دولة العدل وشؤون الحكم العادل في فكر وسلوك الإمام علي(ع)
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
أحاديثٌ واسعة دارتْ وتدور حول أهمية الحقوق وعلى رأسها العدالة في كثير من مواقع بلداننا ومجتمعاتنا هذه الأيام خصوصاً مع سقوط أنظمة وصعود أخرى، حيث تجدهم يطرحون ويقدمون فيها أفكارهم وتجاربهم في وعي هذه القيمة الحقوقية الإنسانية العليا..
ولكن عندما نتحدث حقيقةً عن فكرة العدل وقيمتها كحق إنساني تتطلبه أصل فطرة الإنسان التي فطر الله تعالى عليها الإنسان، لا بد أن نتحدث ونمر بوعي ومسؤولية وتأمل على تجربة أمير المؤمنين الإمام علي(ع) في السّلطة السّياسية، على قِصر مدتها التي دامت بضع سنين، والتي قدم فيها –كرئيس الدولة وقائد المجتمع خلال فترة حكمة خليفة للمسلمين- نموذجاً مثالاً حقيقياً صارخاً على ما يمكن أنْ نسميه بدولة العدل والحق والمساواة.. دولة الإنسان والكرامة الإنسانية.. دولة الحاكم (المواطن) الذي يعيش مثل عيشِ أي فرد وإنسان في دولته ومجتمعه.
فالإمام علي(ع) جاء إلى الحكم مكرهاً لا قابلاً كما نعلم جميعاً.. أتى زاهداً لا طالباً، أي لم يكن مهتماً بمغريات السّلطة ونعيمها وما فيها من سلطان، ولم تجذبه إغراءات المال والدنيا، بل زهد فيها حتى الرمق الأخير، وهو الذي قال فعلاً (لا خطاباً أو شعاراً): “يا دنيا غرّي غيري، إني طلقتك ثلاثاً..”
ولأنه كانَ رجلَ مبادئ، أحاطتْ السلطة به، وجاءت إليه راجية طالبة، وطوقته رجالاتها من كل اتجاه دونما أنْ تؤثر على قيمه وقناعاته الفكرية والسياسية الراسخة القائمة على حكم القيمة، وأصالة الحقو الإنسانية، وضرورة تأسيس الدولة على قيمة ومنطق العدل، كونها المدخل الضروري للتصدي الحقيقي لأعباء الحكم ومقتضيات السلطة على الناس دونما اعتداء أو قهر أو تسلط.
نعم، أساس الحكم عنده(ع) هو أنْ تكون القيمة والمبدأ الأخلاقي الحقوقي قاعدة البناء السياسي والمجتمعي العام في كل المجالات والمستويات، في البيت والمجتمع والعمل، وخاصة على مستوى تحديد مسؤوليات الحكم في الدولة بكل مواقعها.
لقد كانت قيمة الإمام علي(ع) في ذلك كله، أنه لم ينشغل بالسّلطة، ولم تكن هاجسه، ولم تشكل شيئاً له قيمة عنده، بل السلطة ورجالاتها هم من انشغلوا به كما قلنا.. ولهذا نجح في بناء بعض مقدّمات دولة الإسلام والإنسان، كدولة قادرة على العطاء والدوام والثبات.. ويمكن ملاحظة هذا من خلال أمرين اثنين:
1-النّظر والتّدقيق في عهده (عليه السلام) إلى واليه أو عامله على مصر، مالك الأشتر النخعي (وهو كان أحد قادة جنده الأوفياء والمخلصين).. فهذا العهد أو العقد الاجتماعي (ولا مجال للخوض فيه هنا، وإنما للإشارة إليه لمن أراد العودة) عقدٌ سياسي اجتماعي إنساني مدني مبدئي رفيع، صاغه إمامنا عليه السلام قبل العقد الاجتماعي لفيلسوف علم الاجتماعي الغربي “مونتسكيو” بمئات السنين.. وفيه الشيء الكثير من الفاعلية الفكرية والعقلانية العملية لبناء أسس الدولة العادلة والقوية والقادرة..
2-ما فعله مع فئة الخوارج، وهي الفئة الضّالة والمنحرفة، وصاحبة التفكير الجامد والحرفي الظاهري للدين، وهم أيضاً الذين تسببوا بقتله واستشهاده على يد أحد قادتهم وهو “عبد الرحمن ابن ملجم”.. حيث أنه(ع) لم يظلمهم أو يحاصر فكرهم رغم انحرافه ونقيضيّته مع الإسلام الحقيقي القائم على الإيمان والقيم الإنسانية وأصلة الحقوق الفردية في بناء الدولة العادلة.. بل عاملهم ثقافياً وسياسياً واجتماعياً كأفراد مواطنين مسلمين، لم يصادرهم ولم يمنعهم ولم يواجههم، معتبراً أن لهم كامل الحقوق في الدعوية الفكرية والاجتماعية وبالاجتماعات ورفع الشعارات (يعني بكل شؤون ومقتضيات العمل الحزبي) التي ينشدونها سلكياً، تحت مظلة الدولة وقانونها، طالما أنهم لم يرفعوا سيفاً في وجه الدولة والمجتمع، ولم يرهبوا أفراده وأبناءه.. حيث أنهم كانوا يرفعون شعارات النقد له (عليه السلام) وللدولة التي هي بقيادته، ومن أوسع الأبواب.. كانوا يقولون ما يريدون قوله، ويجتمعون علناً، ويخوضون في كل الأحاديث المناوئة له(ع)، وضد دولته وضد حاكميته كقائد ورئيس وإمام، بالمنطق النصوصي المتعصب والأجوف والمتبلّد والمتكلّس حتى بمناخ ورؤية ذلك الزمان، ولكنه(ع) رغم ذلك كله، لم يقاتلهم ولم يستخدم العنف ضدهم، إلا عندما سلكوا طريق العنف والدم وأوغلوا في القتل والتدمير، ومشوا في طريق الخراب، وصادروا مواقع المجتمع والدولة التي هي ملك عام لكل الناس.. عندها فقط تصدى للهمجية الفكرية والعصبية العنيفة، وأسقطها في مهدها قبل أن تدمر وتخرب الدولة وتحول المجتمع إلى ساحة قتل وتصفيات وتفكك عام.
من هنا الفكرة (حيث أن الماضي لا يعود ولن يعود، وليس مطلوباً منه أن يعود وأن نعيده نحن بعد مئات السنين) وهي:
– أن الحكم (أي حكم في أي زمان ومكان) لا يقوم ولا يبنى ولا يستقر ولا يدوم إلا بالعدل والحرية والتحقق الفعلي لكرامة الإنسان، وتقبُّل الحكم القائم للمشورة والنقد والمحاسبة والمساءلة، مساءلة الحكم والحاكم وآليات الحكم وشخوصه ورموزه مهما علوا وارتفعوا وتساموا.. فهل هناك قدسية وسمو ورفعة أعلى من رئيس الدولة آنذاك الإمام علي(عليه السلام) الذي تقبل النقد الذي وصل حدوداً ذاتية في اتهامه والتقليل من شخصه؟!!..
– إن الحاكم ينبغي أنْ يُلْزَم (ويلتزم) قانونياً ودستورياً وحقوقياً بأنْ يكون منشغلاً فقط بمصالح الناس ساعياً في طريق تأمين عيشهم وأمنهم، ومتطلبات وجودهم وكل احتياجاتهم، وأنْ يضحي بالغالي والنفيس في سبيل ذلك، حتى بحياته، إحقاقاً للحق وتنفيذاً لمبدأ العدل بين الرعية والمواطنين.. أي أنْ يقدّمَ نموذجاً عملياً حقيقياً للقيم التي يتقوُّلها وينادي بها؛ لا أنْ يكون مجرد رجل شعارات وخطابات دونما وعي وتطبيق لها لا يهمه سوى الكرسي والنفوذ والنهب والتسلط على رقاب العباد وموارد البلاد كما هي حالة كثير من حكامنا وقياداتنا في هذا العالم العربي… وأنْ يمتلك أيضاً مواصفات ومزايا وأخلاقيات قيمية ذاتية من: التربية الصالحة، والمنبت الأخلاقي، والوعي العقلاني، والرشد الفكري، والمسؤولية الحقيقية، والقلب الكبير، والصبر والمصابرة، وجمالية الخُلُق، والحُلم الكبير، وسعة الصدر، وتقبُّل الآخر، والتعايش مع المختلفين والأغيار، والحرص على أرواح الناس وممتلكاتها، وفعل كل شيء من أجل رفعتها وسموها، وتحقق تقدمها وتطوير واقعها، وووالخ.
فهذا علي(ع) (على قدسيته وعظمته وعلة شأنه) كانَ رجلَ مبادئ وحقوق بالتطبيق لا بالشعارات والخطب والكلمات المنمقة.. كان ينفتح على كل من كان ينتقده برحابة صدر، ويتقبله بأريحية وابتسامة وجدية ومسؤولية الحاكم العادل في التنفيذ على نفسه قبل غيره.. فأين غيره منه(عليه السلام) وهو أمير المؤمنين، وابن عم الرسول الكريم(ص) وزوج ابنته ووالد السبطين الحسن والحسين(ع)… أين هؤلاء جميعاً منه؟!!..
لقد قدّمتْ تجربة علي في الحكم واقعاً سياسياً مميزاً للحاكم العادل، ورفض الحكم بالقوة والمزاج ورفض الآخر..
واليومُ –بطبيعة الحال- ليس مطلوباً نَقْل التجربة حرفياً، ولا العيش فيها زمناً مضى.. فهي ذهبت في غياهب الزمن، ومسؤوليات الناس فيه، ولن تعود كما سلف القول… وإنما المطلوب، الوقوف الإيجابي والتأمل المثمر وأخذ العبر والدروس من تلك التجربة الغنية، وهي من تجارب (تاريخنا الحضاري والثقافي الإسلامي، وليست من تجارب الآخرين الذين تُهنا فيهم، ونسينا كثيراً من جماليات تاريخنا وخبراته القيمية الحقوقية الراقية)، خاصة على مستوى التمعّن الموضوعي في فكرة المسؤولية وقضايا الحق والواجب، والوقوف الواعي أمام معنى الحكم كرسالة عدل لا كمهنة ووظيفة، وكمسؤولية لا كامتياز، وكتكليف قانوني، لا كتشريفٍ ذاتي أو تكريمٍ شخصي كما هو واقع وقائم اليوم للأسف.. وبالأساس سمّيتْ المسؤوليةُ “تكليفاً” لأنها مسؤولية جسيمة ودرجة تحملها المعنوية القيمية ثقيلة، لأنها أمانة كبيرة (تنوءُ تحتها شامخات الجبال) ملقاة على عاتق حاملها، حتى يحققها وينفّذها أو يَتْرُك..!!..
نعم، لقد عكست تجربة الإمام علي(ع) في الحكم والخلافة ورئاسة الدولة، الصورة الحقيقية الواقعية لما يريده الإسلام من تطبيق قيم وحقوق ونظم شؤون المجتمع والأمة، وإقامة صرح الدولة الإسلامية الحقّة على مبادئ إنسانية رفيعة، ما يجعل منها تجربةً رائدةً وفريدة ونوعية في واقع الحياة والإنسانية جمعاء، خاصة على صعيد تمثّل قيمة العدل بالذات التي كانت علّة ودافع إرسال الرسل والرسالات وإنزال الكتب السماوية، يقول عز وجل تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[الحديد: 25].
فــــــــ: سلامٌ على أمير المؤمنين الإمام علي(ع) يوم ولُد، ويوم استُشهد، ويوم يُبْعث حياً..