هامش ثقافي

عقوق الوقت.. جاهلية من طرازٍ آخر

بقلم غسان عبد الله

نسبة الاكتئاب العالية شجعت أعداءنا على أن نكون حقلَ تجارب يشبه إلى حد ما الفئران التي يُجرى عليها التجارب في المختبرات.. وبالطبع لم يكن الأمر صعباً عليهم.. فكل النتائج تصبّ في صالحهم.. وما سهّل الأمر أكثر أنهم وجدونا جاهزين ولدينا الاستعداد النفسي للخروج من حالة الاكتئاب العويصة تلك.. ولأننا مكتئبون ونعاني من أزمات نفسية عويصة تركتها في نفوسنا المآسي والفقر والاحتكار.. والقتل.. والسرقات.. ومافيات السياسيين والمنتفعين من السياسيين.. كان التغيير والخروج من تلك الحالة سهلاً جداً.. ولأنهم رحماء طيبو القلوب استخدموا من أجلنا كل ما يسرُّ قلوبنا وينعش أرواحنا ويخرجنا من حالة الاكتئاب تلك.

وبالمختصر.. لكي ننسى..!!

ولكي ننسى!!.. عروضات سخية على الدردشة حتى مطلعِ الفجر عبر الهواتف النقالة!!..

ولكي ننسى..!! أجمل المسلسلات التركية المدبلجة.. ولكي ننسى!!!.. تنزيلات وخصومات على الأخلاق في البرامج الإذاعية والتلفزيونية.. ولكي ننسى.. ثقافة بلا ثقافة في البرامج الثقافية.. وأخيراً.. كرة القدم.. (برشلونة وريال مدريد) وعنهما (حدّث ولا حرج) وإليكم المشهد:

المعركة حامية الوطيس بين فريقي برشلونة وريال مدريد.. وعلى هامش معركة الفريقين على أرض الملعب هناك حروب ضارية تجري في الشوارع والبيوت والمدارس والنوادي والمؤسسات بين مشجعي الفريقين.. قد تصل في بعضها إلى التناوش بالأيدي والتنابز بالألقاب. فكم من صداقات تبدّدت.. وكم من علاقات زوجية اهتزّت بسبب هذا!!.

ففي الوقت الذي كان شباب المقاومة الأبطال يخوضون أشرس معركةٍ ضد العدو الصهيوني أشهر أو أكثر على التوالي.. ويزدادُ العدُّ في متواليةٍ حسابيةٍ متصاعدة.. كان شبابنا يعدّون تنازلياً الساعات والدقائق والثواني لبدء المباراة. كان المشجعون يستعدّون بكلِّ وسائل التشجيع اللازمة لقهر مشجعي الفريق الآخر.. وكأننا بالضبط نتفنّن في إضاعة الوقت.

أستطيع أن أسمي هذا (عقوق الوقت).. فكم من الأوقات تضيع قبل وأثناء وبعد أية مباراة بين الفريقين؟. وفي النهاية.. ماذا يجني كلٌّ من الطرفين المتنازِعَيْن على فريقَيْن لا يعرفان عنكم شيئاً ولا يدريان بما تفعلون من أجلهم؟؟.

هل هذا هو الشعب الذي يقال له لبناني كطائر الفينيق.. شعب ينادي بالحريةِ والسيادةِ والاستقلال؟.. هل هؤلاء هم أصحاب قضية عمرها زاد على ستين عاماً؟!!.

إذا قلت إن الحصار الأمريكي وحده هو المسؤول عما يجري.. ستقولون: إلى متى سنبقى نعلِّق كل شيءٍ على تلك الشماعة؟.. وإذا قلت إنكم أنتم المسؤولون عما يجري من تفرقة.. بسبب هذه الرياضة التي بدأت تحمل معاني لا تحملها أصلاً.. ستقولون: الرياضة شيء جميل.. ولم هذا الاعتراض؟.

ربما يصفني البعض بالرجعية!!.. لست ضد التطور.. ولست ضد الرياضة.. ولكنني أرفض أن نكون مسوخاً تابعين نفعل ما يفعله الغربيون من غير وعي!!.

سئل أحدُ الصّحابةِ عن أكثر حادثةٍ أبكتْهُ وأكثرِ حادثةٍ أضحكَتْهُ وهو على دين الجاهلية قال: هما حكايتان كلّما تذكرت الأولى بكيت.. وكلما تذكرت الثانية ضحكت.

أما التي تبكيني.. فكنت في الجاهلية وأنا أحفر قبراً لابنتي لوأدِها تحتَ الترابِ وهي على قيدِ الحياة.. كان الترابُ يتناثرُ فكانت تنفضُ الغبارَ عن لحيتي وهي بين يديّ.. ومع ذلك وأدْتُها!!.

أما الثانية التي تضحكني.. فكنت في الجاهلية أصنع صنماً من العجوة ولمـّا يدور العام كنتُ آكلُهُ وأصنعُ صنماً آخرَ من العجوةِ الجديدةِ..

ربّ قائل يقول: ما علاقةُ ذلك الصحابي بالرياضة؟ وما علاقته بفريقي (برشلونة وريال مدريد)؟!..

هل تعتقدون أن الشرك باللّه يعني فقط السجود لصنم؟!!.. وهل تظنون أن الوأدَ فقط يعني دفن البنات تحت التراب!!.. إطلاقاً!..

ففي القرن الحادي والعشرين جاهلية من طرازٌ آخر.. هناك من يعبدون أناساً لا أصناماً.. وهناك من يئدُ القيمَ ويحثو الترابُ على المشاعرِ الإنسانية.. ماذا تبقّى.. لكي ننسى؟؟!!.. وهل ما زلنا أصحاب قضية؟؟.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *