إقليميات

سوريا في قلب الصراع الإقليمي بين تركيا و”إسرائيل”

بقلم توفيق المديني

وأنَّ تقلص النفوذ الإيراني في سوريا يُعَدُ إنجازاً عسكرياً وسياسياً كبيراً لـ”إسرائيل”، غير أنَّ المستفيد الأكبر من الزلزال السوري على المستوى الاستراتيجي هو تركيا، لا سيما أنَّ مساعي الرئيس أردوغان لاستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية يُهَدِّدُ بتدهور العلاقات مع “إسرائيل”، مع احتمال نشوب صراعٍ مباشرٍ بين الطرفين.

وفي ظل هذه التغيرات شقتْ تركيا لنفسها مسيرة جديدة للسياسة الخارجية بعد أن تحرَّرتْ بطريقة ما من الوصاية الأمريكية وأعادت التوازن لعلاقاتها مع الولايات المتحدة. فتركيا اليوم لاعب كبير في الشرق الأوسط وسياستها مميزة مع الجيران المباشرين إيران والعالم العربي، وعلاقاتها أفضل مع روسيا واليونان وأرمينيا إضافة إلى أنَّ لها دبلوماسية مصالح وطنية مستندة إلى صعود الدور الإقليمي التركي.

ويشكل الصراع على سوريا جزءاً من المشهد الإقليمي المعقد الذي أفرزته الحرب السورية المستمرة منذ عام 2011. رغم عدم وجود مواجهة مباشرة بين تركيا والكيان الصهيوني على الأرض السورية، فإنَّ المصالح المتداخلة والأدوار المتناقضة تعكس صراعاً غير مباشر يمتد إلى قضايا أمنية، جيوسياسية، واقتصادية. في هذا السياق، يُثار التساؤل حول مستقبل هذا الصراع وما قد يترتب عليه في ظل التغيرات الإقليمية والدولية.

مخاوف تركيا من الانفصاليين الأكراد المدعومين أمريكياً وصهيونياً

من وجهة نظر تركيا تُعَدُّ سوريا امتداداً مباشراً لأمنها القومي ومجالها الحيوي، حيث تسعى إلى تأمين حدودها الجنوبية من خلال استهداف الجماعات الكردية المسلحة، مثل وحدات حماية الشعب، وهي ميليشيا مسلحة كردية غير معترف بها من قبل الحكومة السورية السابقة، وتشكل قواتها العمود الفقري لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”.

قاد انسحاب القوات الحكومية السورية من المناطق الكردية في سوريا منتصف عام 2012 إلى اتهام حزب الاتحاد الديمقراطي ومقاتلي الوحدات بالتعاون مع نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، مما وتّر العلاقات بين المقاتلين الأكراد والمعارضة السورية، خاصة بعد رفض هؤلاء المسلحين الأكراد السماح للمعارضين للنظام بمحاربته من المناطق الكردية. ورأى خبراء أنَّ العلاقة مع النظام السوري لم تصل إلى مستوى التحالف، بل عكست تفاهماً إستراتيجياً أو مجرد التقاء مصالح أبعد القوات الحكومية عن فتح جبهة جديدة، وسمح للأكراد بالتركيز على مسألة تحقيق حكم ذاتي.

وذكرت “مجموعة الأزمات الدولية” أنَّ وحدات حماية الشعب تدفع رواتب شهرية تبلغ نحو 150 دولاراً لما بين 25 و30 ألف مقاتل، وأنهم يتلقون ثلاثة أشهر من التدريبات في واحدة من تسع أكاديميات عسكرية تتوزع على المناطق الكردية الثلاث في سوريا. وأكَّدَ خبراء أنَّ المجموعة تعتمد في مصادر تمويلها على الضرائب التي تجبيها في المناطق الكردية، وعلى دعم حزب العمال الكردستاني الذي يحظى بمساندة شبكة من الممولين في أوروبا وتركيا والجالية الكردية في مناطق أخرى من العالم.

وبعد سيطرة تنظيم الدولة على مدن عراقية كبرى – بينها الموصل – وإعلانه “دولة الخلافة الإسلامية” في يونيو/حزيران 2014، أصدرت الهيئات التشريعية المحلية التي أنشأها الاتحاد الديمقراطي في المناطق ذاتها قانوناً يفرض الخدمة الإلزامية على الشباب والطوعية على الفتيات، ما رفع عدد عناصر الوحدات – بحسب تقديرات – إلى 65 ألفا.

وقام مقاتلو الوحدات الكردية بدورٍ رئيسيٍ في القتال تنظيم “داعش”، وشاركت في ذلك عائلات كاملة في مدينة عين العرب (كوباني)، مستفيدة من امتلاكها بعض الأسلحة الثقيلة والدبابات التي غنمتها من مجموعات مسلحة أخرى أو من قوات النظام في سوريا.

وخلال معركة استعادة بلدة عين العرب (كوباني) من سيطرة مؤقتة لتنظيم الدولة عليها في أغسطس/آب 2015، تلقت الوحدات دعماً لوجستياً أنزله – من الجو بواسطة المظلات – التحالف الدولي المناهض لتنظيم الدولة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، كما آزرتها وحدات من البشمركة الكردية العراقية المزودة بأسلحة متوسطة بعد مرورها عبر أراضي تركيا.

وشكلت وحدات حماية الشعب في أكتوبر/تشرين الأول 2015 ائتلافاً عسكرياً مع فصائل كردية وتركمانية وعربية وسريانية تعمل في الشمال السوري عرف باسم “قوات سوريا الديمقراطية”، وتمكنت من انتزاع سد تشرين الإستراتيجي في أقصى ريف حلب الشرقي من يد تنظيم الدولة، كما خاضت معارك مع كل من “جبهة النصرة” و”حركة أحرار الشام” في منطقة عفرين وفي حي الشيخ مقصود في مدينة حلب. وهي قوات شُكّلت من قبل الوحدات وحظيتْ بدعمٍ عسكريٍّ أمريكيٍّ.

فبعد أسبوعين من سقوط نظام الأسد، كشفت هيئة البث الصهيونية عن اتصالات يجريها مسؤولون صهاينة مع قوات سوريا الديمقراطية “قسد” مع الإشارة إلى وجود دراسة لدعم الأكراد “بطرق غير عسكرية”. وناقش وزير الأمن في الحكومة الصهيونية الفاشية إيتمار بن غفير ضمن اجتماع مصغر في الأسبوع الأول من شهر كانون الأول/ديسمبر 2024إمكانية تقسيم سوريا إلى كانتونات إدارية.

وتتالت التحذيرات الصهيونية للولايات المتحدة من التخلي عن قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، حيث دعا المحلل العسكري الصهيوني عيدو ليفي ضمن تقرير نشره في معهد واشنطن إلى استمرار الدعم الأمريكي لـ “قسد” من أجل تحجيم “هيئة تحرير الشام” التي استولت على السلطة في دمشق. كما طالب ليفي واشنطن بإعادة تقييم احتياجات “قسد” لضمان استمرار سيطرتها على شمال شرق سوريا، ومنع كلّ من الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، وهيئة تحرير الشام من السيطرة على المنطقة الشرقية من البلاد.

وفي 10 يناير/كانون الثاني ا2025 أبدت إلهام أحمد رئيسة دائرة الشؤون الخارجية للإدارة الذاتية (الذراع الإدارية لقسد) استعدادهم للتعاون مع أي جهة تطالب القوات الأمريكية بالبقاء في سوريا، ولا سيما الكيان الصهيوني. وتحاول” قسد” الاستفادة من تأثير الكيان الصهيوني في الأوساط الأمريكية لِثَنْيِ إدارة دونالد ترامب عن فكرة الانسحاب من سوريا، وتوفير بديلٍ إقليميٍّ في حال قرَّرَتْ واشنطن بالفعل تقليص حضورها في سوريا.

ومن الواضح أنَّ الكيان الصهيوني سيلعب بالورقة الكردية في مواجهة تركيا، وكان الرئيس التركي أردوغان قد اتهم في تشرين الأول/ أكتوبر 2024، خلال افتتاح الدورة الجديدة للبرلمان، حكومة نتنياهو بأنَّها ترغب في التوسع على حساب بلاده قائلاً: “الإدارة الإسرائيلية، التي تستند في تصرفاتها إلى وهم الأرض الموعودة، سوف تستهدف وطننا بعد فلسطين ولبنان، بعقلية دينية متعصبة.. تحلم حكومة نتنياهو بضم الأناضول، وقد كشفت عن هذا الهدف أكثر من مرَّة. نحن نتابع عن كثب الهجمات الإسرائيلية في فلسطين ولبنان، كما نلاحظ رغبتها في إنشاء كيان تابع لها في شمال العراق وسورية، باستخدام المنظمات الانفصالية كأداة في سياستها الخارجية”.

في هذا السياق تنظر تركيا إلى العلاقة التي تربط “قسد” بالكيان الصهيوني بقلقٍ بالغٍ، وتحاول تسريع الحسم العسكري الميداني، وهذا ما دفع أنقرة لتكثيف الهجمات الجوية على مواقع القوات الكردية قرب منطقة منبج التي تعتبر بوابة الوصول إلى الرقة. وقالت مصادر سوريا إنَّ قوات الحكومة الجديدة جرحت وقتلت العشرات من “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، في معارك على محاور عدة بريف دير الزور شمالي شرق سوريا. وأشارت المصادر إلى أن إدارة العمليات العسكرية أرسلت تعزيزات عسكرية تجاه شمال وشرق سوريا، بالتزامن مع هجمات شنتها فصائل الجيش الوطني المدعوم من تركيا على المناطق المحاذية لمنطقة عين العرب.. وتُعارضُ تركيا أي تحركات صهيونية  تعزز النفوذ الكردي في المنطقة، بينما يراقب الكيان الصهيوني بحذرٍ التحركات العسكرية التركية شمال سوريا وتأثيرها على التوازن الإقليمي.

إنشاء منطقة إسرائيلية عازلة داخل سوريا

يُرَكِّزُ الكيان الصهيوني على مواجهة التهديد الإيراني في سوريا، خاصة فيما يتعلق بنقل الأسلحة إلى حزب الله وإنشاء قواعد عسكرية إيرانية بالقرب من الحدود مع فلسطين المحتلة، والجولان المحتل. وعلى الرغم من تداخل المصالح التركية والصهيونية أحياناً، مثل رفضهما للوجود الإيراني المتزايد، فإنَّ تناقض الأولويات قد يؤدي إلى تصادم غير مباشر.

وكانت تركيا قد بدأت إطلاق تحذيراتٍ من التوسع الصهيوني في سوريا قبل سقوط نظام الأسد، وواصلت تحذيراتها في المرحلة التي تولتْ فيها إدارة جديدة البلاد، ففي أكتوبر/تشرين الأول 2024 حَذَّرَ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أنَّ الكيان الصهيوني يتحرك نحو دمشق، وأنَّ سيطرته على العاصمة السورية قد يؤدي إلى تغييرٍ كبيرٍ في الخريطةِ الجيوسياسيةِ لأنَّها قد تمتد إلى الشمال السوري وتهدِّدُ الحدود الجنوبية لتركيا.

وفضلاً عن ذلك، تشهد المنطقة تنافساً على مشاريع الطاقة والبنية التحتية المستقبلية في سوريا. الكيان الصهيوني  يسعى لحماية مصالحه في حقول الغاز في شرق المتوسط، بينما تُروج تركيا لنفوذها الاقتصادي عبر مشاريع إعادة الإعمار واستغلال الموارد المحلية.

ويعتمد الكيان الصهيوني بشكلٍ كبيرٍ على الدعم الأمريكي في تحركاته في سوريا، سواء من خلال المعلومات الاستخباراتية أو الغطاء السياسي للعمليات العسكرية. في المقابل، تركيا تنسق بشكل وثيق مع روسيا، التي كانت تلعب دور الوسيط بين أنقرة والنظام السوري وتسمح بتحركات عسكرية محدودة لتركيا.

خاتمة

مع اشتداد التنافس الإقليمي والدولي، تبدو سوريا عالقة بين أطماع القوى الكبرى ومصالح اللاعبين الإقليميين. تركيا تسعى لتعزيز دورها كقوة رئيسية في إعادة الإعمار، بينما يخشى الكيان الصهيوني من تبعات أي تغيير في النظام السوري قد يعيد تشكيل الخارطة الأمنية في المنطقة.

المتغيرات الدولية، مثل التوترات الأمريكية مع كل من تركيا وإيران، قد تُعيدُ تشكيل ديناميكيات الصراع. فإذا شهدت المنطقة تحالفات جديدة أو تغيرت الأولويات الأمريكية في سوريا، فقد يؤدي ذلك إلى تقارب أو تصعيد في الصراع التركي – الصهيوني. فعلى الرغم من التحذيرات التركية، يبدو أنَّ أنقرة لا تزال تُفَضِّلُ الطرق الدبلوماسية. ففي آواخر ديسمبر/كانون الأول 2024 أوضحت القناة 12الصهيونية أنَّ الجانب التركي نقل رسائل إلى الكيان الصهيوني من أجل فتح قنوات تنسيق واتصال في سوريا، في خطوة تعكس رغبة أنقرة بعدم حصول صدام بين قواتها والقوات الصهيونية.

ومن غير المستبعد أن يلجأ الطرفان التركي والصهيوني في نهاية المسار لتفعيل قنوات اتصال فعالة في سوريا، والعمل على مناقشة المخاوف المتبادلة سواء الدعم الصهيوني لأكراد سوريا، أو تخوف تل أبيب من تهديد هضبة الجولان من قبل الإدارة السورية الجديدة.

وقد تلعب إدارة ترامب التي استلمت السلطة رسمياً في البيت الأبيض دوراً فعالاً في مثل هذا التنسيق، إلى جانب دول إقليمية أخرى تمتلك علاقات جيدة مع كل من تركيا والكيان الصهيوني. وبالفعل ظهرت مؤشرات توحي بإمكانية تدخل إدارة ترامب لمنع المزيد من التوتر في سوريا حيث كشفت القناة 12 الصهيونية في 13 يناير/كانون الثاني 2025عن نصيحة وجهها مسؤولون في إدارة ترامب لتل أبيب بتجنب الإدلاء بتصريحات ضد الحكومة السورية الجديدة. لكنَّ الصراع التركي الصهيوني سوف يستمرُ في سوريا بشكلٍ غير مباشرٍ، من خلال دعم الأطراف المتناحرة أو تصعيد العمليات العسكرية المحدودة التي تستهدف تحقيق مكاسبٍ استراتيجيةٍ. تركيا ستسعى لتقليص النفوذ الإيراني، ولكنَّها قد ترى في التحركات الصهيونية تهديداً لتوازن القوى في المنطقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *