوّر لإثارة الغبار في الطريق، والاصطياد في الماء العكر، أو لغاية أيديولوجية أو بهدف الثأر والانتقام الشخصي، أو قد يكون الفاعل هو نفسه غير مدرك تماماً لحقائق الأمور نتيجة قصر نظره، وغياب المدى البعيد للتفكير الحر والمتوازن، وتعطل بوصلة العقل والحكمة لديه..

إن المبدأ كغاية مثالية، وكنموذج فكري أو روحي مثالي، ينطلق من خلال حيثيتين أو أمرين مهمين، الأول المنشأ المثالي حيث المبدأ العالي والسامي الناتج عن الفيض العلوي الرباني، باعتباره هو أصل ونبع المبادئ، والثاني المنتهى البشري، حيث السعي نحو تمثل المبدأ على الأرض من قبل الناس.. إنها المبادئ الغايات الأخلاقية والصفات العليا التي يتطلع الفرد السوي في فطرته ووعيه للالتزام بمحدداتها وتطبيق مفرداتها في سلوكه وعلاقاته مع محيطه الاجتماعي، بالنظر لكونها تلائم فطرته وتناسب خلْقه وتتماشى مع غاية وجوده..

والله تعالى عندما قال في كتابه العزيز: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾]العنكبوت: 69[، ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾]الانشقاق: 6[، أراد أن يرشد الإنسان إلى أن هناك مبادئ عليا سامية مطلوب من الإنسان أن يسعى في سبيلها، ويجهد لتحصيلها وضبط مساراته الحياتية بالاستناد إليها.. إنها صفات جمالية إلهية المنبع والنشأة، أرشدتنا إليها كل الرسالات والنبوات، ولكن لا يمكن تطبيقها من دون جهد وكدح وتعب وسعي حثيث يقوم به الإنسان.. أي لا بد من جهاد النفس (الجهاد الأكبر) لتحقيق تلك القيم الجمالية والوصول إلى غاية الإيمان الحقيقي واليقين التام، بما يعني ضرورة التحرك على سبل أداء التكاليف والواجبات، وهذا دونه تعب ومشاق وصبر ومصابرة، إذ لا يكفي أن يقول الإنسان إنني مؤمن ليؤمن، لأنه يبقى عرضة للفتن والانحراف المفترض أنه لا يمكن مواجهتها إلا بالإيمان الحقيقي المبني على التزام ووعي ويقين تام.. فالطريق صعب ودونه جهد مبذول، وإخلاص منقطع النظير.. ونهايته تكون في الهداية الحقيقية، ﴿..لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا..﴾.. ولا يمكن الوصول إلى هذا المستوى والغاية النبيلة في تمثل قيم الله من دون جهاد ذاتي للهوى والنفس، وجهاد للغرائز والنزعات..

.. وفي حال عجزنا وفشل المجتمع أو الناس في الوصول الى تطبيقها الكامل، أو حدثت عثرات ومعيقات في الطريق، ليست من داخل القيمة، أو حدث خللٌ ما في طريق التطبيق، فهذا لا يعني أن القيمة – المبدأ صعبة المنال ويجب رفضها والتشهير بها، وعدم القبول بها أو السعي مجدداً لتحريكها في الواقع.

فمثلاً، عندما يتحدث الناس – سواء الآن أو في المستقبل – عن أهمية وضرورة تمثل قيمة الحرية والتحرر الفكري وغير الفكري في بلداننا، أو يدعون إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، ويطالبون بالمساواة بين الناس في كل شيء، ويسعون للوصول إلى تحقيق دول حضارية متقدمة ومتطورة ومزدهرة وووالخ.. هذه كلها قيم عظيمة ومبادئ حقوقية جاءت الأديان انطلقت النبوات لتركيزها في حياة الناس، تبقى لها معياريتها الكبرى الوازنة على كل ما عداها من مبادئ أخرى، لأننا نقيس بها كل شيء عملي إنساني.. فهي الأصل والقاعدة والأساس.. يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ..﴾]الحديد: 25[..

ولكن حقيقةً إن مشكلة كثير من الناس – ومنهم بعض المثقفين أو من هو في موقع وحالة “التثاقف الفكري” – أنهم ينظرون للنتائج والآثار فقط دون وعي وتحليل المقدمات ومناخات العمل وظروف التطبيق وآليات التنفيذ التي أدت إلى تلك النتائج السلبية والسيئة غالباً في مجتمعاتنا التي تعاني أصلاً ما تعانيه من مواريث صعبة معقدة متراكمة..

إن هؤلاء وأمثالهم يريدون الوصول إلى الهدف مباشرة بلا عناء ولا أثمان ولا بذل أدنى جهد، حيث يريدون كل شيء جاهز ومعلب ومسبق الصنع، كاللقمة الجاهزة، من دون تعب في الطريق، ومن دون أن يكلفوا خاطرهم ببعض التفكير في الواقع المعقد المعاش.. مثلهم في هذا كمثل من يريد قبض الثمن من خلال معاناة غيرهم.. أي من دون المشاركة مع الآخرين في دفع الثمن والمعاناة والألم الوجودي الشديد.. هذا الامر يذكرني بالآية الكريمة: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ ۗ أَلَآ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ﴾]البقرة: 214[. وآية أخرى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ..﴾]العنكبوت: 2[.

نعم، إن وجود المعاناة والمآسي وتفشي السلبيات والتعقيدات والمظالم، هذه كلها يجب أن ينظر إليها نظرة شمولية ومن زاوية أنها سنن كونية وتاريخية وحياتية طبيعية، حدثت في السابق، وستحدث دوماً، ولابد أن تحدث، ليمر بها أي فرد أو مجتمع أو أمة تسعى في طريق العمل والإنتاج وتغيير الحال والمواقع والأدوار.. إنها مجاهدات ومشاق تتطلبها مرحلة بناء النفس والذات، قبل الولوج في مراحل أخرى..

والمبادئ العليا هي الناظم في كل هذا المسير نحوه تعالى باعتباره هو أصل المبادئ العليا، ومنبعها الجوهري.. نتحدث هنا بطبيعة الحال عن المبادئ الأخلاقية والفضائل العليا الإلهية التي يتكامل الإنسان من خلالها ليصل للإيمان اليقيني، فيصبح صاخب مبادئ وقيم عظيمة وسامية..

وقد يتعرض إيمان الإنسان وقناعاته وتمسكه بمبادئه العليا للكثير من التحديات والمخاطر والاختبارات والابتلاءات والامتحانات في هذه الدنيا.. ولكنه يجب أن يصمد ويثبت، فلا مساومة على المبدأ، على الرغم من وجود كثير من الناس قد يخضعون ويستجيبون للضغوط والاغراءات.. وعلى الرغم من وجود قلة من الناس السائرة على طريق ذات الشوكة، طريق الحق والمبادئ العليا.. يقول الإمام علي(ع): “أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله..” (راجع: بحار الأنوار للمجلسي، ج67، ص107).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *