فضاءات فكرية

سياسات التّكالب الغربي على المنطقة العربية وفشل العرب في رهاناتهم الخارجية

بقلم نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

وحتى لا نطيل التحليل والملاحقة الفكرية والتاريخية التي تغطي موضوع المقال، سنكتفي هنا فقط بتسليط الضوء على ذاكرتنا الجماعية التي تختزن في سجلاتها الكثير عن سياسات الصراع والقوة التي فجرتها قوى العالم الغربي المتكالبة على منطقتنا خلال القرن الماضي.. ففي داخل هذه الذاكرة – الممتدة لأكثر من مائة وعشرين عاماً – الكثير من التدافعات والاحترابات والصراعات والخرائط المرسومة لنا لمنطقتنا هذه التي ارتهنت مرغمةً لكثير من الأجندات الاستعمارية المتمحورة حول غرض واحد هو تركيز وتوسيع مصالحها ومنافعها ومنع التغيير النوعي الإيجابي فيها.

ففي بداية القرن الماضي كانت المنطقة خاضعةً للإمبراطورية العثمانية التي امتدت فترة إقامتها واحتلالها للمنطقة ما يزيد على ستة قرون، واستمرت حتى تحولت لرجل مريض وانهزامها في الحرب العالمية الأولى عام 1918م، ليتم تقسيم المنطقة (المنهكة والمتخلفة) بموجب اتفاقية سايكس بين كل من بريطانيا وفرنسا اللتان شكلتا الحدود الحديثة لدول المنطقة في شرقنا الأوسط، مع قيامهم بزرع إسرائيل في قلب المنطقة لتبدأ مرحلة جديدة من النكبات والصراعات ومكاسرة الإرادات التي زادت من الارتهان والتبعية والتخلف السياسي والمجتمعي العام.. وعلى الرغم من دخول كثير من الدول في مفاوضات التي أفضت لاتفاقات، كانت بمجملها مجرد معاهدات سلام مؤقتة، بقيت الأزمات والمشكلات تتفاقم وتتصاعد لتنفجر على شكل حروب صغرى أو كبرى داخلية أو خارجية.

ولعل السبب الأهم لتجدد الصراعات وبقاء العنف هو العامل الأهم السائد في المنطقة، سواء كان عنفاً داخلياً أم خارجياً، هو عدم إيجاد معالجات وحلول جذرية لأساس المشكلة القائمة، وإصرار القوى الدولية المسيطرة على المنطقة – وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية – على إدارة أزمات المنطقة دون حلّها جذرياً.. فالمنطقة التي تعتبر الأهم في العالم لناحية الثروات والموارد والموقع الجيو/استراتيجي والجيوسياسي، إضافة إلى ما تمثله من أهمية حيوية قصوى لناحية السلام والأمن العالميين، وما تتمتع به من فرص اقتصادية بشرية وطبيعية، لا يمكن لها (للمنطقة) أن تبقى بمعزل عن سياسات تلك الدول، بل يجب أن تستمر مرتهنة لأجنداتها، وخاضعة لسيطرتها العسكرية وغير العسكرية، سواء عبر تكبيلها بالاتفاقيات والمعاهدات أو تقييد حركتها الاقتصادية والسياسية، وربطها أمنياً وتجارياً وسوقياً بها، والتأثير الدائم على رسم سياساتها الخارجية بما يحقق أغراض القوى الكبرى في الهيمنة والنهب واستمرارية النفاذ للثروات..

وعلى الرغم من صعود قوى إقليمية فاعلة حاولت التمرد على القرار الأمريكي، في محاولة رسم سياسات منفصلة وغير تابعة للغرب الإمبريالي، فيها شيء من الاستقلالية القومية والوطنية، مستفيدة من تحالفات مع قوى كبرى أخرى كالصين وروسيا، ومن صعود قوى غير حكومية، لم يمنع هذا كله أمريكا والغرب من إشعال مزيد من الصراعات الحربية الدموية (حتى لو أدت إلى تدمير مجتمعات ودول بأكملها)، لمنع بناء وصعود أية قوة يمكن الاعتماد عليها ولو جزئياً لخلخلة عقد الهيمنة الغربية على المنطقة، لتترسخ بذلك مكانة الولايات المتحدة كقوة مهيمنة، ليس فقط في منطقتنا هنا في الشرق الأوسط، بل حتى في شمال أفريقيا، وربما في أوروبا التي بات فيها القرار الأمريكي هو الأكثر تأثيراً وهيمنة كما بدأنا نلاحظه في الحرب الروسية الأوكرانية، ومواجهة السياسات الأوروبية..

إن سياسة أمريكا في المنطقة التي قامت على الصراع والتهديد بإشعال الحروب، لم تبقي لدى الصين وروسيا وحتى الدول الأقل قوة في المنطقة، من خيار سوى أن تبحث (هي الأخرى) عن استثمارات صراعية، من أجل حماية مصالحها مع دول المنطقة، بما فيها بناء قواعد وتواجد عسكري، وعقد شراكات أمنية عسكرية، وبناء تحالفات اقتصادية بالاستناد عليها..

ومع وجود الكيان الصهيوني المنفذ للسياسات الحربية الأمريكية، تظهر لنا المنطقة بأكملها كبؤرة حرب وتوتر عنفي حربي دموي دائم، الأمر الذي يجعلنا نعتقد أننا سنظل في مواجهة خريطة جيو/استراتيجية معقدة متوترة تسيطر فيها سياسات الصراع لا السلام بسبب تناقض المصالح، مع الإصرار الأمريكي على اعتبار المنطقة جزءاً حيوياً من عناصر مواجهتها وحالة صراعها الاقتصادية المستمرة مع المارد الصيني..

في ظل كل ما جرى ويجري، ضمن منطقتنا وحولها، يسأل المرء نفسه عن حال العرب، وأوضاعهم، ومستقبل سياساتهم، ومدى قدرتهم على التمايز عن سياسات القوى الكبرى؟ وربما بات واجباً أن يسألوا أنفسهم: أين نحن من معادلات السياسات الدولية الكبرى؟ ولماذا نبقى في حالة صراع دائم ندفع تكاليفه الباهظة من تنميتنا وتطور مجتمعاتنا؟..

إنني أعتقد أننا كعالم عربي – يعيش في الحياة بين مجموعة من الأمم المتقدمة والمتخلفة – لا تزال نخبنا الحاكمة والجاثمة في المنطقة، تفكر بعقلية البلدة والوطن الصغير، ومصالح الحكومات القائمة الخاصة.. ولم تعد تفكر بعقلية الأمة والوطن الكبير ومصالح الناس والمجتمعات ككل.. مع العلم أن كل المسؤوليات الخاصة والعامة (بما فيها مسؤوليتنا أمام المجتمع والأجيال المستقبلية) قد ألزمتنا بضرورة أن نتضامن مع بعضنا البعض من أجل تحقيق هدف وجودنا الحضاري الأساسي في الحياة، كأمة لها رسالتها الإنسانية، ولها دورها المحوري الرائد بين أمم ورسالات العالم كله.. وهذه هي الأمانة الحقيقية التي حُمّلنا إياها، أمانة بناء إنسان عاقل ورشيد وسعيد ومفكر وواعي بنفسه وبعالمه، وقادر بعقلانية على بناء بلده ومجتمعه دونما ارتهان وخضوع كلي لآخر لا يريد سوى الهيمنة والسيطرة ونهب الثروات.. فهل نحن مؤتمنون حقاً عليها؟!. وهل أدينا وعملنا على ما تستلزمه منا هذه الأمانة الثقيلة؟!..

إننا وقبل أن نبدأ بالإجابة على السؤالين السابقين، يجدر بنا أن نلتفت جيداً إلى واقعنا الراهن.. لأننا سنجد فيه ما يوفر علينا عناء التدقيق والتأمل في أسئلة باتت بلا معنى، والبحث عن إجابات وافية وشافية لأسئلة كثيرة لا تنتهي.. فنحن قوم لا نزال نتفيأ بظلال وأغاني وأناشيد الماضي التليد، ونرفض الانهماك والاندماج في مسيرة الحضارية العالمية، ولا نحب العمل والكد في طرق ذات الشوكة، ولا نرغب بإجهاد أنفسنا وعقولنا في البحث والتنقيب هنا وهناك. وهذه هي للأسف أكبر مصيبة ابتلينا بها.. أن يفكر الآخرون بالنيابة عنا، فقد أعطينا عقولنا إجازة طويلة منذ زمن طويل.. طويل جداً.. وأعلنّا على الملأ الإفلاس والاستقالة العقلية والعملية من الحياة والوجود كله..!!. فما زالت مواقع (ودوائر) كثيرة في هذه التشكيلات الاجتماعية (المسماة أمّة!) تتعيّشُ على ماضيها، وترهنُ وجودها له، وتتكرس انقساماتها الصراعية انطلاقاً من إصرار نخبها على الارتهان لمصالح البقاء الأعمى في الحكم، وعدم النظر لواقع الناس الداخلي في ضرورة إصلاح هذا الداخل، لأنه أساس قوة الخارج ومواجهة سياسات قواه الفاعلة..

والإصلاح الداخلي المنطلق من ترتيب أوضاع بيوتنا الداخلية أفضل وأقوى وأمتن من أي إصلاح خارجي مفروض لن يأتي إلا لصالح ومصلحة تلك القوى، ولن يأتي إلينا إلا نتيجة الغياب لانطلاقة مناخ الإصلاح الطبيعي في مجتمعاتنا وبلداننا.

والاصلاح الخارجي المفروض لن يورث – كما فعل واقعياً للأسف – سوى الفوضى والعنف والاقتتال والتشتت والانقسام الأفقي والعمودي لإنساننا ومجتمعاتنا وبلداننا..

لقد باتت أجيال الأمة تدرك أن إلقاء التهمة على الخارج لمنع الإصلاح، هو أمر خادع ومزيف.. إذ أنه على الرغم من التسليم بدور ومسؤولية العامل الخارجي في ما وصل إليه حال العالم العربي إلا أن هناك وعياً متزايداً بأن الكوارث التي يعيشها ليست كلها ناجمة عن الأطماع والتدخلات الأجنبية وحدها رغم أهمية تأثيراتها السلبية، وأن الكثير منها يعود إلى مشكلات بنيوية داخلية في عمق مجتمعاتنا التقليدية، وتناقضات كامنة في تربة وثقافة تلك المجتمعات التي لم يتم معالجتها جذرياً بل سطحياً.. وقد ترتب على إهمالها والفشل في معالجتها جذرياً – مع تراكمها وتكدسها وتكلسها – نجاح القوى المعادية في تعميقها واستغلالها إلى أن وصلت إلى نقطة الانفجار أو انفجرت بالفعل كما هو الحال في دول عربية كثيرة.

طبعاً عندما نتحدث عن أمراضنا التاريخية المتركزة في بنية الانتماءات التقليدية، والتي ما زالت تهيمن على عقول كثير من الناس وسلوكياتها وعلاقاتها، لا نريد القول أو الاستنتاج بأنها هي بذاتها حالة مرضية، فالخطأ في الموضوع ليس عدم وجود تلك الانتماءات، حيث أننا كلنا له – وهذا أمر طبيعي جداً – انتماءات صغرى عائلية اجتماعية وقبلية ودينية، وهي جزء من تكوين شخصيتنا العامة، حتى لو عشنا في قلب الحداثة العلمية والعقلية، ولكن الخطأ والخطورة هو استحكامها وترسخها وتحوُّلِها لعصبية قارّة، وسيرورتها انتماء أوّلي قابل للتّجيير والاستخدام والاستثمار في كل ما يتصل بحالنا وعلاقاتنا ومصالحنا، خصوصاً مع تحوّلها لهوية مغلقة وأيديولوجية خلاصية تتقوم بأفكار اصطفائية تستحكم على عقول بعض البشر، وتجعلهم يعيشون بيننا كالمجانين المهووسين بالتأثير على غيرهم، والرغبة الجامحة في التحكم بهم والهيمنة على حياتهم الفردية الخاصة والمجتمعية العامة، بل وتبنى دول وتقوم استراتيجيات على أساسها بعيداً عن العدل والقيم وحقوق الناس، وضرورة تنميتهم وتطويرهم، والوصول بهم إلى ازدهارهم العمراني والحضاري..

وطالما أن هناك من يهيمن على مقدرات وثروات وأموال تتوفر بين أيديهم بلا حسيب ولا رقيب، وهم في الوقت نفسه مؤمنون بعصبيات تاريخية أو حزبية او تقليدية، طالما أنّ الأمر على هذا النحو: فسوف تبقى حالة ومناخ الصراعات قائمة، وسوف تزداد الحروب انتشاراً واشتعلاً للأسف.. فنيرانها وفتنتها قائمة ومتوافرة كما تقدم، وهي تفعل فعلها فينا، خصوصاً في هذه المنطقة التي حباها الله برسالات إنسانية، ولكن كانت أحزابها ومواردها ومذاهبها وطوائفها عبئاً عليها ونقمة، بدلاً من أن تكون نعمة..!!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *