حولَ العلمانية مرةً أخرى لا حداثة من دون إسلام حضاري ودولة مدنية
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
جدلٌ كبيرٌ أثيرَ ويثارُ مؤخراً في سوريا – والمنطقة عموماً – بعد التغيير السياسي والاستراتيجي الكبير الذي حدثَ فيها، (مع سيطرة جماعات دينية أصولية عليها)، حول موضوعة العلمانية والدين، ومدى إمكانية بناء دولة حديثة في ظل منظومة تفكير دينية إسلامية.
ولا بد من التأكيد بدايةً على أنه لا تزال أوساطنا المجتمعية العربية، ترفض فكرياً ومعنوياً تمثّل مفهوم العلمانية، وهناك كثير من الحواجز النفسية والعملية تمنعها من الانفتاح على هذا المفهوم السياسي والفكري، والسبب أنه ارتبط – خطأ – لديها بفكرة الإلحاد وشيوع الإباحية والتفكك والانحلال الأخلاقي، كما ارتبط بذاكرة مجتمعية مشبعة بتطبيقات العلمانية العربية المستبدة التي فعلت الأفاعيل وارتكبت الموبقات السياسية وغير السياسية، مستخدمةً كافة صنوف وأشكال القهر والفساد والقمع والعنف ضد مجتمعاتها لتطويعها وإخضاعها والسيطرة الكلية عليها، مثلما حدث مع علمانية كل من سوريا والعراق زمن صدام حسين وحافظ وبشار الأسد، والتي كانت علمانية أنظمة استبدادية تم فيها تسخير كل المقدّرات والموارد للبقاء في السلطة، وخدمة تأبيد الحكم المستبد، مع ما فعلته “علمانيتهم” من تشتيت وتمزيق صفوف المجتمع، لإضعاف قواه وتبديد طاقاته في مواجهتهم.
في الواقع يجبُ أنْ نفهمَ ونعي أن مفهوم ومصطلح العلمانية، نشأ في الغرب، وتعود إرهاصاته وتداعياته الأولى في تحديد بنيته ومعناه ومآلاته – وكل ما تعلق بتحديد وضبط معناه الحقيقي – تعود كلها للفضاء التاريخي الثقافي والسياسي الغربي.. حيث انطلقت بداياته الأولى من خلال السجالات والصدامات الفكرية وغير الفكرية بين رجالات الدين الكنسيين وعلماء الفكر والطبيعة (أنصار وأتباع الفكر التجريبي)، في سعيهم الحثيث للاستقلال عن مرجعية الكنيسة واللاهوت الديني الكنسي.. والاستقلالية هنا بدأت بالفلسفة، بالعقل والفكر، لتنشأ وتتكون مختلف العلوم خارج إطار قيود المسيحية، بل ضدها في بعض الأحيان، وأن كل الحقائق الإنسانية: السياسية، والاجتماعية، والثقافية وغير ذلك، قد استقلت عن الدين.
وتعني “العلمانية” في جانبها السياسي، “اللا دينية” في الحكم والممارسة السياسية، وتقوم على فكرة: فصل الدين عن الدولة، وحيادية الدولة (بمختلف معاييرها ومؤسساتها) تجاه كل ما ديني وتاريخي وثقافي يتصل بعادات الناس وتقاليدها وأنظمة معناها التاريخية.. ويمكن القول بأنَّ العلمانية اصطلاحٌ لا صلة له بكلمة “العِلم” (SCIENCE) التي اشتُقَّتْ منها، ومعناها الأقرب إلى الصحة هو “الدّنيوية” و”اللا دينية”، بما هي دعوة إلى إقامة الحياة على أساس العلم الوضعي والعقل البشري، وحساب المصلحة بعيداً عن الدين.. أي اعتبار مرجعية العقل هي المرجعية النهائية للإنسان في كل حركته الوجودية وانتظامه البشري القانوني.. وعلى ما يبدو أن من قام بترجمة هذا المصطلح – من أوائل المترجمين – صدم نفسياً بحمولته الإقصائية الإلغائية للدين، وإيعاده عن حياة الناس؛ فاختارَ له ترجمةً تقترب من العِلم وتُيسّر انسيابية المفهوم إلى داخل المجتمعات المسلمة.
ولكن جاء معنى هذا المصطلح في الواقع العملي ليكون عبارة عن: عزل الدين عن الدولة وعن حياة المجتمع، ودفْعه ليبقَ هويةً خاصة محبوسة في داخل الإنسان، في ضميره ووجدانه فقط، كعلاقة ذاتية فردية بين المرء وبين معبوده؛ وإنْ سُمح له بالتعبير عن نفسه في حركة الواقع، يأتي التعبيرُ فقط طقوسياً في الشعائر التعبدية، والمراسيم المتعلقة بالزواج والوفاة ونحوهما فحسب.
وبعيداً عن التعريف الاصطلاحي للعلمانية وهو بات حاضراً لدى الكثيرين، نقول بأنّ العلمانية – كفكرة ومرجعية رضيتْ بها دول الغرب، وحظيتْ باهتمام مجتمعاتهم، وتمَّ تبنّيها كعقيدة سياسية عملية لهم، على مستوى القيم والسّلوكيات العملية السّياسية والاجتماعية – ليس لنا معها نقاشٌ سياسي عملي يخصهم في اختيار مرجعيتهم الخاصّة بهم التي تتناسب وتاريخهم وقناعاتهم، ولهم إرادة حقيقية جدية فيها، إلا عند تحوُّلها لعقيدةٍ سياسية صدامية ضد الآخر (العربي الإسلامي بالذات)، ومحاولات طمس هويته الحضارية الدينية التاريخية عبر سياسات الفرض والإملاء التي مورست وتمارس سياسياً وعملياً في فضائنا السياسي العربي والإسلامي، في سعيهم الدائم لنَقْل كل ما في الغرب من أشكال القيم ومعايير السلوكيات اللا دينية، وفرْضها على مجتمعاتنا دونما تدقيق وتمحيص ومساءلة ومراجعة نقدية..
أما المشكلة بخصوص العلمانية العربية وأفكارها وقيمها ومختلف مذاهب أصحابها – وكل ما يرتبط به من اتجاهات ويخرج عن قادتها من آراء وطروحات – أن بعض أتباعها ومروّجيها، كانت لديهم رؤية إلغائية للدين، بل وكانوا يستهدفون فعلياً استئصال الدين ذاته من واقع الحياة الاجتماعية والسياسية للناس، وفي الحد الأدنى قيامهم بتأسيس رؤى وأفكار دينية لا علاقة لها بالدين نفسه.
نقول هذا الكلام مع ملاحظة أنَّ الإسلامَ (شئنا أم أبينا) دينٌ اجتماعي عملي لا ينفصلُ في قيمه وأفكاره وأنظمة معناه، عن واقعِ الحياة الاجتماعية الخاصة والعامة للفرد المسلم.. وقد كانت العلاقة بين السلطة والدين، قائمة وموجودة منذ بدايات الإسلام، حيث جمع الرسول محمد (ص) بين السلطتين الزمنية والروحية، وبعده سار الأمر برهة قصيرة على هذا المنوال، إلى أن تحوّلت الدعوة دولة.. ونصوص الدين ذاتها تطالب الفرد (وتأمره) بتمثّل وتطبيق قيم الإسلام وتشريعاته في كلّ تفاصيل حياته الخاصة والعامة.. فكيفَ يمكن والحال هذه، التوفيقَ بين الأمر (والشرع) الديني الإسلامي (الإلهي)، وبين واقع الحياة العلماني الذي يرفضُ أنْ يكونَ للدين أي دور في حياة الناس والمجتمع ككل؟!!.. هنا يكمن ويقع أصل الصدام الفكري والعملي بين فكرة العلمانية والدين الإسلامي..!!.
وهذه – كما نعتقد – إشكالية كبيرة وخطيرة تدلنا على مدى هذا الانقسام الحاصل في بلداننا بخصوص فكرة العلمانية بين نخب وتيارات سياسية وثقافية حالمة بتطبيق العلمانية (كما هي في بيئة غير مؤاتية لها)، وبين مجتمعات (رافضة لمعناها ومبناها) وتعتقد أنّ أول ما تستهدفه هذه الفكرة هو عقيدتها الدينية وتراثها الإسلامي وأنسجتها التاريخية وخيارات الناس فيها.. مع عدم تفريق تلك النخب بين معنى الدين وآليات تطبيقه العملية في الغرب الكنسي، وبين معناه وآلية تطبيقه العملية في مجتمعاتنا العربية الإسلامية.. ووقوعها في شراك نقل وسحب تجربة الغرب مع الدين إلى مجتمعاتنا.. حيث أن مفهوم (العلمانية) – نسبة إلى العِلم أو إلى العَالَم (الدنيوي أو المذهبي الدنيوي) – تم طرحه هناك في الغرب، في سياق السّجالات والمواجهات التي دارت بين الكنيسة ورجالاتها من جهة وبين القوى الزمنية والعلمية من جهة أخرى، نتيجة ادعاء (رجالات الكنيسة وعموم مفردات الأكليروس الديني الكنسي) لسلطة الحق الإلهي المقدس واحتكارها للحقيقة بحسب منظومتها العقائدية اللاهوتية.. من هنا جاءت وأتت حركة العلمنة – كخلاصة لجهود الرفض والمواجهة مع الكنيسة القروسطية – لتفصل بين الدين المسيحي والدولة.. في حين أن الإسلام كدين ليس سلطة روحية كهنوتية ولا بشرية ولم يحدث أن قامت ضده ثورات وانتفاضات أو حركاتٍ معارضة فكرية وسياسية.
بالعكس تاريخنا العربي الإسلامي كان تاريخاً (علمانياً مدنياً) بامتياز، ارتفعت وعلت فيه السياسة وفنونها وألاعيبها فوق الجميع في العلاقات والسلوكيات وآليات التعامل.
وللأسف فقد بقيت تلك النخب متترّسة عند حدودها الفكرية ومقولاتها الذاتية العقائدية الأولى المعادية لدين مجتمعاتها، مُتبنّيةً قوالبَ فكرية قديمة مغلقة في فهمها وتوصيفها ووعيها لتلك المتغيرات التي أصابت عالمنا العربي في صميمه، وبدأت تستعيد الشعوب من خلالها حيويتها وقوتها ودورها ومكانتها على صعيد الفعل السياسي والمشاركة في صنع المصائر والمآلات الوجودية.
والمشكلة أن كثيرين من هؤلاء الكتبة – لا المفكرين – سبقتهم التحولات بأشواط عديدة، وبقوا جالسين خلف حواجز أوهامهم العَقدية، ومنغلقين في كهوفهم الفكرية، مستخدمين لغة مستعلية متعالمة تدعي القبض على الجوهر وامتلاك الحقيقة لوحدها، ومتخشّبين حول مجموعة صنميات ورؤى نظرية قديمة ثابتة يسقطونها دوماً على أية أحداث ومتغيرات سياسية ومجتمعية لاحقة، مع أنهم كانوا يتهمون غيرهم على الدوام بالثبات والانغلاق على الذات لغةً ومفاهيم وتحليلات.. أي أنهم باتوا يقعون ويغرقون باستمرار في نفس المستنقعات والمطبات الفكرية والمعرفية التي يتهمون خصومهم بالغرق فيها، بعيداً عن الرؤى النقدية العقلانية المتحركة المعروفة.. فمن ليس معي فهو ضدي، ومن هو ضدي فقد باتَ عدواً لي، تصح في حقه كل مقولات التخوين وأقذع ألفاظ ومصطلحات التآمر ومصطلحات التزمت العقائدي التاريخي.. وكأننا أصبحنا أمام محاكم تفتيش علمانية جديدة.
مع أنه كان واجباً علينا كمفكرين ونخب واعية أن نقر ونعترف بأن المسلمين لم (ولن) يتقبلوا مصطلح العلمنة في مجتمعاتهم، لا على المستوى الفكري ولا على المستوى العملي، على الرغم من تطبيقاته في كثير من بلدانهم التي فرضَ حُكّامُها ونخبتها “العسكرتارية” أيديولوجيات مفارقة مستبدة لم تلقَ القبول والاستجابة الطوعية المطلوبة للنهوض والتقدم المجتمعي الحقيقي من قبل الفاعل الاجتماعي العربي والإسلامي، فكان أن بقيت تلك التطبيقات مجرد دعوات ومشاريع حداثة وتحديث قشرية نخبوية مكلفة وعقيمة.. على الرغم من مرور زمن سياسي طويل على فرْضها في بعض مجتمعاتهم التي حكمتها أيديولوجيات مختلفة، ونقول “فرْضها” بسبب خصومتها النفسية والعملية معهم.. حيث أنهم ربطوا – في إرثهم الفكري التاريخي ووعيهم العملي – بينها (بين العلمنة) وبين أفكار وسلوكيات أخرى اعتبروها مناقضة ومحاربة ومضادة للدين ولقيم الدين ذاته.. أي أن العلمنة في الوعي الشعبي ما زالتْ فكرة غير مقبولة وغير مرحب بها، لا تحظى برضى الناس واحتضان بيئتهم المجتمعية العامة.. الأمر الذي دفعهم لرفض الانفتاح على مقتضياتها ومتبنّياتها ونتائجها الحداثية العملية الأخرى كونها جاءت لتصدم وتناقض وعيهم الديني ونسيجهم التاريخي الديني.
وطالما أنها (أي العلمانية) تصدم الوعي الجماهيري المتدين بمقولاتها المعادية للدين والتراث الدين، فلن تجد لذاتها أي موطأ قدم حقيقي في بيئة العرب والمسلمين.. وهذا ما لمسناه حتى هنا في سوريا، حيث أن التفكير الجمعي يرفض مفهوم ومصطلح العلمانية، وقد يتقبل أكثر – وإن بحدود معينة – مصطلح المدنية.. مع أنه لا فرقَ كبيراً ونوعياً بينهما في المدلول العملي..
نعم، نحن ندركُ أنّ الحاضر لن ينصلح من دون إصلاح الماضي المسيطر علينا حالياً وربما مستقبلاً، خصوصاً بعد هذا الصعود السياسي الكبير للتيارات الإسلامية التي تريد الجماهير العربية إعادتها للساحة، وقد أعيدت إلى سوريا، ولها بيئة وقاعدة جماهيرية واسعة، خاصة بعد فشل تجربة الحكم السابق الذي أورث الناس القهر والجوع والعذاب والفساد والاستبداد، وبعد خلو الساحة تقريباً إلا من هذه الأحزاب الإسلامية التي خاطبت وتخاطب تاريخ الناس وهويتها ومشاعرها الدينية المغروسة في عمق وعيهم والتزاماتهم الفكرية، وتلامس قناعاتهم وعقائدهم الإيمانية.
وزيادة في التحليل المعرفي نقول بأن العلمانية والإسلام يلتقيان في فكرة الحرية والاختيار الفردي الحر، على الرغم من وجود نصوص دينية – غير محكمة – عديدة توحي بعكس ذلك عندما يتم تفسيرها وتأويلها من قبل كثير من علماء الدين المنتفعين والمتكسّبين على هذا النحو القدري الجبري، بهدف الإبقاء على حالة “الأصالة الدينية” و”صفاء الهوية النقية” المزعومة، والتي لم تجد لها أصداء قوية في الواقع العربي المجتمعي العام.. حيث أن العرب والمسلمين مندمجون كلياً في حداثة العصر، ولو من باب تبني حداثة الشكل دون حداثة المفهوم والنسق الثقافي والفلسفي الحضاري، فهذا الأخير يحتاج إلى وقت طويل، ودونه مراجعات نقدية وحفريات معرفية عسيرة..
المهم أن اجتماعنا الديني بدأ يتغير سياسياً لتبني خيارات سياسية تقوم على فكرة الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، وهذا أمر حيوي وتطور نوعي كبير للغاية، ينبغي البناء النوعي الجدي عليه؛ ومرده أساساً إلى حالة الانفتاح على تيارات الغرب الثقافية والسياسية المعاصرة، والتفاعل الكبير الذي نجم عن احتكاك كثير من نخب ومفكري الحالة الإسلامية مع واقع الغرب السياسي والفكري الحديث، ورؤيتهم عن كثب للنجاحات الباهرة التي حققتها تجربة الغرب “العلماني” الأوروبي والأمريكي على صعيد العلم والتجربة والتقنية والتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي، مقارنةً بالطبع مع تأخر مجتمعاتهم وتخلفها وارتكاسها الحضاري الكبير.