سوريا في قلب الإعصار بين الحرب الأهلية ومشاريع التقسيم
بقلم توفيق المديني
يواجه النظام السياسي الجديد في سوريا تحدياتٍ كبيرةٍ في فرض سلطته المركزية على مختلف المناطق في البلاد، لا سيما المناطق التي تتسم بخصوصيات طائفية مثل محافظة السويداء حيث تتمركز الطائفة الدرزية، وفي الساحل السوري حيث المعقل الرئيس للطائفة العلوية.
ومنذ سقوط نظام الأسد في نهاية العام الماضي تحولت سوريا إلى غابة من السلاح، وتبرز قضية السلاح المنتشر بين السكان، والاعتداءات الصهيونية المتكررة على السيادة السورية، والصراع بين الكيان الصهيوني وتركيا على مناطق النفوذ في تركيا، بوصفهما حليفين للإمبريالية الأمريكية تتسم علاقتهما بالعداء في الظاهر بينما يتشاركان بهدوء بمشروع مشترك في سوريا، يتعلق بتقسيم الغنائم في الإطار الذي حددته الولايات المتحدة لكلا الطرفين، من أبرز المعضلات التي تعيق مسار الاستقرار، في وقت تسعى فيه الحكومة الجديدة في دمشق إلى إعادة بسط نفوذها وبناء مؤسساتها من جديد.
الكيان الصهيوني يستخدم الطائفة الدرزية
“خطاً دفاعياً” لتوسيع مصالحه في سوريا
في سوريا تتصارع دولتان على مناطق النفوذ، هما تركيا التي تمتلك علاقات قوية مع النظام الجديد، بحكم أنَّها أسهمت بشكل كبيرٍ في إسقاط نظام الأسد، وهي تطمح الآن إلى تحقيق مزيدٍ من النفوذ والتأثير في الحكومة الانتقالية الجديدة وخياراتها، أما الكيا ن الصهيوني، فهو يقتحم الفتنة الطائفية في سوريا بادعاء حماية الدروز، والجهر بأنَّه يريد “تفكيك سوريا” إلى دويلات طائفية.
ولم تكد السلطات السورية تسيطر على الأوضاع في جرمانا وصحنايا وأشرفية صحنايا، بعد الاقتتال الطائفي في ريف دمشق الذي بدأ منذ يوم الاثنين 28نيسان/أبريل وحتى عصر الأربعاء 29نيسان/أبريل 2025 وأدَّى إلى مقتل 74 شخصاً من المدنيين والمسلحين المحليين من الدروز وقوات الأمن العام والقوات الرديفة لوزارة الدفاع السورية، حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، حتى انتقل الصراع الطائفي إلى محافظة السويداء، التي عاشتْ على وَقْعِ اشتباكاتٍ عنيفةٍ ليل الأربعاء 30نيسان/أبريل والخميس1آيارمايو 2025.
في هذا السياق قام الكيان الصهيوني المتربص على حدود ريف دمشق، بتقويض المناخ الإيجابي في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، واستغلال التوتر الطائفي في مدينتي جرمانة وصحنايا، وبعض أخطاء النظام الجديد في دمشق والفئات المتطرفة من مختلف الأطراف والطوائف، من أجل إشعال نار الفتنة الطائفية في سوريا، وسفك الدماء هناك أيضاً، والقيام باعتداءات على الأراضي السورية في محاولة لتقويض المناخ الإيجابي الذي بدأ مع الإدارة الجديدة في سوريا ، بهدف تفتيت الدولة السورية الباحثة عن بناء نفسها في مرحلةٍ حساسةٍ، وزعزعة الاستقرار والمضي في مخططاته الرامية لمنع قيامِ دولةٍ قويةٍ ومتماسكةٍ تضمن تمثيلاً لجميع فئاتها، تحت راية وحدة وطنية.
ويستخدم نتنياهو الطائفة الدرزية في سوريا كأداة سياسية لمهاجمة النظام الجديد في دمشق، وليس لمساعدة الدروز، بل هو يريد توريط الدروز في حرب طائفية تُضعف النظام السياسي الجديد، ويسعى للإبقاء على سوريا مجزأة ومقسمة وضعيفة، مستغلاً رفض الدروز نزع سلاحهم ، بعد وصول أحمد الشرع إلى السلطة، ناهيك عن رفضهم السماح لقوات النظام الجديد بنشر قوات في جبال الدروز في جنوب سوريا.
وفي بيان مقتضب صدر الجمعة 2 مايو 2025 وتداوله ناشطون عبر منصة “إكس”، أكّد أهالي حضر استنكارهم لهذه الزيارة، معتبرين أنَّ الكيان الصهيوني يسعى إلى استخدام الطائفة الدرزية “خطّاً دفاعيّاً” لتحقيق مصالحه التوسعية في المنطقة. وشدّد الأهالي في بيانهم على أنَّ “المشايخ لا يمثلون إلا أنفسهم”، مؤكدين انتماءهم إلى الشعب السوري، وأنَّهم لن ينسوا “جرائم جيش الاحتلال الصهيوني بحقّ أهلنا في الجولان، والضفة الغربية، وقطاع غزة”. كما أوضح البيان أنَّ الكيان الصهيوني يحاول زرع” الانقسام” بين أبناء الشعب السوري عبر تحريك بعض الشخصيات الدينية الدرزية، في خطوة تهدف إلى التفريق بين مكونات المجتمع السوري، مع تأكيد مواقفهم الوطنية الرافضة للتعاون مع جيش الاحتلال الصهيوني.

نزع السلاح يرفضه الدروز وسواهم لانعدام الثقة مع الحكم الجديد
على الرغم من أنَّ الحكم الانتقالي الجديد بقيادة أحمد الشرع الذي عمره أربعة أشهر، يحظى في الوقت الحاضر بالتفافٍ شعبيٍّ، نظراً لإسهامه في إسقاط حكم عائلة الأسد الذي دام 54عاماً،ومن الواضح أن هذا الحكم الجديد يلقى قبولاً متزايداً دولياً وعربياً، لكنَّ الأقليات تتحفظ على طبيعة مكوِّناته وأشخاصه الذين خرجوا للتوّ من عباءة “التنظيمات الجهادية ” وفروعها العقائدية التي لا تقبل بالتعدد، ولا تؤمن ببناء الدولة الوطنية الديمقراطية ، وهي لا تلتقي مع الإسلام السوري الوسطي والمعتدل الذي يشكّل غالبية أهل السنّة. فالأكثرية السنية لها خياراتها وتناقضاتها أيضاً. وإذ أمضت الشهور الأخيرة في فرحة الخلاص من الحكم الاستبدادي فإنَّها لم تكتم تساؤلاتها بالنسبة الى المستقبل ولا انتقاداتها لأداء الحكم الجديد. في وقت يسعى فيه النظام الجديد إلى إعادة بسط نفوذه وبناء مؤسساته من جديد، يواجه الرئيس الانتقالي أحمد الشرع تحدياً بالغ التعقيد من جانب الطائفة الدرزية، وكذلك باقي الأقليات، حيث يُصرّ السكان على الاحتفاظ بأسلحتهم الخفيفة، في رفض صريح لمطالبة الدولة بتسليم السلاح.
ويعتقد الخبراء والمحللون الملمون بالشأن السوري الداخلي، أنَّ هذا الرفض لا يعكس مجرد تمسك محلي بالسلاح، بل يعكس أزمة أعمق تتمثل في انعدامِ ثقةٍ متجذرٍ بالحكم المركزي الجديد الذي لم يتح، حسب رأي السكان، في تقديم ضمانات أمنية حقيقية، ولا يزال عاجزاً عن ضبط العصابات المسلحة التي تهدد أمن الأقليات، لا سيما أنَّ هذا الحكم ظلَّ يستعين بمن يثق بهم من الفصائل الجهادية التي لا تؤمن أصلاً بالتعدد والاختلاف و التنوع ، وبقي في حيّز حلقته الضيّقة (بما في ذلك إدخال مقاتلين أجانب الى وزارة دفاعه) ولم ينفتح – مضطرّاً – إلا بمقدار ضئيل في تشكيل “حكومته”، ولم تُنسَ بعد المآخذ على “حواره الوطني” و”إعلانه الدستوري”.
ففي ظل غياب دولة قادرة على تنظيم أجهزة أمنية فاعلة، وبناء جيش وطني سوري الانتماء، وتزايد نشاط العصابات والجماعات المسلحة في مناطق عدة من سوريا، وعدم امتلاك الحكم الجديد مشروعاً وطنياً للمّ شمل “مكوّنات” المجتمع السوري، مع أنَّ الرئيس الانتقالي أحمد الشرع لم يفوّت مناسبة إلا وأشار إلى هذه المهمة، يبدو مطلب نزع السلاح كأنَّه محاولة لتجريد المكونات الضعيفة من أدوات الدفاع الوحيدة التي تمتلكها، من دون تقديم بدائل حقيقية للأمن. وتظل الأطراف الإقليمية والدولية تعبث في الواقع السوري الداخلي الذي بات يشكل الخطر الأكبر والداهم. يقيناً أنَّهُ لا يمكن أي جهة إقليمية أو دولية أن تحقق مشاريعها إلا إذا وجدت تناقضات داخلية يمكن اللعب عليها.
من الواضح أنَّه في ظل انعدام الثقة بين الأقليات والحكم الجديد، والمجازر الطائفية في الساحل السوري عقب مواجهة فلول النظام السابق وعودتهم إلى طموح فصل الساحل عن بقية مناطق سوريا، واحتداد الصراعات الطائفية مع الدروز، ودعوة قوى سياسية فاعلة في المشهد السوري الكردي في اجتماع موسع غير مسبوق عُقد قبل أسبوعين في مدينة القامشلي إلى إقرار دستوري بوجود قومي للكرد، وضمان حقوقهم دستورياً، وتوحيد المناطق الكردية بوصفها وحدة سياسية إدارية متكاملة في إطار سوريا اتحادية، علماً أنَّ العشائر والقبائل العربية في شمال شرقي سوريا تشكل نحو 90% من السكان، في ظل هذا الوضع المعقد، بدأت الأقليات تطالب بالحماية الخارجية( الفرنسية بالنسبة للعلويين، والصهاينة للدروز، والإمبريالية الأمريكية للأكراد).
وبدا استقطاب الدروز يستدعي اهتماماً أكبر بعدما لوّح نتنياهو أنَّ لديه اختراقات باتت الآن تبدو عميقة في النسيج السكاني لـ “جبل العرب”، لا سيما حين طلب الشيخ حكمت الهجري بتدخل “قوات دولية لحفظ السلم” في سوريا. وحين توصل الحكم الجديد إلى اتفاق مع جهات درزية أخرى في السويداء يسهّل تعاون قوات السلطة والقوى المحلية على تأمين الأمن في محافظة السويداء، ردَّ ّنتنياهو بعدوانٍ جويٍّ مكثّفٍ لإحباط ذلك الاتفاق، مذكّراً بأنَّه يمنع دمشق من إرسال قواتها إلى الجنوب.
عودة الحضور الفرنسي إلى الشرق من البوابة السورية
في أوَّلِ زيارة له إلى أوروبا منذ الإطاحة بنظام الأسد، قام الرئيس الانتقالي أحمد الشرع بزيارة إلى باريس يوم الأربعاء 7 مايو2025، التقى خلالها في قصر الإليزيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حيث ناقش الرئيسان عدة قضايا، من أهمها رفع العقوبات ومكافحة الإرهاب واستقرار المنطقة والوضع في لبنان. كما تتجلى أهمية هذا اللقاء في محاولة فرنسا قيادة المبادرة الدبلوماسية لدعم سوريا الجديدة ولعب دور محوري في منطقة الشرق الأوسط.
وتُعَدُّ باريس محطة مهمة بالنسبة للرئيس الشرع الذي يريد تقديم نفسه إلى الغرب كرئيسٍ جديدٍ لسوريا، وتحقيق اعترافٍ دوليٍّ أوسع بحكمه الجديد، بعد حصوله على الشرعية العربية من خلال دعوته إلى القمة العربية واجتماعات مختلفة مع القادة العرب. ففرنسا تعتبر من الدول الأوروبية الكبيرة، ومن الممكن أن تحذو حذوها ألمانيا لاستقبال الشرع في زيارة رسمية قادمة.
فرنسا تريد استعادة حضورها من خلال التعاون الاقتصادي ولعب دور قيادي في الشرق الأدنى – خصوصاً في سوريا ولبنان – في ظل الغياب الأمريكي. ويعتقد الخبراء أنَّ الحضور الفرنسي يؤشر لبداية مرحلة جديدة من الترتيبات الإقليمية والدولية في الملف السوري، وتحديداً في منطقة الساحل. لطالما احتفظت فرنسا بثقل دبلوماسي وازن داخل الاتحاد الأوروبي، كما أنها تملك شبكة علاقات قوية مع الأقليات السورية، خصوصاً في الساحل، ناهيك عن استضافتها للمقر الأوروبي العام للمجلس العلوي، ما يمنحها بعداً إضافياً في إدارة الملف الطائفي والسياسي هناك. ولا يمكن تجاهل الدور الذي تلعبه باريس في مجلس الأمن، وعبر أدواتها الاستخباراتية والدبلوماسية.
فرنسا عينها على الساحل السوري، وتريد دخول الساحل السوري بأي طريقة، فمن الناحية التاريخية قامت سياسة فرنسا على التماس الدعم من العناصر الأقلية لتضليل صعود القومية العربية المتقاطعة مع الملك فيصل وحكومته سنة 1920، وكذلك لمواجهة القومية التركية، في المنطقة المدعومة من الحكومة الكمالية المتمردة في الأناضول.
في الوقت الحاضر، تحاول فرنسا الضغط على أحمد الشرع في الساحل السوري والابتعاد عن تركيا، وتوقيع عقد الميناء في اللاذقية بين شركة CMA CGM. هذا العقد كان من المقترح إن يوقع مع بشار الأسد لكنه سقط ووقع العقد مع الشرع…. وهذه بداية وجود فرنسا في الساحل بطريقة دراماتيكية عن طريق شركة (خاصة) وهذا ما سيحدث في المستقبل أساساً هو دخول شركات خاصة للاستثمار… قيمة العقد سيئة جداً جداً كأن الشرع قدم هدية مجانية للفرنسيين بقيمة 230 مليون يورو لمدة 30 سنة، حسب بعض المصادر الإعلامية.
تمثل دعوة الشرع إلى باريس، موقفاً من سوريا أكثر وضوحاً من جانب فرنسا، ولو أنه يبقي بعض الحذر إزاء التقدم المنتظر في العملية السياسية بشأن نقاط أساسية: مكافحة الإرهاب التي تبقى مطلباً فرنسياً ملحاً، استقرار لبنان مع التركيز على ترسيم الحدود السورية – اللبنانية، رفع العقوبات المصرفية والمالية الذي يعد خطوة أولوية أساسية وهذا يعتمد بشكل رئيسي على القرار الأميركي. وطالما لم ترفع هذه العقوبات سيظل هامش تحرك السلطة السورية محدوداً.
كذلك تريد باريس معرفة نوايا الشرع حيال الأكراد، فصحيح أنه تم الاتفاق معهم (قوات سوريا الديموقراطية) في دمشق في 10 آذار/ مارس، ما يشير إلى تقدم، لكن الاتفاق لم ينفذ بعد بشكل ملموس، وفرنسا تريد توضيح النقاط العالقة المتعلقة بوجود آليات لدمج الوحدات الكردية في الجيش السوري وشروط بقاء السلاح لدى الأكراد أو عدمه ودرجة الحكم الذاتي الفعلية.
خاتمة: على الرغم من أنَّ هناك إرادة إقليمية ودولية لبقاء سورية دولةً موحّدةً، لكنَّ ما يجري على الأرض يتناقض مع هذا التوجه، فالمشروع الصهيوني يريد تقسيم سوريا إلى دويلات طائفية، ويعمل على الاستثمار الذكي في التصدّعات الطائفية واللعب على الأوتار السورية المشدودة، وفرض استراتيجية غزو عسكري جديد لبناء شرق أوسط جديد يقوده العدو الصهيوني، الذي يريد إقليماً جنوبياً في سوريا بحجّة حماية الدروز، وشرقياً كردياً، وأيضاً إقليماً غربياً علوياً بذريعة أنه لن يسمح بإقامة خلافةٍ إسلامية على شواطئ البحر المتوسط. إذا أراد الحكم الجديد إعادة بناء الدولة الوطنية السورية، فعلى الرئيس الشرع أن يتبنى استراتيجية وطنية جديدة لبناء دولة تشاركية تقوم على المواطنة، ولكل مكونات أبناء الشعب السوري، وعدم ترك الساحة السياسية لزعماء الطوائف حدهم كي يقوموا بصناعة الرأي العام في سوريا. وتشكل مسألة ضبط السلاح الفالت الخطوة الأولى لبناء الدولة، التي من بين مهامها احتكار العنف. وهذا يستدعي حلّ الفصائل المسلّحة، وفي المقدّمة المحسوبة على الحكم الجديد، الذي يتوجّب عليه أن يقدّم القدوة في ذلك، ويعمل بصورة جادّة لبناء جيش وطني يتولى الدفاع عن سيادة البلد بوجه الاعتداءات الصهيونية المستمرة، وجهاز أمن يعمل على تحقيق الاستقرار وتوفير الأمن للمواطنين.