الهويّةُ بينَ الدِّينِ والوَطَن
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
تعني الهوية أنْ يكونَ لشعبٍ ما من الشعوب ثوابت ثقافية وتاريخية ودينية متجذرة تجعله يشعر بأنه ينتمي لأمة انتماءً عضوياً عميقاً.. إنها حالة شعورية نفسية من الوعي بالاختلاف والتمايز عن الآخر.. شعورٌ وتمييز لـ”نحن” مقابل “هم”، (ميزات فرد أو مجتمع أو أمة عن غيرها).. بحيث تشكل وعاءً للضمير الجمعي لهم..
فاللغة مثلاً مكون وعنصر أساسي من عناصر الهوية، يتحدث بها الناس في مجتمعهم، ويعبرون من خلالها عن أحلامهم وتطلعاتهم، وينقلون عبرها تراثهم من جيل إلى آخر… والدين أيضاً يشكل هوية مهمة لكثير من الشعوب، تعتز وتفخر بالانتماء إليه.. وتحاول مأسسة حياتها بالاستناد لقيمه وأحكامه وشريعته..
وقد أسهم الدين الإسلامي بقوة في بناء وتأسيس الهوية العربية الإسـلامية التي تقـوم على أربعـة أسـس وعنـاصر: “العقيـدة، التـاريـخ، اللغة، الأرض”.. وتجمعت هذه العناصر الأربعة في الأمَّة بمجموعها عن الهويـة الإسـلامية، وقد تضيـع هـذه الهويـة إن ضـاع الفرد عن دينه.. قال تعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾] التوبة: 122[، وقال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾] آل عمران: 110[.. وهوية الأمة أضحت في العمق قيمية خيرية تدعو لقيم الخير والمحبة والسلام والتفاعل الخلاق المنتج..
لقد باتت الهوية ركناً مهماً وحيوياً من أركان الدولة الحديثة.. حثث أنه ومنذ بداية عصر النهضة سعى جمهور الفلاسفة الأوروبيين إلى تغيير هذه الصورة النمطية المعروفة والثابتة عن الهوية من خلال إعطائها معنى جديداً متغيراً ومختلفاً كلياً عن كل المفاهيم السابقة النمطية السائدة، بما فيها المفهوم الديني التقليدي المعشش في الأذهان والمجتمعات التقليدية، والذي قدم لنا الهوية (كما جاء في المسيحية، وفي غيرها من الأديان) كمعطى أو كقيمة معيارية اصطفائية ثابتة خالدة غير قابلة للتحول.. حيث اعتبر هؤلاء الفلاسفة التنويريون أن “الفرد-الإنسان” هو قيمة بذاته، ويجب أن يكون هو قاعدة وجوهر أية هوية إنسانية، من حيث أنه كائن عقلاني يعي ذاته ووجوده، ولديه من الاستعدادات والقابليات الذاتية التي تجعله مؤهلاً وقادراً على بناء وجوده الخاص والعام، وتحديد غاياته وصناعة مصيره ومستقبله، وبالتالي بناء هويته الذاتية الداخلية الفردية، والموضوعية الخارجية الجماعية، مؤكداً استقلاليته تجاه سلطة الماضي، وقسر العادات والتقاليد.
لكن المشكلة التي واجهت أصحاب هذه النزعة الهوياتية الذاتية (ويقف الفيلسوف جون لوك على رأس هؤلاء) هي في جفاف و”يباس” و”ميكانيكية” و”وظيفية” هذا المعنى للهوية المتحركة المبنية على تعاقدات اجتماعية وسياسية بشرية وضعية غير دينية.. إذ كيف يمكن إعطاء الهوية معنى روحياً حيوياً – مطلوباً بطبيعة الحال – لتحقيق الذات في أصالتها وخصوصيتها، في ظل هذا المعنى أو الطابع المادي الوظيفي العضوي للهوية، المرتكز على حالة شبه إلغاء كامل لمجمل الأبعاد الوجودية واللاهوتية والتمظهرات الثقافية التاريخية، بعد استبداله بهوية الحياة الفردية العادية الجافة ذات “الاقنوم” الواحد، القائمة على فاعلية الإنتاج وآلية التبادل فقط؟!!!.
في الواقع لا يمكن إلغاء المعنى الروحي كجانب جوهري لأية هوية فردية أو جماعية على الإطلاق، لأنه يتصل بتاريخ الأمة والمجتمع والحضارة التي يعيش الفرد في كنفها، ويمارس حياته من خلالها.. ولا يمكن بالتالي، لأي إنسان أن يحقق عمق وهدفية وجوهر إنسانيته من دون إضفاء هذه الظلال الوارفة والمعاني الروحية الوافرة على هويته التاريخية والثقافية.. أي من دون وجود محددات وأنماط وأنساق انتماء خصوصية تشكل معايير وأسس الهوية الفردية.
وهذا ما رأينا حتى في الدول الغربية، فالمعروف أنَّ كثيراً من الثورات والانتفاضات الشَّعبية التي جرتْ في الغربِ، والتي ناضلَ فيها الناسُ للوصول إلى مبادئهم ونيلهم حريتهم واستقلالهم والاعتراف بحقوقهم الإنسانية، وعلى رأسها قيم العدل والكرامة والحرية، كانَت الهوية الدينية فيها حاضرة بقوة في نداءات الثوار وفي مسالكهم وأعمالهم، ونداءاتهم ودعواتهم للتمرد على الطغاة والمستبدين والحكام الظالمين، حتى أنّ الثوارَ الأمريكيين كانوا يرون (ويعتقدون ضمناً) أنَّ التّمردَ على الطغاة طاعةٌ لله، وكيف أنَّ الدين – قبل الثورة وبعدها – وفّر المبادئ الأخلاقية والسياسية للثوار، وصاغ الأمة الأمريكية الجديدة.. فلا عجب أن ينص إعلان الاستقلال الأمريكي – في صدره – على أنّ الحقوق الإنسانية الطبيعية “منحة إلهية”، بدلاً من وصفها بأنها “حقوق طبيعية” على ما هو شائع في الفلسفة السياسية الأوروبية، بحسب ما رآه المفكر توماس كيد (أحد أهم دارسي الفكر والتاريخ السياسي الأمريكي) في كتابه “رب الحرية: تاريخ ديني للثورة الأمريكية“..
هذا يعني أن الدين هو من ثوابت هوية الأمريكان الوطنية، على الرغم من أنهم علمانيون في سلوكهم السياسي ومصالحهم الاقتصادية.. وهذه الهوية الدينية (البروتستانتية) عندهم كان لها دور كبير وحيوي في تحررهم ونيلهم استقلالهم..
واليوم تتواجدُ في الغرب كثيرٌ من الحركات والأحزاب ذات الهوية الوطنية الدينية التي لها أطر وهياكل ومؤسسات ديمقراطية واضحة من القمة إلى القاعدة في داخلها، وفي ممارسة السلطة خارج إطارها، فهناك مثلاً الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني، وهناك الحزب المسيحي الديمقراطي الإيطالي، بل هناك أيضاً حزب “شاس” وهو حزب تلمودي متطرف في الكيان الصهيوني، وهذا كله يعني أن المرجعية الدينية يمكن أن تكون هوية بذاتها.. وإذا كانت الفضاءات السياسية الغربية قبلت نشوء أحزاب على أسس هوياتية دينية مسيحية أو يهودية، فلماذا بقيت السياسة الرسمية العربية رافضة لفكرة قيام ونشوء أحزاب سياسية على أسس هوياتية دينية خاصة مع قناعتها بالعمل التعددي الديمقراطي، وإيمانها بها تحت سقف القانون والنظام العام، والالتزام بدولة المواطنة؟.
وإذا كان هذا ما جرى في الغرب، فلماذا نجد بعض العرب والمسلمين ما زال يقيم علاقة ملتبسة وشائكة مع هويته الإسلامية، وينزع لإهمالها بل ومحاربتها..؟!..
للأسف هو التغريب السافر الواضح المعبر عن ضحالة ثقافية، واستلاب وتبعية حضارية، وخضوع لاتجاهات السياسات الرسمية (لكثير من دولنا العربية والإسلامية) القائمة على ثقافة وسياسة الاستهلاك الفارغ، والدوران في فلك السياسات الغربية دونما أدنى اعتبار لإرث هذه الأمة الإسلامي..
مقصودي هنا هو أن الدين الإسلامي هو مناط الهوية الإسلامية شاء من شاء وأبى من أبى، كما أنه يشكل العنصر الجوهري الحاسم في كل نسيج الهوية العربية الإسلامية.
وهو (الدين الإسلامي باعتباره هوية حضارية) ملازم لفكرة وقيمة المواطنة؛ لأن المواطنين يحتاجون إلى نظام سياسي واقتصادي واجتماعي، وقوانين تحكم هذه العلاقة، وتبني هذه العلاقة على اتجاهات وقيم ومعتقدات وعادات وتقاليد وموروث ديني واجتماعي يطلق عليه الهوية.
ومن هو أهم من هذا الدين العظيم للم شمل الأمة، وبناء علاقة اجتماعية توافقية فيها، يجمعها كهوية وكعلاقة مواطنة منفتحة..
إننا نعتقد أن الإسلام – الذي كانت قيمة العدل (ومبدأ الحرية الإنسانية) في صلب دعوته العقيدية – مستعد وقابلٌ ذاتياً (معرفياً وفلسفياً وعملياً) لاستيعاب كافة تجارب وحركات ومواقع الأمة الداعية لهذه القيمة – المبدأ.. وقد فعلها سابقاً في التاريخ..
نعم، إن هذا التلاحم العضوي بين الدين والحرية (كجوهر لفكرة المواطنة) قائم وموجود أيضاً في بنية الإسلام نفسه، وهو الذي كان وراء تفجّر كل الثورات والانتفاضات الاستقلالية الوطنية التي اندلعت في بلداننا العربية والإسلامية طلباً للتّحرر والانعتاق من ربقة المستعمر الخارجي (وحتى المستعمر الداخلي المستبد) في كثير من مفاصل حركة التاريخ العربي والإسلامي قديماً وحديثاً، حيث تحوّل الدين (الإسلام) إلى أكبر ملهم وأعظم دافع وحافز لقضية الحرية وغيرها من الحقوق الإنسانية، وكان منارةً للاستهداء والمعنى القيمي والواقعي..
وهذا الإسلامُ هو هويتنا التي نحتاجها – وهذا ما فشلت فيه وعجزت عنه الدولة التحديثية العربية منذ عهود الاستقلال الشكلي عن المستعمر الخارجي – إلى بناء وتأسيس أو مأسسة صيغة مجتمعية سياسية مدنية يرضى عنها الناس، ويتوافق عليها المجتمع (لا أن تفرض قسراً من علٍ)، تهيئ الأجواء، وترعى وتحفظ وتوفر أرضية حرة لقناعات الجميع ولأفكار وتقاليد الجميع، لكي يعبروا عنها بصورة سلمية حضارية مدنية في الهواء الطلق ودونما تضييق أو كبت أو خوف.