حقبة جديدة في سوريا.. الرابحون والخاسرون والتداعيات على إسرائيل
ترجمة وإعداد: حسن سليمان
التطورات في سوريا تطرح على إسرائيل تحديات جديدة، ولكن أيضاً فرصاً محتملة. فمن ناحية، فإن عدم اليقين بشأن سياسة النظام الجديد بقيادة الشرع والوضع على الأرض يتطلب من إسرائيل الحفاظ على مستوى عالٍ من الاستعداد العسكري للتعامل مع التهديدات الناشئة وعدم اليقين بشأن نوايا اللاعبين المعنيين. بما في ذلك تركيا، والحد من إمكانية تجديد محور إيران وحزب الله على أراضي البلاد.
في المقابل، فإن تصريحات الشرع المنضبطة تجاه إسرائيل، فضلاً عن وجود عناصر معتدلة وضعف “محور المقاومة” وروسيا على الأراضي السورية، قد تفتح الباب أمام مبادرات دبلوماسية. يجب على إسرائيل أن تستعد لكلا السيناريوهين: تحقيق الاستقرار في سوريا تحت قيادة نظام معتدل وفعّال، أو تحويل سوريا إلى ساحة تعمل فيها الجهات المتطرفة، ما قد يهدد أمنها. وذلك من خلال انتهاج سياسة تشجع التوجهات التنموية الإيجابية. إن الجمع بين الحزم الأمني والتحركات السياسية والإنسانية المدروسة سيسمح لإسرائيل بحماية حدودها، والمشاركة في الجهود الرامية إلى تحقيق الاستقرار في المنطقة، والتأكيد على أصولها وتحسين موقعها بشكل كبير على الساحة الإقليمية والدولية.
صورة الوضع
في غضون 13 يوماً، تمكنت جماعة هيئة تحرير الشام المتمردة من السيطرة على دمشق، ووضع حد للحرب الأهلية في سوريا، التي استمرت 13 عاماً. لقد تغير الواقع السياسي والأمني في البلاد بشكل كبير: استيلاء هيئة تحرير الشام على دمشق كان نتيجة مجموعة من الظروف التي أدت إلى “العاصفة الكاملة”: الحرب الطويلة مع إسرائيل تركت إيران، وخصوصاً الجماعات التابعة لها – حزب الله وحماس – في موقف ضعف غير مسبوق. لقد تضرر وجودهم في سوريا بشكل كبير وسمح بالتقدم السريع للمتمردين. وقلصت روسيا المنغمسة في الحرب في أوكرانيا من وجودها ومشاركتها في سوريا. وعندما شهدت انهيار الجيش السوري أمام الثوار، رأت موسكو أنه لا جدوى من محاولة إنقاذه، وعلى الرغم من الجذور الجهادية لهيئة تحرير الشام، فمن الواضح أن قطاعات كبيرة من السكان دعمت نضالها بسبب الإحباط من نظام الأسد والظروف المعيشية الصعبة. وفي الخلفية، مهدت تصدعات الثقة بين النخبة السياسية والعسكرية في النظام الطريق لسقوط الأسد السريع.
اللاعبون الأساسيون.. بين الإنجازات والخسائر
تركيا: دعمت المتمردين في نظام الأسد خلال الحرب الأهلية برمتها، وهي الآن تجني الثمار ومن المتوقع أن تلعب دوراً رئيسياً في تشكيل الوجه المستقبلي لسوريا – وربما يكون أكثر أهمية مما لعبته إيران وروسيا في هذا البلد. على مر السنين، كانت سياسة أنقرة في سوريا مدفوعة بمصلحتين رئيسيتين: تقليص الحكم الذاتي الكردي وإزالة التهديد من أراضيها، فضلاً عن إعادة بعض من 3.5 مليون لاجئ سوري يقيمون في أراضيها. ويشكلون عبئاً اقتصادياً وسياسياً على النظام. وإلى جانب هذه المصالح، واجهت تركيا في السابق هجمات إرهابية نفّذها تنظيم القاعدة وداعش على أراضيها، وسعت جاهدة لمنع نشوء وضع تصبح فيه سوريا مركزاً متجدداً للإرهاب الجهادي. علاوة على ذلك، فإن الواقع الحالي في سوريا يتناسب بشكل جيد مع الطموحات الوطنية للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لوضع تركيا كقوة إقليمية تتمتع بمجموعة متنوعة من مجالات النفوذ.
ومن المتوقع على المدى القريب أن تستغل تركيا الفرصة لتوجيه ضربة للأكراد وإضعافهم من خلال التنظيمات المسلحة التي تعمل نيابة عنها، مثل “الجيش الوطني السوري”، ومواصلة تعزيز نفوذها في سوريا من خلال دعم العمليات السياسية وبناء الجيش وإعادة التأهيل الاقتصادي المتوقع في البلاد.
قد تكون أنقرة مورداً رئيسياً لمجموعة متنوعة من المعدات العسكرية التي تنتجها لسوريا، وربما تطالب بإقامة تحالف عسكري واستراتيجي مع النظام السوري الجديد، وهو التحالف الذي سيؤمن موقعها ويرسخ نفوذها في جميع المؤسسات العسكرية السورية والتحركات السياسية، وربما حتى السماح لها بإبقاء قواتها في الأراضي السورية والاحتفاظ بالأراضي التي احتلتها. وقال الشرع نفسه إن “تركيا، التي وفرت اللجوء لملايين السوريين خلال الحرب الأهلية، ستكون لها الأولوية في إعادة إعمار سوريا على الدول الأخرى”.
قطر: على غرار تركيا، دعمت قطر المتمردين السوريين لسنوات، ولكن على عكس أنقرة، التي كانت في السنوات الأخيرة مستعدة لإجراء حوار مع الأسد، وعلى عكس دول الخليج العربي الأخرى التي حاولت إعادة الأسد إلى دائرة نفوذها، اتخذت قطر موقفاً قوياً ورفضت أي اعتراف سياسي بالأسد وعودته إلى العالم العربي وأصبحت قطر الآن في موقع قوة ونفوذ فيما يتعلق بسوريا، وهي بمثابة وتر العزف الثاني لتركيا.
والموقف الحالي يضع قطر على الجانب الآخر من المتراس أمام جارتيها، الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، اللتين لا تزالان تتلمسان طريقهما أمام النظام الجديد في سوريا. وفي غضون أسبوع من بداية الأحداث التي انتهت بإسقاط نظام الأسد، افتتحت الدوحة سفارتها في دمشق، وقدمت مساعدات إنسانية، وبدأت بالفعل في الترويج لمشاريع اقتصادية لإعادة إعمار البلاد، بالتنسيق مع تركيا ومن المحتمل أن تجدد قطر وتركيا خطة بناء خط أنابيب الغاز الذي سيربطهما، ويمر عبر سوريا وإلى أوروبا.
الأكراد: تدهور وضع الأقلية الكردية في سوريا (التي يبلغ عدد سكانها حوالي 2.5 مليون نسمة) بشكل ملحوظ بعد الاضطرابات التي شهدتها البلاد. ويدور الصراع العسكري الرئيسي اليوم في سوريا ضد الحكم الذاتي الكردي في شمال شرق البلاد. وتهدد أنقرة بتوسيع توغلها في الأراضي السورية بهدف إخراج القوات الكردية أيضاً من مناطق شرق نهر الفرات، وذلك بعد أن نجحت بالفعل في إخراجها من نقاط رئيسية غرب النهر.
اقترح زعيم القوات الكردية مظلوم عبدي إنشاء “مناطق خالية من الأسلحة” على طول جزء من الحدود بين سوريا وتركيا. ووفقاً له، فإنه سيكون أيضاً على استعداد لتوحيد القوات الكردية مع الجيش السوري الجديد لإعادة تأهيله. لكن تركيا غير راضية عن مقترحات التسوية وتواصل الضغط من أجل انسحاب القوات الكردية من المناطق الاستراتيجية في شمال سوريا. ويظل موقف الأكراد هشاً، وهم يعتمدون على الدعم الأمريكي والدولي.
إيران: يشكل سقوط نظام الأسد تطوراً سلبياً للغاية بالنسبة لإيران، التي اضطرت إلى سحب قواتها وأصولها من سوريا (وكذلك حزب الله) وفقدت في الواقع معقلاً استراتيجياً رئيسياً لها في المنطقة. في هذه المرحلة، تنتظر إيران التطورات في سوريا بينما تبني على سيناريوهات عدم الاستقرار التي ستسمح لها بالتعاون مع العناصر المحلية التي ستعمل ضد النظام.
روسيا: التي اضطرت إلى سحب معظم قواتها من سوريا، تحاول التمسك بقاعدتيها العسكريتين، قاعدة حميميم الجوية والقاعدة البحرية في مدينة طرطوس غربي سوريا. وذلك مع إبرام اتفاقيات مع تركيا والإدارة الجديدة تسمح لهم بالاحتفاظ بهم هناك.
تتمتع روسيا برافعات ضغط أمام النظام الجديد في سوريا، بما في ذلك توريد الحبوب (جزء كبير من القمح الذي يصل إلى سوريا يأتي من روسيا) والدعم الدبلوماسي للنظام ضد الضغوط الغربية المحتملة. وعلى الرغم من أن هيئة تحرير الشام تعتبر روسيا عدواً يهاجم منذ سنوات محافظة إدلب والتنظيمات الجهادية بسلاحه الجوي، ويمنح حالياً اللجوء السياسي للأسد، إلا أنه من الواضح أن السياسة البراغماتية التي يتبعها التنظيم حتى الآن قد تسمح بمساحة من التعاون بين الطرفين.
الولايات المتحدة: التطورات في سوريا لعبت في مصلحة واشنطن، سواء في ما يتعلق بإيران أو في السياق الروسي. وبعد سنوات من الانفصال عن نظام الأسد، سارعت إلى إرسال وفد إلى دمشق برئاسة وكيلة وزارة الخارجية لشؤون الشرق الأوسط باربرا ليف، التي التقت الشرع. وفي نهاية اللقاء تم الإعلان بالفعل عن إزالة الجائزة الموضوعة على رأسه. وفي المستقبل، قد تقوم الإدارة أيضاً بإزالة أو تخفيف العقوبات المفروضة على الدولة بموجب قانون قيصر، في نفس الوقت الذي يتم فيه رفع هيئة تحرير الشام عن قائمة المنظمات الإرهابية. وذلك بهدف ترسيخ سوريا الجديدة كحليف، بما في ذلك في الحرب ضد داعش وإيران، ويضع دخول ترامب إلى البيت الأبيض علامة استفهام حول مدى الاهتمام الذي ستبديه إدارته بسوريا: ففي ولايته الأولى قرر سحب القوات الأمريكية من البلاد، لكنه تراجع أمام ضغوط مستشاريه. فالانسحاب السريع للقوات الأمريكية، كما اقترح في الماضي، يمكن أن يؤدي إلى انهيار الحكم الذاتي الكردي وتشجيع نشاط العناصر المتطرفة مثل داعش، وبالتالي الإضرار بجهود تحقيق الاستقرار في سوريا.
ومن الناحية الإقليمية، من الواضح أن قسماً كبيراً من المحاورين في المنطقة (الأردنيين، المصريين، السوريين، الإماراتيين) يتخوفون من النوايا المستقبلية للشرع ورفاقه ويقدرون أنهم” ذئاب في ثياب حملان”. ويعتقد الكثير منهم أن الأمر مجرد مسألة وقت قبل أن تترجم سياساته إلى نشاط تآمري. من بين أمور أخرى، من خلال: إنشاء فرع لجماعة الإخوان المسلمين، وهو ينبوع “حماس” في مرتفعات الجولان ضد إسرائيل؛ وأن يصبح مصدر إلهام للجماعات الإسلامية مع إمكانية تقويض استقرار الأنظمة في العالم والمنطقة، مع التركيز على الأردن ومصر، وظهور نظام إخواني يشمل تركيا وقطر وسوريا الجديدة، التي ستتنافس مع نظام الدول السنية البراغماتية (وخصوصاً الأردن والمملكة العربية السعودية ومصر).
المدلول بالنسبة لإسرائيل
إن الصورة البراغماتية والمعتدلة التي يحاول الشرع ترويجها تنعكس أيضاً في مواقفه المعلنة تجاه إسرائيل. وفي عدد من المقابلات الإعلامية التي أجريت خلال شهر ك1 حرص الشرع على التعبير عن نفسه بحذر وضبط النفس، بل وحتى بإيجابية إلى حد ما. على سبيل المثال، تعهد بالالتزام باتفاقية فصل القوات لعام 1974 وادعى أن سوريا لا تواجه صراعاً مع إسرائيل بل إعادة بناء البلاد.
بالإضافة إلى ذلك، نقل رسالة مفادها أنه لن يسمح باستخدام سوريا كنقطة انطلاق لهجمات ضد إسرائيل أو أي دولة أخرى وطالب إسرائيل بوقف هجماتها في سوريا والانسحاب من الأراضي التي احتلتها، والتي تم تحديدها كمنطقة عازلة (تغطي حوالي 235 كيلومتراً مربعاً تديرها قوات الأمم المتحدة على الجانب السوري من الخط. وعلى حد قوله فإن مبرر إسرائيل لعملها في سوريا هو وجود حزب الله والميليشيات الإيرانية، لكن هذا الأمر اختفى.
وعلى الرغم من عدم اليقين بشأن نوايا الشرع بشكل خاص ومستقبل سوريا بشكل عام، فإن الواقع الناشئ قد يطرح تحديات جديدة ولكنه يخلق أيضاً فرصاً لإسرائيل.
إن مسار الأحداث يطرح على إسرائيل ثلاثة بدائل رئيسية:
أ. السيطرة على مرتفعات الجولان السورية والتأثير فعلياً على نزع سلاحها، بما في ذلك الاحتلال حتى خط السياج السوري (سلسلة من الجبال البركانية المنطفئة على جانبي الحدود).
ب. السيطرة على المنطقة العازلة وجبل الشيخ، ومحاولات التأثير المضاد لإنشاء منطقة منزوعة السلاح من خلال إطلاق النار.
ج. الانسحاب العسكري المشروط ببناء نظام تفاهم مستقر مع النظام الجديد برعاية أمريكية وبالتعاون مع تركيا. حتى كتابة هذه السطور، اختارت إسرائيل البديل الثاني. ومع ذلك، فإن تحليل التداعيات يشير بالتالي إلى البديل الثالث باعتباره مفيداً لأهداف إسرائيل الأمنية والاستراتيجية طويلة المدى.
الجوانب الإيجابية
من وجهة النظر الإسرائيلية، فإن السيناريو الإيجابي في إطار تشكيل وجه سوريا يتضمن عدة مكونات: غياب نفوذ وحضور “المحور” الإيراني، ونظام جديد مستقر، لا يعادي إسرائيل، بل ومستعد لإجراء اتصالات سياسية معها، فضلاً عن جيش عامل وفعال في مواجهة التهديدات من العناصر المتطرفة مثل داعش.
وفي هذه المرحلة يبدو الضرر الذي لحق بـ “محور المقاومة” واضحاً. كما أن عزل سوريا سيجعل من الصعب على قدرات إعادة تعافيه. بالإضافة إلى ذلك، فإن معظم المتمردين في المنطقة الحدودية مع إسرائيل حالياً لا ينتمون (ولا يعرفون أنفسهم) مع “هيئة تحرير الشام” بل هم فلول “الجيش السوري الحر” والقوات الدرزية، الذين أبدوا موقفاً إيجابياً تجاه إسرائيل والذين تمكنت إسرائيل من التعاون معهم في الماضي.
وإلى جانب الخوف المشروع من عدم وجود سلطة مركزية في سوريا أو صعود العناصر الجهادية المتطرفة بالقرب من الحدود مع إسرائيل، فإن القدرات العسكرية لمختلف الجماعات المتمردة أدنى بكثير من قدرات إيران ووكلائها. علاوة على ذلك، فإن عدوهم الرئيسي هو محور الأسد – إيران – حزب الله، إلى جانب عناصر داخلية أخرى في سوريا.
ونتيجة لذلك، ليس من المتوقع أن يكون القتال ضد إسرائيل هو أولويتهم الأولى، على الأقل في المدى القريب وحتى رداً على التحركات العسكرية الإسرائيلية في البلاد.
علاوة على ذلك، فإن الواقع في مرحلة ما بعد الأسد على المدى الطويل، ورهناً بتشكيل حكومة مركزية مستقرة ومعتدلة في سوريا، قد يخلق فرصاً لتجديد الاتصالات السياسية بينها وبين إسرائيل، وحتى ذلك الحين، لدى إسرائيل فرصة لتحسين موقعها وأصولها من خلال مجال التأثير الذي خلق لها في الساحة، ومن بين أمور أخرى، على أساس علاقاتها مع الولايات المتحدة والأردن ودول اتفاقيات إبراهيم. – كما سيأتي تفصيله لاحقاً -.
الاحتمالات السلبية
يتضمن السيناريو السلبي بالنسبة لإسرائيل تطور نظام إسلامي جهادي معادٍ لإسرائيل، بالتزامن مع تشكيل معسكر إسلامي أوسع في المنطقة؛ عدم الاستقرار والفوضى والعنف، الذي سيمتد أيضاً إلى المنطقة الحدودية مع إسرائيل، وسيكون أرضاً مواتية لتجديد تأسيس إيران و”المحور” في المجال السوري. بعد أكثر من عام من القتال على عدة جبهات، تشعر إسرائيل بالقلق من أن يمتد عدم الاستقرار في سوريا إلى أراضيها. ورداً على ذلك، اتخذت إسرائيل إجراءات وقائية فورية، شملت سلسلة من الضربات الجوية والبحرية، غير المسبوقة من حيث النطاق، والتي تهدف إلى الانتقاص بشكل كبير من القدرات العسكرية للجيش السوري، مع التركيز على الأسلحة الاستراتيجية ومنع وقوعها في أيدي العناصر المعادية.
وبالإضافة إلى ذلك، استولت إسرائيل على المنطقة العازلة منزوعة السلاح التي أنشئت كجزء من اتفاق وقف إطلاق النار لعام 1974. وتؤكد إسرائيل أن هذه الخطوة مؤقتة وتهدف فقط إلى ضمان أمن حدودها والحفاظ على الاستقرار وضمان سلامة المنطقة العازلة.
إن الإجراءات الوقائية الفورية التي اتخذتها إسرائيل تهدف إلى منع تسرب الأسلحة الاستراتيجية إلى أيدي العناصر المعادية وكذلك ضمان أمن حدودها. لكن من وجهة نظر سورية وإقليمية ودولية، فإن الاستيلاء على الأراضي واستخدام التحركات الأحادية الجانب يضع إسرائيل في موقف قوة وعدائية تجاه سوريا.
إن اهتمام هيئة تحرير الشام، بما في ذلك العناصر المتطرفة الأخرى في سوريا، يتجه الآن نحو التحديات الداخلية، ولكنه في الآونة الأخيرة تم توجيهه أيضاً نحو إسرائيل، كما ينعكس ذلك في الخطاب الإعلامي والعام. وذلك على الرغم من تصريحات الشرع بأن التنظيم يعتزم احترام اتفاقات الفصل بين القوات وعدم الدخول في صراع مع إسرائيل.
علاوة على ذلك، فإن التحركات الإسرائيلية قد تشكل تحدياً لشرعية الحكومة الجديدة في سوريا، غير القادرة على فرض سيطرتها وممارسة سيادتها في مواجهة النشاط الإسرائيلي، ما يشجع على تعزيز عناصرها الأكثر تطرفاً.
حتى كتابة هذه السطور، يتجه معظم الخطاب الإعلامي والعام في سوريا نحو التحركات الإسرائيلية والأضرار المادية الناجمة عنها (إصابة مدنيين في هجمات، تدمير مباني ومناطق زراعية في جنوب سوريا)، هذا إلى جانب مظاهرات للأهالي تطالب بخروج القوات من المنطقة العازلة. ويمكن الافتراض أنه مع استمرار بقاء الجيش الإسرائيلي، ستزداد الحوادث من هذا النوع بسبب الرفض المتزايد للسكان المحليين. وفي الوقت نفسه، تتزايد الانتقادات الدولية أيضاً بأن إسرائيل تنتهك السيادة السورية وتخدم المتطرفين في البلاد.
ومن جانبها، يمكن لإسرائيل أن تتوقع أنه في وقت قصير، ستبدأ تركيا، إلى جانب الأطراف الأخرى، بتحركات دولية، وربما حتى عسكرية، لإزالة قوات جيش الدفاع الإسرائيلي من الأراضي الجديدة التي غزتها في مرتفعات الجولان.
علاوة على ذلك، هناك احتمال لزيادة الوجود العسكري التركي في سوريا مع مرور الوقت (حتى لو تم تعريفه على أنه “استشاري”)، الأمر الذي سيحد من نطاق العمل الإسرائيلي في البلاد، بل ويؤدي إلى احتكاك مع قوات الجيش الإسرائيلي. وفي حال عمل “محور المقاومة” على تجديد عمليات نقل الوسائل القتالية إلى حزب الله ولم يوقفها النظام الجديد أو تركيا، فمن المتوقع أن تزداد الاحتكاكات. خلاصة القول، كل احتلال للأراضي يعني احتكاكاً مع السكان السوريين، وهو أمر بالغ الضرر، وربما يعيد إلى طاولة النقاش مطلب إعادة هضبة الجولان إلى السيادة السورية.
توصيات للعمل
من بين البدائل التي طرحت، البديل الثالث، الذي يقترح إقامة نظام تفاهم مستقر مع النظام الجديد برعاية أمريكية وبالتعاون مع تركيا، هو البديل الموصى به. المنطق الموجه هو أنه، بالإضافة إلى تسليط الضوء على قوة إسرائيل المدمرة (السيطرة على المنطقة العازلة، والضربات العسكرية وإمكانية زيادتها)، فمن المناسب لها أن تعمل أيضاً في الأبعاد الدبلوماسية والمدنية والإنسانية، سواء من أجل تحقيق أهدافها أو من خلال تعزيز- التقليل من التأثير السلبي للعمل العسكري وإحداث واقع أمني أفضل مع مرور الوقت، وهو ما لا يتطلب وجوداً عسكرياً في الميدان. في هذا الإطار:
1. إن عدم اليقين بشأن المستقبل المتوقع في سوريا والاتجاهات التي ستتجه إليها الحكومة والعناصر الجهادية الأخرى، بما في ذلك نحو إسرائيل، يتطلب خطة دفاعية جديدة للحدود، والحاجة إلى مسألة المنطقة العازلة والتفكير في دور قوة الأمم المتحدة. وينبغي أن يكون ذلك مصحوباً ببيان واضح، بما في ذلك عبر القنوات الدبلوماسية، بأن المنطقة التي تسيطر عليها إسرائيل حالياً هي منطقة مؤقتة، إلى حين تسوية كافة القضايا التي تضمن مصالحها، والتي تتمحور حول تشكيل قوة مسؤولة ومعتدلة تكون قادرة على تأمين المنطقة الحدودية من الجانب السوري، قد تسمح مثل هذه الخطوة لإسرائيل بالانسحاب من جانب واحد من المنطقة العازلة، على المدى القصير، مع الحفاظ على سيطرتها على الحدود السورية حتى يتم تحقيق الاستقرار المستدام.
2. إن عملية تدمير الأسلحة الاستراتيجية التي بدأتها إسرائيل مهمة ويجب التأكد، سواء بالوسائل العسكرية أو من خلال الترتيبات الدبلوماسية بموجب ضمانات دولية، من عدم بقاء أي مواد بيولوجية أو كيميائية في سوريا.
3. يجب دراسة قنوات الحوار الأولية مع الحكومة الجديدة في سوريا، بشرط الحفاظ على المصالح السياسية والأمنية في مرتفعات الجولان وفي عمق البلاد. وذلك بشرط أن يمتنع هذا النظام عن نشر الإرهاب أو التعاون مع العناصر الإرهابية التي تهدد إسرائيل. إن الخطوات الإيجابية من جانب النظام الجديد يمكن أن تقابل بالاعتراف والتغييرات المدروسة من جانب إسرائيل في المستقبل.
4. يجب إيجاد وضوح استراتيجي في مواجهة الأطراف المحلية (الدروز والسنة المعتدلين)، والإقليمية (تركيا) والدولية فيما يتعلق بطول المدة التي ستبقى فيها إسرائيل في المنطقة وتهيئة الظروف التي تسمح بانسحاب قواتها. وحتى ذلك الحين، ومن أجل تجنب تحويل النار والانتباه نحو إسرائيل، عليها أن تقلل من وضوح وكشف أنشطتها العسكرية.
5. سيكون من الصحيح تسريع الحوار وإقامة علاقات مع الأطراف الإيجابية على الأرض، بما في ذلك النظر في نقل المساعدات الإنسانية المستهدفة ولكن الرمزية (أيضاً لتهدئة المشاعر المعادية لإسرائيل)، إذا كان ذلك ممكناً بالتنسيق مع النظام المركزي وجعل الأمر ممكناً، كإجراء لبناء الثقة وحتى لا يُنظر إلى هذه الخطوة على أنها محاولة لإضعافه. وذلك مع تجنب التورط المباشر في الصراعات العسكرية في سوريا وبالتنسيق المستمر مع حلفاء إسرائيل، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة.
6. لإسرائيل مصلحة في تجنب وضع تركيا كعدو. تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي، وكانت في الماضي حليفة لإسرائيل.
وعلى الرغم من سياسة أنقرة المتشددة، حتى في سياق الحرب في قطاع غزة، فمن وجهة نظر طويلة المدى فإن مبادرة تخفيف التوترات أفضل من تفاقمها. لذلك، من الصحيح صياغة نظام تفاهمات مع تركيا بشأن ضرورة استقرار المنطقة الحدودية من خلال عوامل معتدلة يتم الاتفاق عليها، بما في ذلك ما يتعلق بنواياها في البلاد.
7. كما لا بد من العمل على تشديد الحوار مع الأردن ودول الخليج من أجل توجيه قولبة سوريا في اتجاهات إيجابية ومنع العوامل المعادية (إيران وروسيا) من تجديد نفوذها على الساحة.
8. الترويج لمبادرة دولية بقيادة الولايات المتحدة لإنشاء لجنة رباعية تضم تركيا وروسيا وإسرائيل، هدفها تحقيق استقرار الحكومة الجديدة ومنع إلحاق الضرر بالأقليات (الولايات المتحدة تعتني بالأكراد، وإسرائيل تعتني بالدروز، روسيا تعتني بالعلويين، وتركيا تعتني بالعناصر السنية الواقعة تحت نفوذها.
9. من المرجح أن تؤدي الأزمة الاقتصادية الحادة في سوريا ونقص السلع الأساسية – الوقود والقمح والمياه – إلى تنافس على النفوذ في البلاد بين أطراف إقليمية ودولية. يقدم هذا الواقع لإسرائيل فرصة استراتيجية لتبرز كلاعب بنّاء، مع الاستفادة من مزاياها التكنولوجية (من بين أمور أخرى في مجال الزراعة). وقد لا تساعد الجهود من هذا النوع في إعادة بناء سوريا فحسب، بل قد تعزز أيضاً نفوذ إسرائيل الإقليمي على حساب المصالح المتنافسة.
10. وفي كل الأحوال، من الصحيح أن كل اعتراف إسرائيلي وإقليمي ودولي بالنظام الجديد وتقديم المساعدة له سيكون مصحوباً بضمانات وتحقيق المطالب المقدمة إليه: الحفاظ على أمن الحدود ومنع تهديد العناصر المتطرفة. ومنع إعادة تأسيس “محور المقاومة” وإحباط عمليات نقل الوسائل العسكرية إلى حزب الله في لبنان، وتجنب الأعمال الانتقامية ضد الجماعات العرقية والدينية، وتنفيذ عملية انتقالية وإعادة تأهيل مصحوبة بعوامل دولية لتحقيق استقرار البلاد.
مركز أبحاث الأمن القومي – كرميت فالنسي