بناء الدولة الوطنية بين الطائفية السياسية والهوية الحديثة
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
يتمُّ بين وقت وآخر – خصوصاً عند المنعطفات السياسية والتحديات المصيرية التي تمر بها بعض دولنا – إعادة الحديث والتركيز على ما يسمى بهيكل الدولة الوطنية وضرورة الدولة المدنية كخيار خلاصي لبناء وتأسيس ركائز قوية تسهم في تطوير مجتمعاتنا ونهضتها وازدهارها..
ولا شك أن الدولة الوطنية بما هي تشكيل وكيان سياسي حديث ضروري وحيوي لحياة الناس، يقوم على الانتماء النهائي لقيم هذه الدولة التي تختزن في داخلها معاني المساواة والعدل والحقوق.. لتكون دولة كل مواطنيها دون تمييز بينهم على أساس الدين أو العرق أو الجنس أو المستوى الاجتماعي أو المذهب أو أي تباين في أي من الصفات الاجتماعية والسياسية والثقافية والتاريخية.
ولعل من أهم المشكلات السياسية والعملية التي تواجه عملية تأسيس وتركيز هذه الدولة في مجتمعاتنا المتنوعة، بروز إشكالية الطائفية السياسية، مع أن طبيعة هذه الدولة الوطنية (المدنية) أنها تأتي كخيار خلاصي راسخ ومتين لكل تعددياتنا التاريخية والثقافية والجهوية وانتماءاتنا التقليدية.
من هنا يجب الوقوف على المعنى الحقيقي الواقعي للطائفية في إبعادها – أولاً – عن التسييس والاستخدام، والتمحور حول الرهانات الأيديولوجية الخلاصية، وفي فصلها – ثانياً – عن الارتباطات الأقلوية المختزنة للعصبية المفتعلة للأزمات، من حيث كونها (أي الطائفة) مسألة ذات بعد ديني فقط، تتصل بالمعنى التاريخي، في عنوان الحضور الديني الخاص بهذا الانتماء المذهبي أو ذاك على مستوى السعي لتثبيت الوجود والمقولات والمعتقدات الخاصة بهذه الطائفة أو ذاك المذهب. وهذا الرهان العقلاني لا يمكن أن يصبح خياراً واقعياً إلا تحت سقف ما نسميه بالدولة المدنية الوطنية، وفي ظلال ما تقوم عليه من قيم الحرية والسلام الاجتماعي والتعددية السياسية، لتكون دولة المواطنة والحكم الصالح، دولة القانون والحقوق والعدل والمؤسسات.. وهي مقاصد ليست بعيدة في العمق عن الغاية الإسلامية من تشكيل مفهوم الدولة ذاتها، على الرغم مما تثيره صفتها “الإسلامية” من هواجس وإشكالات لدى الكثيرين..!!.
لقد تأسست الدولةُ الحديثةُ كأهم ظاهرة تاريخية اجتماعية عرفها البشر، على فكرةٍ جوهريّة هي فكرة التّعاقد الاجتماعي، والتوكيل السياسي، حيث تقوم العلاقة بين مكونات الدولة الوطنية على أساس “عقد مواطنة” يرتب حقوقاً للفرد في قيم المســاواة وتكافؤ الفرص والعدالة والأمن والحريات، ويرتب أيضـاً على الفـرد (المواطن) واجبات تجاه الدولة وتجاه غيره من المواطنين.. ومفاد ذلك عملياً في سياق تطبيقات الدولة، أنّهُ حتى تسير الدولة بصورة طبيعية منتجة وفعالة لتحقيق مقاصد الفرد الكبرى في الحرية والعدالة، ودفع الناس طوعياً للمشاركة الفاعلة والمنتجة في تحقيق النظام القانوني العام، لابد لهم (للناس) من إدارة شؤونهم عبر التعاقد (الانتخاب)؛ ومن أبرز معانيه أن يتخلى “الفرد – المواطن” عن حقّه في استخدام العنف في المجتمع لصالح قوننته ضمن مؤسسات الدولة وهياكلها الإدارية التي يجب أن تعمل على بناء نظام علاقات مواطنة في المجتمع بين أفرادها ومجتمعاتها بعيداً عن الدين والتسييس الديني والتدخل في الشؤون الدينية للناس، أو العبث بمعتقداتهم وطوائفهم، وبعيداً عن التلاعب بانتماءاتهم الثقافية وغير الثقافية..
ولكن الواضح تاريخياً أنّ الدولة التي تأسست في مجتمعاتنا العربية، كانت دولة العنف والغلبة والإخضاع، ونعني بها بالذات الدولة القومية والتحديثية العربية التي استثمرت في كل شيء لضمان بقائها وهيمنتها، حتى في الموضوع الديني، حيث حاولت الربط بين الطائفية من جهة وبين وجود مذاهب دينية متعددة من جهة أخرى، مع أنّ الحقيقة تقولُ بأنه لا رابط بينهما، ولا رابط أيضاً بين الطائفية وبين وجود مشاعر انتماء قوية تشدّ الأفراد إلى طوائفهم أو عصبياتهم القبلية، حيث أن محبة الإنسان لقومه وقبيلته وأهله وناسه هي حالة طبيعية للغاية، حتى على صعيد وجود تضامن ديني قوي بين الأفراد. فهذا هو الوضع السليم والطبيعي في كل المجتمعات البشرية. فالمجتمعُ مكونٌ من جماعات مصالح أو انتماء أو اعتقاد.. حيث أنه من الطبيعي جداً أن يشعر كل فرد بتعاطف أكبر مع الأفراد الذين يشاركونه المصلحة أو العقيدة أو الثقافة أو الموقع الاجتماعي الذي يحتله. ومن دون التضامن والألفة الخاصة الذين يجمعان بين أفراد جماعة واحدة لن يكون هناك أي معنى ولا مضمون للحياة الاجتماعية أو للتجمعات الأهلية. ينطبق هذا على مستوى الجماعات القومية الكبرى كما ينطبق على الجماعات الفرعية داخل هذه الجماعات القومية.
إننا نعتقد أن نمو بذور الطائفية والعلاقات الطائفية، ومحاولات تجييرها واستغلالها، في مجتمعاتنا العربية والإسلامية عموماً – كعصب جماعاتي ضمن الدولة، أية دولة متنوعة – له أسبابه السياسية والاجتماعية القارة في صميم وصلب البنى المؤسسة للدولة الحديثة.. فالدولة التي تنمو (وتتشابك) فيها العلاقات الطائفية العصبوية (متحوّلة لما يشبه التنظيم السّياسي “دولة ضمن دولة”) لتصبح هوية واقعية خاصة بها، لا يمكن أنْ تكون إلا دولة فاشلة عقيمة غير منتجة، لأنها ليست دولة أفرادها ومواطنيها (وليس رعاياها!)، من مختلف الطوائف والتيارات والتنافرات المجتمعية والسياسية.. والفشل يعود إلى تعاليها ونخبويتها وأقلويتها وطائفيتها (بالمعنى السياسي لا الديني)، وعدم اكتمال شرعيتها الوطنية والشعبية، واتّباعها أساليب القسر واستخدامها العاري واللا محدود لأدوات القوة والعنف والبطش ضد رعاياها المفترض أنها جاءتْ لخدمتهم وتأسستْ لرعايتهم وتأمين شروط حياتهم المعيشية الطبيعية الصحيحة والحقيقية في بناء دولة مؤسسية تتقوم بالقانون والعدل والتداول السلمي للسلطة.
وهذا ما دفعَ (ويدفع) الفرد للانحياز إلى انتمائه الأوّلي، والالتجاء لمذهبه والاستظلال بطائفته، فهي تحميه وتغطّيه وتدافع عنه وتسنده – ككتلة وجماعة عصبوية – في الظروف العصيبة، لمواجهة بطش السّلطة أو الدولة، (وأعني بها هنا الدولة التحديثية العربية التي كانت -وما زالت- دولة النخبة لا دولة الأمّة)..
نعم كان لسوء أوضاع الفرد في مجتمعه، وهيمنة دولة القهر والاستبداد على وعيه، وتحكم مواقعها التسلطية العنفية بفعالياته وسلوكه، واستمرار إقصائه، ومنع مشاركته وحضوره في الشأن العام، والاستهزاء بهويته التاريخية، وتعقيم وجوده التنموي، وتبخيس حقوقه وحاجاته، كان لما تقدّم أبلغ الآثار وأفظع النتائج في دفع هذا الفرد للعودة إلى الوراء، والارتماء في حضنه المذهبي، وتنامي إحساسه الطائفي، ودفعه للالتصاق ببيئته المجتمعية التقليدية ما قبل وطنية، وعدم قدرته على الاندماج الحقيقي في مجتمعه ودولته يشعر عملياً بغربتها عنه، ليس لأنه يرفض الاندماج والمشاركة والخضوع للقانون، بل بسبب بقاء الدولة -التي ينتمي إليها الفرد العربي- مستقرة استقرار الأعماق في بيئتها القبلية الطائفية الأولى، وبعيدة عن فكرة المواطنة والحكم الصالح والممارسات القانونية المدنية، لا عمل لها سوى تأبيد وجودها التسلطي العنفي الأعمى.
طبعاً نحن بهذا التوصيف السلبي وربما القاتم لواقع بنية الدولة العربية، والتركيز على أمراضها، ومنها مرض الطائفية السياسية الظاهر والواضح في العلاقات (الداخلية والخارجية)، لا نحبط الناس مع ما يترقبونه، ويتطلعون إليه من آمال مستقبلية، ولكننا نحاولُ رصدَ الأمور والوقائع كما هي على الأرض حتى نشخّص بسلاسة واقعية الوضع المرضي القائم، بعد عهود طويلة من هيمنة أيديولوجيات الفكر الواحد والحزب الواحد والفرد الواحد، (وعقلية أنا ولا أحد)، التي استثمرت واستفادت من ثقافة الموروث التاريخي العربي الإسلامي لتكرّس وجودها وذاتها، وتحكم بموجبِ قوانين الغلبة وعصب القبلية العشائرية والطائفية الدينية المستحكم، وتمعن تدميراً ونهباً في ثروات بلداننا وخيراتها ومواردها الهائلة، فكانت النتيجة ما نراه الآن أمامنا من تشظي مفهوم الدولة الوطنية، وعودة الناس لانتماءاتها ما قبل وطنية، واستمرار وجود عدة مجتمعات عربية ضائعة مضيعة، تغيب فيها مساحة العقل والعدالة والحرية بالكامل تقريباً، وتسيطر عليها ثقافة أصولية مخيفة، قائمة فقط على العصب الديني الطائفي، يستبعد منها كل ما له صلة بالحريات والديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان، بينما يترسخ فيها حكم الفرد الواحد كإله أعلى معصوم.
إنني أعتقد أنّ أول خطوة يجب القيام بها على هذا الصعيد للبراء من تلك الأمراض، تتمثل في نقطتين:
– الأولى: مواجهة ورفض وعي زائفٍ يقوم على استمرار اتهام الناس والمجتمعات بفواتها التاريخي ومحاربة عقائدها، وتحميلها مسؤوليات الفشل التاريخي المقيم، والربط بين تعددياتنا الأقوامية والدينية وبين تخلفنا الحضاري.
– والثانية: العمل على استئصال الطائفية السياسية من داخل جسم الدولة العميقة، وهذا هو أمر ممكن وضروري للغاية بصرف النظر -كما قلنا سابقاً- عن تطور معنى المجتمع المدني، ودرجة تقدم وعي الناس، ومدى حضور قانون الدولة السياسي في ثقافتهم العملية.
وأبناء مجتمعاتنا على وجه العموم، خصوصاً تلك التي تعاني من أزمات وطنية مقيمة، تريد الخلاص من مشكلاتها، والانتهاء من أمراضها وعلى رأسها الطائفية، فهي تفخر وتعتز بهويتها الوطنية وثقافتها العربية الإسلامية، لكنها بالمقابل تؤمن بضرورة إنجاح بناء دولها الوطنية، وهو نجاح لا يكمن في وجود تحزبات طائفية دينية أو مذهبية، بل في بناء ووجود مقومات حقيقية لدولة حضارية مدنية حديثة تخدم جميع أبنائها دون تمييز ولا تفريق.. بحيث تكون الكفاءة أساس ومعيار بعيداً عن أية معايير وانتماءات قديمة ما قبل وطنية..
وهذه مسؤولية كبيرة علينا جميعاً في ظل ما خلفته الدولة التحديثية العربية من البؤس والفساد والدمار على مدى أكثر من نصف قرن، نحتاج معه عقوداً طويلة لإصلاح حالنا.. ولكن الأمل يحذونا مجدداً لاستنهاض بلداننا وبناء دول القانون والمؤسسات.. دول الخدمات والرفاه الاجتماعي، خصوصاً وأنّ الموارد موجودة والثروات متوافرة بكثرة في تلك البلدان..!!.