فضاءات فكرية

الديمقراطية عند العرب بين عدالة الإسلام وتجذّر العقلية القبلية

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

نعم، الديمقراطية وسيلة لتنظيم حركة المجتمع سياسياً، وآلية للحكم وتجسيد قيم الدولة وتطبيق قوانينها فيه، وتتجلى في مشاركة الناس في التحكم بقرارها ومصيرها عبر آلية الانتخاب لإيصال ممثلي الشعب إلى مواقع الحكم.. بحيث تتجسد واقعياً وعملياً إرادةُ الشعوب كمصدر للسلطة، ولشرعية الدول وسيادتها الحقيقية على أراضيها ومواردها وثرواتها.. والديمقراطية بالنهاية هي مظهر أساسي من حكم المواطنة القائم على التعددية السياسية، والتداول السلمي للسلطة، وإشاعة الحريات العامة والخاصة، ومنح الحقوق واحترامها وتجسيدها وصيانتها وضمانها بالدستور والقانون، وتحقّق مساواة الجميع أمامه.  

هذه الآلية السياسية العملية باتت أفضل نظام سياسي إجرائي توصل إليه الإنسان في حركته التاريخية لضبط موضوعة السلطة، وضمان مشاركة المجتمع في توجيه دفتها وتقرير مصائر ناسه من خلالها على المستوى والصعيد الاقتصادي والمعيشي والسياسي وغيره.. وقد انتظمت في تطبيق هذه الفكرة السياسية الغالبية العظمى من بلدان العالم، بعدما ثبت عملياً وبالأرقام والنتائج، أن كل أشكال السلطات الأخرى عجزت وفشلت في تحقيق غاية السياسة في تمثل قيمة العدل السياسي وغير السياسي، وتأمين حقوق الناس ووصولهم لحاجاتهم بسلاسة ودونما تقييد، وبناء أسس الدولة الحديثة في ازدهارها الاقتصادي والعمراني وغيره.

لقد سادت في كثير من بلدان العالم ومنها بلداننا العربية، أنماطٌ من الدولة كانت عبارة عن أشكال صورية غير ذات معنى من الديمقراطية التي كانت سائدة (وربما لا تزال) في كثير من مجتمعاتنا ودولنا العربية والتي يتم فيها الاستناد على أفكار وأشكال سياسية متخشبة مزيفة وديكورية من الديمقراطية تختزن تحتها حكم الاستبداد والتفرد بالسلطة والثروة، وتحقق هيمنة مطلقة للأحزاب الشمولية التقليدية منها والحديثة.

وقد لاحظنا مع بداية العقد الثاني من هذه الألفية أن الشباب العربي اجتاح ساحات وميادين بلدانه، ونزل إلى الشوارع كاسراً حواجز الخوف، ومعلناً في وقتها ضرورة الانفتاح على خيارات الشعوب والتحول للحكم الديمقراطي المدني… وما جرى لاحقاً أوصلنا للأسف إلى نتيجة أن الديمقراطية لم تتحقق والتداول السلمي التعددي لم يبدأ في عالمنا العربي، وأن قطار التنمية الحقيقي القائم على المشاركة والعدالة توقف بعد مسير قليل.

وهذا يدلنا حقيقة على أن الديمقراطية ليست مجرد شعارات وأناشيد نتغنى بها، وهي لا تعني فقط إجراء الانتخابات وانتخاب الممثلين عن الشعب، بل هي أساساً وقبل أي شيء آخر مقدرة الناخب أو الفرد الحر والواعي على الاختيار العقلي الصحيح الخالي من أي نوع من أنواع القسر والقهر والإكراه والغلبة والزيف الفكري والثقافي.. فلا ديمقراطية من دون أسس وقيم وثقافة ديمقراطية تجعل الفرد واعياً لما حوله ولمن حوله من أشخاص ورموز وأفكار وتيارات.. أي أن يكون الفرد صاحب اختيار عقلاني حر مصان بالقانون والدستور، وبعيداً عن أي لون من ألوان الإكراهات المادية والرمزية المعروفة.. بحيث يكون مدركاً لكامل حقوقه التي يبتغي تحقيقها وإنجازها عبر مؤسسات الدولة من خلال المجالس الشعبية المنتخبة إرادياً.

وهنا نسأل: هل تتوفر مناخاتنا السياسية والثقافية العربية – التي انطبعت طويلاً بطابع الملك العضوض، وولاية التغلب والمتغلب وهيمنة عقلية القبلية البعيدة عن اختيارات الناس – على هذا الشرط الجوهري للبدء بعملية التحول الديمقراطي الحقيقي المنشود في بلداننا العربية؟ أي هل أن الفرد العربي حر في اختياره عندما يذهب لتأدية واجبه (وحقه) الوطني إلى صناديق الاقتراع لينتخب هذا المرشح أو ذاك الحزب؟ هل يعلم عنهما شيئاً؟ وهل علمه بالمرشحين مدروس وقائم على اختيار نوعي حر؟ أم أن الأمر هنا مجرد تقليد شكلي أعمى، وحمّى جماعية تقوم على تأييد هذا المرشح أو تلك الكتلة أو ذاك الحزب لمجرد رفعه شعارات مؤطرة ومزينة ومزخرفة بتلاوين وشعارات دينية أو لمجرد انتمائه لمجال تاريخي ديني محدد خاص بهذه الفئة أو تلك، أو لمجرد أنه يخاطب مشاعر وعواطف دينية خاصة؟!.. فهل الوعي وحرية الاختيار هي معيار الانتخاب في مجتمعاتنا السائرة نحو الديمقراطية حالياً؟.. ثم إن الناس عندما انتخبت وصوتت لكتلة علمانية من هنا، أو كتلة إسلامية الطابع والفكر والامتداد من هناك، أدت لفوز تيار إسلامي مثلاً، هل كانت تدرك تمام الإدراك بحقيقة برامج تلك النخب والأحزاب، ووعودها الانتخابية، ومدى القدرة والإمكانية الموجودة لديها على تنفيذ ذلك؟!!.

نعم هذه هي الديمقراطية كآلية حكم وانتخاب يسمح لأصحاب التأييد الشعبي الأكبر والأعلى في الوصول إلى السلطة من حيث الإطار والإجمال العام، وهي تقضي هنا القبول بنتائج الصندوق بقطع النظر عن المقدمات والأسباب والدوافع ومستويات الوعي ومعايير الاختيار الصحيح.. أي أن قبول النتيجة مسألة أساسية لكل الأطراف واللاعبين السياسيين، مهما كانت المعطيات التي أنتجها هذا الصندوق..  ولكن هذا شرط لازم غير كاف.. لأن كفايته لا تتم، والتحقق الكامل للديمقراطية الحقيقية لا تنجز عبر ما يسمى بالديمقراطية العددية، إذ لا بد من دون وجود ثقافة ووعي وحداثة فكرية تقوم على إعطاء الفرد حريته الكاملة في اتخاذ قراراته وتحديد مصائره بوعي وإرادة واعية كاملة من دون قسر فكري ديني أو غير ديني.. وهذا ما نراه ونعاينه في كثير من مجتمعاتنا حيث تستثمر الأديان والنصوص الدينية في الصراعات السياسية لمصلحة هذا أو ذاك، ولإسقاط هذا وتصعيد ذاك.. وعدم وجود الوعي والحرية قد يؤدي لتشويه العملية والفكرة الديمقراطية برمتها، حيث أنه من الممكن أن يؤدي الوعي الشعبي الساذج إلى صعود أفكار وقيم وطروحات متعصبة وأحزاب عنصرية متطرفة قد تلغي كل العملية الديمقراطية وتنقلب عليها، وتبدأ بتشكيل وتطبيق مثلها وبرامجها ومعالمها ومعاييرها وأفكارها الخاصة على المجتمع الذي انتخبها ديمقراطياً (بالمعنى الشكلي لها طبعاً) فترجعه وتعيده عشرات بل ومئات السنوات نحو الوراء من خلال تشريعاتها الماضوية حول الهوية والمرأة والعمل وغيرها.

ولهذا لا بد من أن نقرّ ونعترف هنا بأن الطريق والمسير العربي نحو الديمقراطية الحقيقية لا الشكلية طويل وطويل جداً، ودونه صعاب وتلال وتحديات جمة متنوعة الأشكال والألوان على الصعيد السياسي والاجتماعي والثقافي؛ ولن تصل مجتمعاتنا العربية إلى غايتها في تجسيد الحكم الديمقراطي التعددي والحقيقة الديمقراطية إلا بعد خوض سجالات وتدافعات ثقافية وسياسية عديدة طويلة..

وتمكُّن تلك المجتمعات من إزاحة نظم الاستبداد التاريخية التي كانت مهيمنة على مجالاتنا كلها (مثلما جرى أخيراً في سوريا نهاية العام الماضي 2024م)، ليس إلا بداية طريق الألف ميل باتجاه التمكن الديمقراطي الذي هو مسألة معقدة ومركبة كما ذكرنا.. فنبتة الديمقراطية لا تزال طرية وغضة العود وفي بداية نموها في تربتنا العربية، بكل ما فيها من أجواء وأحزاب وتعقيدات، وبكل ما مرّ عليها من عواصف الاستبداد والقمع على مديات زمنية طويلة، لا بد من رعايتها والعناية بها جيداً كي تنمو نمواً سليماً ومعافى، وتزدهر وتثمر وتبدأ بالإنتاج خاصة على صعيد التأصيل الثقافي والمعرفي لحقوق الإنسان (حرية – مساوة – عدالة) التي لا تزال غائبة أو مغيبة عن أجندات كثير من حركات التغيير السياسي العربي..

طبعاً ليست لدينا هنا أية رؤى أو معالجات سحرية ولا حلول فورية، باعتبار أن ذلك كله مرهون للسجال والصراع السياسي الداخلي وخوض غمار النضال السلمي التحديث العقلي والمعرفي المتواصل لقيم ومفاهيم التراث القائم والمركوز في الوعي الشّعبي، والعمل على تخفيف الحمولة الأيديولوجية الثقيلة التي تنوء تحتها مجتمعاتنا، ولا تزال تكلِّفها الكثير من الخسائر المادية والمعنوية..

ولا نعني هنا أن الدين هو الذي جعل الناس والأمة عموماً تتقهقر وتتراجع، وينحسر عطاؤها عن ساحات التبادل الحضاري العالمي منذ أمد بعيد، بل وعلى العكس من ذلك، فنحن ننتقد تحويل الدين إلى موقع للاستثمار السياسي والاستخدام النفعي والتخويف الاجتماعي، حيث نرى في بعض البلدان التي هيمنت عليها تيارات دينية بروز نتوءات نافرة متعصبة غير عقلانية في اجتماعها الداخلي.. رغم أنه يجب أيضاً عدم تحميل الدين بما لا يطيق من أفكار وحمولات معرفية وسياسية لإضفاء المشروعية الدينية على أناس وحكام حكموا بقوة التغلب والقهر والاستبداد، فهذا هو الذي عطل مواقع الإبداع والعطاء والإثمار الحضاري والازدهار التنموي في كافة مواقع (وأوصال) هذه الأمة.. وهو الذي أسهم في تقديم صورة نمطية وحيدة عن الدين من حيث هو سلطة مطلقة وحقيقة عليا تمامية، والتزام نصوصي قدسي فوق إنساني، يقوم على قواعد صارمة من الإلزامات السلوكية الشكلية القادمة من عوالم الفقه والوعظ الفقهي العتيق.. هذا ما أدى إلى إغلاق عقول الناس على قيم الماضي البعيد الجميلة، وحطم كوامن تفجرها الإبداعي وإراداتها الذاتية التي كان من المفترض أن تدفعه وتحثه على العمل والإنتاج والإبداع والمشاركة في الخلق والفعل، وعدم الانزواء في الزوايا والتكايا المقدسة هنا وهناك.. وهذا هو الفهم المغلق للدين والهوية الدينية. أما الفهم الآخر للدين القادر على بث روح العمل في نفوس المؤمنين به، فهو دين الحرية، دين الاختيار الحر الواعي، الذي يمكن اعتباره مرجعية معنى متنوعة، ورأسمالاً معنوياً وحضارياً لمجتمعاتنا العربية، ومنظومات فكرية وأخلاقيات عامة تنشد الجمال والكمال الروحي للذات الفردية..

وهذا الفهم العقلاني لحركية الدين والتدين هو الذي يمكن أن يدفعنا لممارسة عقلانيتنا وحداثتنا – والانخراط في ميادين العمل المعاصر والمستقبلي – بصورة منتجة وفعالة ومؤثرة.. والتفاعل مع الحياة بعقلية التشارك والتبادل والحوار والتداول والتحول المبدع على مستوى الفرد والمجموع والدولة ككل.

لهذا يمكن القول إن التوافق على صيغة سياسية لتداول الحكم ومنع احتكار السلطة والقرار، تحت أي مسمى كان (حتى لو كان مسمى دينياً)، هو الأمر الجوهري والفكرة الأساسية من وراء مصطلح الديمقراطية..

فالإسلام دين عملي أقام وجوده على قيمة العدل، وهي غاية السياسة أيضاً.. وقد لحظ هذا الدين حق انتخاب الأمة لحاكم عام لها، ولممثلين ينوبون عنها يتولون شؤون مساءلة الحاكم ومحاسبته، ونصحه وتقويمه وتسديد أداء الدولة وأجهزتها، وهذا بالأساس هو حكم شرعيٌ استمد من الشريعة نفسها وليس من رغبات الناس، يقول النبي الكريم(ص): “ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه” (صحيح مسلم الحديث1844).. ويقول(ص): “لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمّروا عليهم أحدهم” (المعجم الأوسط للطبراني، حديث 8093)، حيث أناط الشرع سلطة انتخاب الحاكم بالناس أي بالأمة شرط عدالته، كما بين شرعية جواز النيابة وتمثيل الآخرين حيث طلب ذلك النبي الكريم صراحة من وفد المدينة، عندما سألهم أن يخرجوا له منهم اثني عشر نقيباً يكونون كفلاء له على قومهم. حيث قال الرسول للنقباء: “أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي” (تاريخ الطبري، ج2، ص93).. وأما المحاسبة والتقويم فتدخل ضمن مجال وفكرة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر“، وضمن “التعاون على البر والتقوى“.. وهي عبارة عن أحكام شرعية منضبطة بأدلتها المستقاة من الكتاب والسنة ومحددة بكيفيات وترتيبات معينة، لا مجال للخوض والتوسع فيها في هذه العجالة.

نقول هذا الكلام لنؤكد أن الدين لا يمانع إقامة صروح الدول السياسية على أسس العدالة والتمثيل السياسي الحقيقي وفكرة التداول السلمي للسلطة.. إذ أنه وبصرف النظر عن الأسماء والعناصر، هو (أي الإسلام) يستهدف فقط إسقاط عقلية القبيلة، ومنع الاستبداد ورفض فكرة الاحتكار والتحكم بالقرار، وجعْل الناس قادرة على تحمل مسؤولياتها والإشراف على شؤونها بوعي وعدالة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *