الإعلام الغربي.. صناعة الأزمة والحرب النفسية
بقلم غسان عبد الله
يبدو الإعلام – في يومنا هذا – سلاحاً أمضى في ترسيخ الحقائق، أو قلبها، وتتسيد أمريكا، بما تملكه من إمكانات، عصر الإعلام هذا. ومبتغى الكلام هنا أن التطور التكنولوجي والسعي الأمريكي للتفرّد أصبح ضرباً من العبث…
لكن ينبغي أن ندقق؛ أن الولايات المتحدة قد سخّرت هذا التطور في فضاء الهيمنة، ومدِّ الذِّراع العسكرية لها في العالم بغية بقائها متحكمة بالقرار الاقتصادي، وهي تفشل إلى حد كبير أمام النهوض الاقتصادي العالمي… ولتخرج من دائرة الخناق الذي يضيق عليها فإنها تطل برأسها متسللة؛ لاقتناص ”بروباغاندا” بقاء العالم تحت رهاب ”الإرهاب” أو لنقل توسيع دائرة التخويف المضلل؛ لتبقى قادرة على تسويق أفكارها، وحماية مصالحها وحلفائها.
وتُعدّ البلدان العربية اليوم من أكثر الدُّول تعرُّضاً للحرب الإعلامية؛ فقد تحالفت قوى عديدة على ضخِّ موجةٍ كبيرةٍ من المواد الإعلامية للتضليل على الواقع العربي، واستحداث مصطلحات ومفاهيم عنه؛ لا تنسجم وحقيقته، وتطالعنا يومياً وسائل إعلام مختلفة بمواد؛ تهدف لتزييف وعي المتلقي في الخارج والداخل بمفاهيم مختلقة عنه، وترسيخ مشاعر الخيبة والهزيمة في نفس المواطن العربي، والتشكيك في أهمية ماضيه وآفاق مستقبله.
وعادة ما تستخدم الدول الكبرى إعلام صناعة الأزمة والحرب النفسية كأسلوب لتنفيذ استراتيجياتها الكبرى في الهيمنة، والسيطرة على العالم، وتأكيد قوتها، وفرض إرادتها، وبسط نفوذها، وتحقيق أهدافها الخفية طويلة المدى؛ التي لا تستطيع الإعلان عنها وهذا ما تفعله الولايات المتحدة في بلدان العرب.
تعتمد إدارة الأزمات السياسية المصنعة على تقنيات التضليل الإعلامي، وهو ما يطلق عليه الخبراء عمليات الدعاية السوداء، القائمة على ما يسمى بناء القوام التراجيدي، أي جعل السرديات أكثر تماسكاً وغير قابلة للافتضاح، وكذلك توظيف المعاناة، بتضخيم المقاربات بشكل تحمل فيه المستهدف بالدعاية السوداء المسؤولية عن المعاناة المفترضة، ويتم فيها أيضاً توظيف التباينات باستخدام عمليات التنميط الإثني والقبلي والثقافي وغيرها، كما أنها تستثمر التزوير بشكل واسع، سواء عن طريق المونتاج، أم من خلال المواد والوثائق المزيفة واستخدام شهود الزور، كما يؤكد الخبراء، وكما يحصل في إدارة الإعلام المغرض لما يجري في الوطن العربي.
ولمعرفة هذه الحقيقة فإن من خططَ للسيطرة الاستعمارية على العالم العربي بشكل خاص، وضع الإعلام في قمة أسلحته وفوق بقية الأسلحة الحربية المتنوعة؛ لأن التحكم في ردود فعل الرأي العام يشكل أحد شروط شن الحروب الكبرى لفرض الهيمنة الصهيو/أمريكية، وتحقيق رغبتهم الكبرى في “شرق أوسط جديد!!”؛ وفق معايير الأصولية اليهودية، والتكفير الوهابي لمسح الآخر، والسيطرة على ثروات العالم.
ومن هنا تكمن العلاقة المأزومة بين نظام عالمي قمعي وآخر، وبين تلك العلاقة التبادلية بين موت الأخلاق، وبؤس النظام العالمي (المتحضر)؛ الذي أدخل المجتمعات البشرية في دائرة الشك والفوضى والعبث والدوران حول قطب واحد؛ لأن القوة في القرن الواحد والعشرين لن تكون في المعايير الاقتصادية أو العسكرية، ولكنها تكمن في خزائن المعرفة، وخطورة الأمر تكمن فيمن يمتلك أدوات هذه القوة؛ لتحقيق مآرب وأهداف خاصة لنشر معلبات إعلامية جاهزة، وغسل عقول البشر؛ للتحكم بهم، واستغلالهم لأهداف اقتصادية أو سياسية أو أيديولوجية.
فمع نهاية القرن العشرين وبداية الواحد والعشرين، تبلورت في الغرب آلية كاملة لتحوِّل وسائل الاتصال الاجتماعي، إلى مجمع أطلقت عليه تسميات مختلفة، إلا أن أكثرها دقة تلك القائلة بوجود ”إمبريالية إعلامية” مركزها الولايات المتحدة، ولها فروعها في مختلف دول ومناطق العالم، وتتماهى هذه الفروع مع المركز الأم لدرجة التطابق، إن كان في أساليب التضليل أم الأهداف، والفروع تخدم المركز، وأخطر تطور بهذا الصدد، أن المجمع الصناعي العسكري الأمريكي؛ الذي يشكل رأس المال اليهودي ما نسبته 25% من تمويله الإجمالي إضافة إلى ما تمثله الرأسمالية اليهودية من وسائل إعلام متطورة في أمريكا، تصل سيطرتها على نحو 72% من مجمل وسائل الإعلام.
وتنفق أمريكا على الدعاية الخارجية نحو 6 مليارات دولار سنوياً، وتنظم عملية الإنفاق وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وتموِّل مئات المجلات والصحف والفضائيات في مختلف أنحاء العالم وبأكثر من 20 لغة. وتقوم الدوائر والأجهزة الإعلامية التابعة لمراكز القرار، بإيجاد صلات نفعية ورشاوى وشراء ذمم صحفيين ومثقفين وقادة بعض الجمعيات واللجان التي تطلق على نفسها إما لجان حقوق الإنسان، أو ”المجتمع المدني”، وتنظيمات أخرى مكونه من ذوي النفوذ في أحزاب ووسائل إعلام تقوم بعملية التأثير في المحيط الاجتماعي المحلي في البلدان النامية.
ويكوّن المركز مع الفروع إمبراطورية إعلامية مترامية الأطراف جاهزة للعمل على مدار الساعة؛ لخدمة المخططات العدوانية للبيت الأبيض والبنتاغون ومخططات الحركة الصهيونية وإسرائيل المتغلغلة في أجهزة الإعلام الأمريكي على الساحة الدولية، ولتنفيذ هذه المخططات تعمل لتشويه الوعي العربي والإسلامي، وإحلال بدائل وهمية مشوقة محل الوقائع الفعلية، ودفع المجموعات المتأثرة أو المرتشية إلى السلوك المطلوب ميدانياً، وخلقت من نمط التفكير والحياة الاستهلاكية إلى أن هؤلاء جاهزون للحصول على المال ولو كان ثمناً للانتماء الوطني.
الملاحظ من خلال هذا السلوك تحويل انتباه الرأي العام العربي عن مشكلة الأمّة، وتبديل هوية الصراع العربي الصهيوني؛ ليصبح صراعاً عربياً – عربياً أو عربياً – فارسياً، ثم العزف على الوتر الطائفيّ، ثم تشجيع الإرهاب في بعض الدول العربيّة؛ عبر خلق بؤر إرهابية ومدّها بالمال والسلاح، وتبرير إرهابها تحت أبواب المطالبة بالحريّة والديمقراطيّة، ومن ثم سياسة الإفقار المتّبعة من قبل العديد من الأنظمة العربية تجاه مواطنيها وتفشّي البطالة والفساد، هذا إلى جانب الاستهتار بالشعوب واعتبارها غير قادرة على تقرير مصيرها بنفسها، أو التشكيك بقدرة الإنسان العربي على اقتراح الحلول لمشكلاته عبر تصويره بأنه إنسان يفتقد المبادرة والذكاء.
وبالطبع من الصعب أن تجد آثار الغزو اليومي تأثيرها دون توفر عنصر رئيس؛ وهو وجود الجسور المحلية الإقليمية والداخلية للغزو في البلدان الأخرى، فالأنظمة السياسية التابعة للمراكز الاستعمارية الغربية والأمريكية، تقوم بعملية الترويج للغزو الإعلامي، وتصوغ مؤسساتها الإعلامية والثقافية وفق مضمون الغزو الامبريالي الإعلامي، ووسائل الإعلام المحلية التي تقوم بعملية الضخ اليومي لبرامج المركز الغربي، تحاول إعطاء وسائلها طابعاً ”محلياً” وتدّعي الحيادية والموضوعية بهدف زيادة التأثير من خلال الاندماج والتماهي.
بينما نجد في برامجها الإخبارية عملية تشويه الأحداث بصورة فظيعة، يمتزج فيها الكذب بالحقيقة، وفي حالات معينة يكون الحدث صحيحاً، وينقل بصورة تشبه الحقيقة، ولكنها تأخذ في مجمل الوضع؛ لتصبح مشوهة في نهاية الأمر وبالتالي يحصل المتلقي على معلومات غير صحيحة وكاذبة، المهم أن يدفع لسلوك منسجم مع المعلومات المفبركة.
هي إذن تكنولوجيا صناعة الموت والقتل… وقد خبرنا كغيرنا تلك الصورة البشعة… ولن تبيّضها كل أفلام هوليوود… فالعالم استيقظ ويصنع ثقافة كونية إنسانية بعيداً عن الكاوبوي، ورصاص مسدسه الذي لا يفرغ.