كل الجنانِ سواك منفى “إلى صديقي الذي رحل باكراً”
بقلم غسان عبد الله
وأتيتَ.. فانتشرتْ أمامي ألفُ دنيا من عبير.. وغرقتُ في الحلم الوثير.. وتوهّجتْ كلُّ الجنان بوجهكَ الزاهي النضير.. حتى المدينةُ أصبحتْ أملاً، سرَتْ فيها الحياة، وهي التي رقدت على صدر المنون!!.
في الليلة الأولى رأيتُك فانتفضتُ مع المساء.. ورقصتُ كالعصفور تفتنهُ تباشير الضياء.. ولمحتُ وجهكَ من بعيد.. فأنَخْتُ قلبي كي تحلَّ فيه حتى ينتهي ليلُ العويل.. قلبي المدمى من سهام الغدرِ، من خلقِ الصدود..!!.
لا ترحلْ يا قِبلةَ الشمسِ المشعةِ في مساءاتِ الروح!!، لا ترحلْ!! فأنا بدونكَ وردةٌ ذبُلَتْ وغادَرَها الأريجُ، فجرٌ تكنَّفَهُ الضبابُ.. وطنٌّ يُحِسُّ الاغترابْ.. لا ترحلْ.. فأعيشُ دونَكَ نجمة تبكي شريده.. فَقَدَتْ بريقَ الحبِّ والتحفتْ منافيها وحيدة.. لا ترحل.. إني أَلِفْتُكَ.. واسكن في القلبِ.. في ضوءِ العيون ولتعصفْ بي كالرياح!!.. وتملُكُني كالجنون.. وترجَّلْ من على مُهرةِ الرَّملِ المعبَّأ بالسموم.. ولتصعدْ هذي الجبالَ معي إلى حَدَقِ النجومِ، ما أجملَ الدنيا تلوحُ لشاعرَينْ.. أملاً أرادا أن يلفَّهُما بفضل وشاحِه زمناً وليسا قادرَيْن.
إني لأحزن مثلَ حزنك حين تحتضر المنى خُضْراً وما زالتِ ندِيّة وأسائلُ السمّار عن معنى الحياة وأسائل النسمات عن معنى المنيّة.. وأهيمُ مثلك بالترحُّل في مروجٍ من سراب رسَمَ الخيالُ صِوى مجاهلَها.. تتيّمُني للمسافاتِ البعيدة.. بيني وبينك ألْفَةٌ من ألف عام أو يزيد فلترتديني خاتماً دفنته أزمنةُ الجليدْ.. إني أقوم الآن من كفني تراقبني القبور نسراً يحلق فوق هامات العصور.. هذا جناحي فامتطيه فإن رحلتنا طويلة لا يستريح لها الأمير ولا تباركنا القبيلة.. أيُّ المدائن شبَّ فيها العشقُ لم يُصرع بأروقةِ الظلام.. أيُّ المدائن في صحارينا المديدة لم تستَبْحْ فرحَ الطفولة.. أيُّ المدائن أخبرني في حماها فارس نفخت عباءته الرجولة.. يا بهجةً في عتمة الوطن المعبّأ في الكآبة.. حلّت كما حلَّ الربيع وغادرت مثل السحابة.. ما زال صوتكَ في القلوبِ وفي الأحاسيسِ انتشاءً.. ما زالَ سحراً في الربى.. ألَقاً يشعُّ مع الضياءِ.. إني لأعجبُ كيف أشْعَلْتَ المحبةَ كالحريقِ فجعلتَني أشكو وأبحثُ عن طريق حتى أجيء إليكَ شوقاً حين يلفحُكَ الحنينُ أو خاطراً يطوي الفواصل بالأمان يسبقُ الذكرى إليكَ يتسلَّقُ الشرفاتِ.. يقتحم الشرود بناظريك..
إني لأعجب كيف أيقظتَ المراجل في كياني وأنا الذي عافَ الهوى وأرابه نَزَقُ الأماني.. في كلِّ منعطف لأشواقي الشغوفةِ بالرحيلِ ألقاكَ حلماً يزرع الأيام حباً.. مطراً يروي الظامئين إلى اليقين.. يا موجةَ العشقِ المخبّأ خلفَ أصداءِ الشجون.. إني أحسك في الندى في بسمة الصبح الحنونْ.. كلُّ الجنانِ سواكَ منفى وأنا المكبّلُ بالزمانِ وبالمكانْ.. أرجوكَ مكرمةً وعطفاً فكَّ قيودي واحضنْ تعبي لأشعر بالأمان.