سوريا الجديدة.. أهمية التحول الديمقراطي والدستور الجديد
بقلم توفيق المديني
مع سقوط حكم البعث في سوريا الذي دام 62عاماً، تواجه السلطة الجديدة التي تولّت مقاليد الحكم في دمشق، بقيادة زعماء هيئة تحرير الشام بالإضافة إلى جماعات الفصائل المتحالفة معها، تحديات كبيرة..
لعل التحدِّي الفوري هو الحفاظ على النظام والأمن والخدمات الحكومية للمجتمع السوري بجميع مكوناته من دون أي إقصاء، وإعادة البناء السلمي لسوريا بعد أكثر من عقد من الحرب الأهلية أو جولات جديدة من القتال الطائفي الذي غذّته تدخلات القوى الخارجية، من خلال التحول الديمقراطي.
يعيش العالم منذ نهاية الحرب الباردة وسقوط المنظومة السوفياتية السابقة، إقبالاً متزايداً على الديمقراطية التعددية، التي شملت مناطق متعددة من العالم في أمريكا اللاتينية، وأوروبا الشرقية والوسطى، وآسيا وإفريقيا، ووصلت أيضاً إلى تركيا، وباكستان، وألبانيا، وإندونيسيا في العالم الإسلامي. ويمكن اعتبار هذه الظاهرة واحدةً من الأحداث الكبرى في التاريخ المعاصر حتى أنَّ الدارسين الأكاديميين يلقبونها بالموجة الديمقراطية الثالثة التي بدأت في عام 1989. وتتضح معالم هذا التحول الديمقراطي، في تزايد المطالب الشعبية باحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وبإضفاء الطابع الديمقراطي على مؤسسات الحكم والسياسة. ويؤكدها كذلك انهيار كثير من النظم التسلطية، والاتجاه المتزايد نحو الأخذ بنظم التعددية الحزبية.
أهمية التحول الديمقراطي في سوريا
ليس هناك شك في أن السياسة العقلانية والحكيمة التي تلقى قبولاً كبيراً من جميع أطياف الشعب السوري، بعد سقوط النظام الشمولي والتسلطي، هي سياسة التحول الديمقراطي، والتي تعني أساساً الانتقال من الشمولية والسلطوية إلى الدخول في مرحلة انتقالية حاسمة لإعادة بناء الدولة الوطنية السورية بعد عقود من الاستبداد.
تمثّل المرحلة الانتقالية فرصةً لإرساء أسس نظام سياسي جديد لا يتجاوز نظام الاستبداد الذي عرفته سوريا طوال أكثر من نصف قرن فحسب، بل يمنع نشوء أيّ نوع من الاستبداد أيضاً، ويستند إلى مبادئ الحكم الرشيد والمشاركة الشعبية واحترام حقوق المواطن وحرياته والتعددية السياسية والثقافية والدينية والمذهبية للمجتمع السوري.
فالمرحلة الانتقالية تعني التحرر من الأسس البنيوية التي يرتكز عليها النظام الاستبدادي التسلطي، وإرساء الأسس الجديدة التي يمكن أن تحمل بناء النظام الديمقراطي الجديد. إنها مرحلة حاسمة في تاريخ اية دولة تنتقل إلى الديمقراطية، لأنه يتعين قطع الطريق على القوى القديمة التي قد تستغل “سيولة” الانتقال السياسي في إعادة إنتاج النظام الاستبدادي، أو قد تفتح شهية قوى سياسية أخرى تريد أن تحتل مؤسسات الدولة، وتحل محل الأغلبية المستبدة، أو أن يفتح الباب أمام التدخلات الخارجية.
وتعني مرحلة الانتقال الديمقراطي، الانتقال من نظام تسلطي استبدادي إلى نظام ديمقراطي جديد. ويرى الخبراء العارفون بمراحل التحول الديمقراطي، أنَّ هناك عدة مسائل ينبغي تحقيقها في المرحلة الانتقالية:
أولاً- إصلاح القوة الصلبة أو الخشنة التي كان يقوم عليها الحكم الاستبدادي في سوريا، وهي في المقام الأجهزة الأمنية والأجهزة السياسية، ووضع أسس العلاقة مع المؤسسة العسكرية، بحيث تكون مؤيدة للديمقراطية بدلاً من أن تكون “حجر عثرة” في سبيل تحقيقها.
ثانياً- وضع قواعد لعبة جديدة من خلال وضع جملة من القوانين الأساسية التي تعزز التحول الديمقراطي في ظل سلطة مؤقتة، يمهد ذلك لتحقيق ما يمكن تسميته “الديمقراطية المستدامة”، التي تتمثل في وضع دستور جديد، وتحرير منظمات المجتمع المدني من هيمنة بيروقراطية الدولة الأمنية والمدنية، وإقرار تشريعات تعزز التنافسية بين القوى السياسية، وتأكيد حكم القانون، واستقلال مؤسسات العدالة، وتدعيم مؤسسات الرقابة والمحاسبة، وإصلاح المنظومة الإدارية للدولة، بحيث تصبح وكيلاً للمواطن، ومحل مساءلة من جانبه.
ثالثاً- إعادة بناء الجيش الوطني والإشراف على جمع السلاح، بما في ذلك من الفصائل المقاتلة، ودمج عناصرها في إطار الجيش الوطني الجديد.
رابعاً- إيجاد حكومة فعالة تُشعر الناس بانَّ هناك ثورة تواجه مشكلاتهم الأساسية في تحقق الحرية والعدالة، وتحوّل “الفوران الثوري العاطفي” إلى سياقات مؤسسية تعزّز المشاركة الشعبية الواسعة في بناء الديمقراطية.
خامساً- إقرار قوانين تعزّز منظومة الحريات السياسية، مثل حرية التنظيم، حرية العقيدة، حرية الراي والتعبير، حرية تداول المعلومات، والحريات الإعلامية.. الخ.
سادساً- التحصين ضد التدخلات الخارجية التي قد تجهض التحول الديمقراطي، ويتحقق ذلك من خلال بناء التوافق الداخلي، وتعظيم القدرات الاقتصادية، ومنع أية محاولات من شأنها إتاحة الفرصة أمام أطراف خارجية للتدخل من خلال “أطراف داخلية” في عملية تشكيل المجتمع الديمقراطي.
وهكذا، فإنَّ المرحلة الانتقالية يتعين عليها أن تشهد إرساء “قواعد قانونية تعزز الحقوق والحريات”، وتشكيل “حكومة فعالة تنجز التحول الديمقراطي”، و”قواعد لعبة جديدة تحقق المساواة والتنافسية بين مختلف القوى السياسية”، و”تصفية النظام القديم بالتخلص من بعضه، وتطوير بعضه الآخر، وإدماج بعضه الثالث”.
لا شك أن عملية التحول الديمقراطي في سوريا التي شهدت أزمات كبيرة، و سقط فيها النظام الشمولي التسلطي، لكي تنجح فيها عملية الانتقال إلى الديمقراطية المستدامة، فإن هذه تحتاج إلى اقتصاد قادر على النمو والتحرك، وإلى وجود دولة بالمعنى الحقيقي للكلمة، لا ماكينة دولة في المعنى الضيق للكلمة، بل دولة في معنى “النظام السياسي” يعبر فعلاً وموضوعياً عما يدور الخلاف حوله.
عملية الانتقال الديمقراطي في سوريا، تقتضي وجود نظام سياسي قادر على ممارسة الديمقراطية، وحتى يتمثل هذا النهج الديمقراطي فينبغي عليه أن يعتمد على عدد كبير من المؤسسات الاجتماعية والثقافية والسياسية تتضمن – وهذا شرط لا تستقيم المعادلة من دونه – معارضات سياسية ديمقراطية، ونقابات قوية، ومؤسسات المجتمع المدني الحديث. فقط بهذه العوامل يتم الحصول على الشرعية، أي على الحد الأدنى من مستوى القبول والمساندة اللذين يجعلان من النظام السياسي في هذه المرحلة الانتقالية نظاماً شرعياً، مهما كان عدد الانتقادات الموجهة إليه.
هناك عنصر إضافي آخر ضروري، هو الثقافة السياسية الديمقراطية الشديدة الصلة بالشرعية. وما هو مطروح هنا هو قدرة المواطن السوري على فهم آليات العمل الإداري ومشكلاته وأهليته على اختيار القادة السياسيين ومساندتهم، ثم مراقبة سلوكهم بانتباه. وهذا يفترض أن يتمتع المواطنون السوريون بثقة معينة في النظام، وأن يتفق الناخبون والمنتخبون على جملة قواعد أخلاقية، وأن يتشاطر الحكام والمحكومون مجموعة مبادئ ومثل عليا. هذه أهم الثوابت المثالية للنظام السياسي، الضرورية نظرياً لنجاحه.

مشروع الدستور وتأكيد الثوابت الوطنية للدولة
إنَّ أهم إنجاز يمكن أن يتحقق في مرحلة التحول الديمقراطي، هو وضع دستور جديد من قبل جمعية وطنية تأسيسية منتخبة، بوصفه عقداً اجتماعياً يُنَظِّمُ العلاقة بين الدولة ومواطنيها، ويهدفُ إلى إرساء قيم الديمقراطية وسيادة القانون والعدالة الاجتماعية، بما يضمن مشاركة جميع مكوّنات الشعب السوري في بناء مستقبلهم على أسس متينة وشاملة، ويفْرُضُ قيوداً على السلطة التنفيذية، ويُمَكِّنُ السلطة التشريعية من وظيفتي التشريع والرقابة، ويُحَقِّقُ استقلال القضاء، ويُعَزِّزُ حقوق وحريات الأفراد، ويُعَمِّقُ اللامركزية من خلال تمكين المجتمعات المحلية، والمشاركة الشعبية.
الصراع على الدستور في سوريا، مسألة قديمة جديدة، والسبب في ذلك يعود إلى النزاع المتعلق بدور الإسلام في الحياة العامة، في سوريا. فقد أثير في القرن الماضي، عندما امتد حكم الملك فيصل في دمشق من 1918 إلى 1920، وأثناء حقبة الانتداب الفرنسي. وتبلور لأول مرَّة في فترة الاستقلال في عام 1950 حول مشكلة الدستور. وكان المشروع المحرر حينئذ يتضمن المادة التالية:” لما كانت غالبية السكان السوريين مسلمة فإنَّ الدولة تعلن إخلاصها للإسلام ولمبادئه”. وقد أثارت هذه المادة انفعالاً شديداً في الأوساط العلمانية والليبرالية المسيحية والمسلمة، المشايعة لإزالة الحدود الطائفية في الحياة السياسية وفي الدولة، هذه العناصر حاولت – بلا طائل – القيام بالضغط لسحب هذه المادة من المقدمة وإحلال صيغة تسوية محلها بأنَّ الإسلام دين رئيس الجمهورية فحسب. وكانت مقدمة الدستور هذه، عام 1950 تمثل أقرب صيغة دستورية لتصور بلدان عربية أخرى حيث يعلن بأن دين الدولة هو الإسلام، تبنتها سوريا. ولم يكن دستور الجمهورية العربية المتحدة في أيام الوحدة المصرية – السورية (1958-1961)، الذي نادى بأن دين الدولة هو الإسلام، نصاً سورياً، حقيقة.
وكان دستور البعث المؤقت سنة 1964 قد احتفظ بصيغة التسوية التي تحدد بأنَّ الإسلام دين رئيس الجمهورية والمستبدلة أحياناً، أو ترافقها صيغة تنص على أن الفقه الإسلامي أهم مصدر للتشريع. وقد أسقط مشروع دستور عام 1973، بدوره، التنويه المتعلق بانتماء رئيس الجمهورية للإسلام، وسنّ أنّ “الجمهورية السورية دولة ديمقراطية شعبية، اشتراكية”، ولم يتخذ الرئيس حافظ الأسد القرار بالعودة إلى إدخال المادة المتعلقة بدين رئيس الجمهورية إلا بعد أن انفجرت مظاهرات عنيفة في حماة، أمام مكتب فرع حزب البعث (20 فبراير 1973)، ولم تأت مكانها هذه المرّة من المادة الثالثة، وإنما وردت في المادة 157. وكانت تلك المظاهرات من فعل القيادات المسلمة التقليدية، يقودها فقهاء دين ومفتون وقضاة وموظفون دينيون، يدعمهم الإخوان المسلمون، ويشعرون بطابع الدستور “الإلحادي” وإدخال التنويه المتعلق بدين رئيس الجمهورية.
في سوريا، كانت الأكثرية المسلمة تطالب بأن يمنح الدستور رسمياً مكان دين الدولة للإسلام، كما كان الحال في دساتير العراق، ومصر، والأردن، والمملكة العربية السعودية، وليبيا. وما كانت قد حُذفت ثم أعيد إدراجها – وهي الصيغة المتعلقة بدين رئيس الجمهورية – كانت الأكثرية تعتبرها حدّاً أدنى.
وعلى النقيض من ذلك، كانت مختلف الأقليات، من مسيحيين وعلويين ودروز يعارضون هذا الاعتراف الرسمي، الذي يكرس، إذا صح القول، على الصعيد الرمزي، عدم مساواة سياسية – اجتماعية بين الطوائف. فالسعي إلى رمز ذي هدف مساواتي كان ركناً أساسياً لعملهم السياسي. بيد أن الدستور وحده لا يكفي لاكتساب الدولة المشروعية المطلوبة، بل تصبح المشروعية حقيقة مقبولة حين تتعزز وثيقة الدستور بالاحترام وتحاط بالشروط الكفيلة بضمان صيانتها، أي حين تتحقق الشرعية الدستورية.
خاتمة
في ظل هذه المرحلة الانتقالية الصعبة والمعقدة التي تشهدها سورية، تقتضي العقلانية السياسية والحكمة من جانب السلطة الجديدة في دمشق، الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني يَضُمُّ ممثلين عن كافة مكونات الشعب السوري ومختلف القوى السياسية، بما في ذلك الأحزاب، والجمعيات غير الحكومية والأهلية والاتحادات، والنخب الفكرية والأكاديمية؛ ويهدف المؤتمر إلى توحيد الجهود الوطنية ورسم ملامح بناء دولة مدنية حديثة تحافظ وتحمي جميع أعضاء المجتمع بغض النظر عن القومية والعرق والدين والمعتقد. هناك عدة مبادئ ينبغي توافرها في الدولة المدنية والتي لا يمكن ان تتحقق بغياب أحد الشروط عنها، أهمها:
1- الدولة المدنية هي الدولة التي تؤمن حرية المعتقد والمساواة والمواطنة، فالفرد لا يُعرّف بمهنته أو بدينه أو بماله أو بسلطته، ولكن يُعرّف تعريفاً قانونياً بأنه مواطن، أي أنه عضو في المجتمع له حقوق وعليه واجبات. وهو يتساوى فيها مع جميع المواطنين.
2- الدولة المدنية يجب أن تقوم على دستور ومنظومة من القواعد التشريعية والتنفيذية، فالدستور يبلور جملة القيم والأسس التي ارتضاها أفراد المجتمع لبناء نظامه السياسي والاجتماعي.
3- الدولة المدنية هي أيضاً دولة مؤسسات، وتقوم هذه المؤسسات على مبدأ التخصص فهي تمارس أعمالها بشكل مستقل وفق ما يعرف بمبدأ فصل السلطات، بحيث تقوم كل سلطة بممارسة مهامها ضمن مجالها المحدد ولا تتجاوزه الا في حدود ما تقتضي ضرورات التعاون والتكامل بين هذه السلطات. إذ أن السلطة العليا في الدولة المدنية هي سلطة القانون الذي يلجأ إليه الأفراد من أجل حفظ حقوقهم من الانتقاص والانتهاك. فالدولة هي التي تطبق القانون وتمنع أي طرف من تطبيق أي شكل من أشكال العقاب بأنفسهم. النظام العام هو الذي يحمي المجتمع.
4- الشرط الأساس لقيام الدولة المدنية المطلوبة اعتماد الديموقراطية كنظام سياسي لها، وأهم شروط النظام الديموقراطي تقوم على فصل السلطات والانتقال السلمي للسلطة، والوصول الى الحكم من طريق انتخابات حرة ونزيهة.
5- من المعالم الأساسية للدولة المدنية وجود مجتمع مدني فاعل ومؤسسات مدنية فاعلة للنهوض بمستوى الوعي السياسي لدى أفراد المجتمع والمساعدة في فهم الواقع السياسي والاجتماعي فهماً صحيحاً والمشاركة في بناء مؤسسات ديموقراطية وممارسة الرقابة عليها من خلال التنظيمات المدنية المختلفة والوسائل الإعلامية والرقابية المتاحة. الدولة المدنية هي استعادة حقيقية لبناء الدولة الوطنية والارتقاء بها إلى دولة ديمقراطية، أي إعادة إنتاج الدولة الوطنية الحديثة، دولة الحق والقانون المعبرة عن الكلية الاجتماعية والقائمة على مبدأ المواطنة. وتشكل سيادة الشعب، العامل الحاسم في سيرورة التحول الديمقراطي في نطاق الدولة الوطنية.