فضاءات فكرية

الحضارات البشرية بين الصدام والحوار نعم للتدافع لا للصراع

نبيل علي صالح باحث وكاتب سوري

ولماذا بقيت لغة العنف والإقصاء والتعالي والعنصرية هي السائدة إلى أيامنا هذه على الرغم من الكثير من مظاهر الادعاء الفارغ بالدعوة للإنسانيات وإعلاء شأن القيم والمبادئ الإنسانية المشتركة التي ترفعها كثير من الدول والمؤسسات الأممية ذات الصلة؟!..

وعلى الرغم من وجود هيئات دولية أسستها دول كبرى واجتمعت حولها معظم دول العالم، نادت بمبادئ حقوق الإنسان، بقي الصراع هو المعلم الأبرز للعلاقات بين تلك الدول خاصة وأن الأقوى منها فرض أجنداته ومشاريعه ورؤيته ومصالحه على حساب باقي الأمم والحضارات..

إن تناقض المصالح وهيمنة العقائد الاصطفائية والعقل الاستهلاكي وبروز ظواهر النخبوية والعنصرية القائمة على تفوق أصحاب البشرة البيضاء من ذوي الانتماءات العرقية الخاصة بالغرب الحديث (حضارة الغرب هي المركز، والبقية أطراف مستهلكون)، هي التي منعت وتمنع كسر حلقات الصراع ولغة العنف في هذا العالم التي ما زالت تتجدد وتتحول بمظاهر عديدة، تارة صلبة وتارات ناعمة ظاهرياً وتقنياً.. حتى أن تلك العقول الاستهلاكية – القائمة على إشاعة الغرائزيات الحيوانية مواقع العقل والعقلانية عند الشعوب المستضعفة، وتحطيم إرادات أبنائها – ما فتئت تبدع في تظهير وإبراز أشكال عديدة من الهيمنة والسيطرة والاستحكام الرمزي والمادي..

وللأسف نقولها بكل وضوح وصراحة، عكس ما كان يتم تسويقه سابقاً، إن العقائد الاصطفائية الخلاصية والنظم القهرية الشمولية، لم تسقط، حتى في أكثر الدول ادعاءً للديمقراطية وحقوق الإنسان.. وما زالت الحواجز مرفوعة وقائمة بين الشعوب والحضارات، والغبار التاريخي لم ينقشع عن الهويـّات المُغْلقة، والوصاية الفكرية والخوف السياسي لم يُرفع، رغم انفجار المعارفِ والثورات العلمية والتكنولوجية المتلاحقة.

ولا شك بأنَّ خلافات سياسية ومشاكل فكرية وصراعات وأعمال عنف كبيرة، قد تمخضت – وما زالت تتمخض – عن هذا المشهد الدولي المتأزم والشديد التمركز حول عقائده النخبوية الخلاصية المتمثلة في نهاية التاريخ عنده، جعلت الحاجة ماسة لإعادة الاعتبار لقيم الحوار، ومبادئ السلم، والحفاظ على القيم الإنسانية العامة المشتركة، والبدء بالدعوة لما يسمى بحوار الحضارات العالمي الذي كان من المفترض أنْ يؤسّسَ لعالم جديد، يَعمّه السلام والأمن والاستقرار، عالمٌ قائم على الحرية والعدالة والمساواة والتكافؤ والندية، واحترام الحقوق الإنسانية، بعد أن سقطت دعائم النظام القديم، نظام القطبين..!!.

ولا حاجة بنا كثيراً لإعادة التذكير بأن هذا التنوع الثقافي والتاريخي والحضاري والإنساني (الممتد عبر آلاف السنين)، والسعي للحفاظ على المشتركات الحضارية القيمية الإنسانية والخصوصيات الثقافية التاريخية بين أمم البشر، هو الأمر الأكثر إلحاحاً في موضوعة “الحوار الحضاري”، خاصة مع صعود ثقافة الصراع بين الحضارات، وهيمنة فكرة نهاية التاريخ الأمريكية، ونزوع ظاهرة العولمة إلى توحيد العالم واختزاله بخصائص غربية، ودمج البشر ككل سياسياً وثقافياً ومعلوماتياً (اتصالياً) وكأنهم كتلة مصمتة واحدة، يخضعون لنمط سياسي واحد وعقلية حياتية واحدة وآليات حكم نخبوية واحدة..!!.. مما أثار لدى الناس (الرافضة لفكرة ومبدأ الاندماج والتوحيد القسريين في كل المواقع) موجات هائلة من ردود الأفعال السلبية العنيفة، والمقاومات المتعددة في كل الأرجاء.. وما جرى لاحقاً من صراعات وحروب شكّلَ مظهراً من مظاهر هذا الرفض لذلك المبدأ القائم على التبعية والهيمنة وفقاً لعقلية وعقيدة التمركز الغربي.

وهذا كله يجعلنا نؤكد على أهمية الدعوة للحوار واعتماده كسياسة واستراتيجية حقيقية بين الأفراد والأمم والحضارات، خاصة في ظروفنا السياسية العربية والعالمية الراهنة، مع تغلغُل الخلاف واشتداد النزاع واستحكام عقلية وسلوكية الصراعات الدموية كأساس لحل الخلافات وتناقض المصالح في كل الملفات العالقة الخاصة بمنطقتنا العربية والإسلامية عموماً، التي تحولت –بحكم تصدّعاتها التاريخية وهشاشتها السياسية وغناها بالموارد طبعاً التي أسالت وما زالت تسيل لعاب حيتان الاقتصاد العالمي- إلى بؤرة استقطاب واستنزاف وتوتر دولي دائم ومتواصل نتيجة لعدم اتفاق أهلها على مصالحهم، وعدم معالجة أزماتها على نحو جذري عقلاني سلمي صحيح، وتأجيل مشكلاتها السياسية والاجتماعية المستعصية، خصوصاً مشاكل التنمية والحكم الفردي والتسلطية السياسية والفقر والتخلف الاقتصادي.

إزاءَ وضعٍ شاذ كهذا الوضع – تعلو فيه قيم المادة والنفعية والذرائعية المبتذلة، لا مكان فيه لقيم الحق والأخلاق وقيم العدل والمساواة إلا فيما ندر – لا مناص من العودة إلى مسألة “حوار الحضارات” وتلاقي الأمم حول قضايا إنسانية ومشتركات عامة أساسية على الرغم من صعوبة وتعقد هذه الرغبة الإنسانية في ظلّ تعاظم المصالح المادية وتفاقم أزمات توحّش القوى الدولية الكبرى المتصارعة حول موارد العالم وثرواته خصوصاً في منطقتنا العربية والإسلامية التي تعاني هي بدورها من أزمات سياسية وتنموية ومجتمعية، على رأسها الفساد والاستبداد ورفض الاستجابة لتطلعات الجماهير العربية في إقامة دول العدل والقانون والمؤسسات..

إنّ هذا النوع من التحاور – المبني على ركائز الوعي، والانفتاح، والعقلانية، والمسؤولية الإنسانية، والاعتراف بالآخر – يمكن أن يسهم (ولو جزئياً) في إعادة وصل ما انقطع بين الأمم والشعوب، وبالتالي يمكن أن يعيد العالم – خصوصاً تلك البلدان والقوى الدولية الناظرة بفوقية ونخبوية ثقافية وسياسية لغيرها من الأمم والمجتمعات – إلى توازنه (وإنسانيته) المفقود منذ زمن طويل، وإلى الإنسان تماسكه واطمئنانه (بعد أن حولته الشعارات الخلّبيّة والإيديولوجيات الزائفة إلى كائن مهمّش)، بعيداً عن واقع الهيمنة والتبعية وسلب الشعوب مقدراتها وإرادتها وطاقاتها والتلاعب بثقافاتها وسلامها وأمنها ومصائرها.. كما بدا أن حوار الحضارات وحده – بما تمتلكه هذه الحضارات من طاقات روحية خلاّقة – يستطيع أن يزود الأمم بمبادرات تتجاوز بها ذاتها، وجغرافيتها، واقتصادها، ونظمها، وقومياتها، وأعراقها نحو أفق يكون فيه الآخر، والانفتاح عليه ضرورة وجود.

إن بقاء مقولات القوة والصراع والهيمنة والتحكم – التي ما زالت ترسم وتقود وتتحكم في العلاقات بين الدول القائمة في هذا العالم الذي تحول بفضل تلك العقول إلى ميادين حروب متنقلة تعلو فيه علاقات السيطرة والهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية – سيستنزف موارد البشر المادية والمعنوية، ويبقيهم مرتهنين فقط لغرائزيتهم الأولى ككائنات وظيفية جهازية استهلاكية، تعلو وتتصاعد عندهم فقط قوانين البقاء للأقوى..!!.

وهذا لا يجب ولا يمكن أن يستمر كعنوان وواقع مسيطر وسائد على ساحة الحياة الإنسانية على امتداد الزمن المستقبلي كله، بل لا بد لمقولة الحوار في المستقبل (القريب أو البعيد، إذ أن ذلك رهن إرادتنا) أن تهيمن على العلاقات الداخلية، داخل كل المجتمع بعينه، وداخل كل حضارة بمفردها.

إن علاقات الحوار – التي تنطوي على تأصيل قيم (ومعاني) التعددية، والانفتاح، والتواصل، والاعتراف بالآخر، والتسليم بضرورة التداول السلمي للسلطة السياسية، والتعامل بشفافية وإنسانية – هي التي يمكن أن تؤسس على المستوى الداخلي ذاتيةً حضارية كلية، أو جماعية، أو روح موحدة نسبياً، يمكننا – بالاستناد إليها – أن ننتقل من الحوار الداخلي بين التيارات والقوى والمواقع السياسية والثقافية السائدة في داخل اجتماعنا الديني والسياسي العربي والإسلامي إلى ساحة الحوار واللقاء والتنافس الحضاري الخارجي، في سياق انفتاح الذات وخروجها من دائرتها الخاصة إلى الفضاء الإنساني الأرحب والأوسع.

وإذا كان هذا يدل على التفاعل الخلاّق بين النقد والإبداع، فإن حوار الحضارات يجعل أيضاً من هذا التواصل أُسّاً رابطاً بين الحرية والمصير، والوجود، والمعرفة والفهم. لكن اعتقادنا الجازم بأهمية تعميق هذا التواصل والانفتاح بين الثقافات، والتعددية الثقافية، لا يعني – بأي حال من الأحوال – أن هناك مساواة مطلقة بين الثقافات، كما ولا يعني بأن حوار الثقافات قد أضحى مسألة حتمية أو ضرورية.. ذلك أن الثقافة ليست هي التي تحاور، بل المجتمعات، ومن ضمنها الأفراد المجتمعون بالحوار أو المسؤولون عن شؤون الجماعة. والعلاقة الطبيعية بين متعددين هي بالضرورة علاقة صراع وتواصل معاً: صراع مع الآخر الغريب، وتواصل مع القريب، فلا قرابة من دون صراع يبني الآخر، ولا صراع من دون هوية تبين حدود الذات والقريب والصديق. وموضوع الصراع بين الثقافات – أو بين الجماعات في الميدان الثقافي – هو السيطرة على الرأسمال الرمزي الذي يشكّل رصيد كل ثقافة، أو هو التثقّف الذي يستدعي السيطرة على مواقع استراتيجية في شبكة العلاقات والموارد الثقافية العالمية.. فالحقُّ أنَّ الصراعَ الثقافي (أو الصّراع على الثقافة) يقومُ على وسائل تختلف عن تلك التي تستخدمها الحرب، وهو يجري كل يوم من دون أن يدرك الناس أنفسهم ذلك أحياناً، وذلك من خلال توسع دائرة نفوذ اللغات والأفكار، والإشارات، والرموز، والأسماء، والصيغ، وأنماط الاستهلاك والتسلية، والآداب، والفنون، والأذواق، وأساليب التنظيم والتأهيل والإدارة، والسلوك، ووإلخ، وهو صراع مستمر سواء أدخلت المجتمعات المختلفة الثقافة في نزاع دولي مسلح أم لم تدخل فيه.

ولكن من خلال الحوار والاتفاق على المصالح المشتركة، يمكن تخفيف غلواء تلك العقائد وعدم الارتهان للغة الصراع العنفي أو لفلسفة الصراع بين الحضارات، وتحكيم لغة التفاهم والمشتركات الإنسانية..

إننا في ديننا الإسلامي لا ندير العلاقات بين الدول على أساس فكرة الغلبة وعقلية الصراع والبقاء للأقوى والأكثر استهلاكاً، بل على أساس فكرة التدافع الحضاري والتنافس البشري السلمي على طريق البناء والتعايش الإنساني المشترك.. وهذه نظرة مختلفة عن نظرة الغرب الذي ما زال ينظر إلى الآخر (ونحن جزء من هذا الآخر) كعدو ينبغي القضاء عليه أو احتوائه إنْ أمكن بالاستهلاك الفارغ..

إن الإسلام بفلسفته الإنسانية والاجتماعية يقوم على الإقرار بفكرة وقيمة التعددية، ويدعو إلى تحكيم النظرة الشاملة في النظر للآخر كأخ في الإنسانية، يجب التعارف عليه، والتعايش معه، وبناء على هذا تولدت رؤية التدافع بين الحضارات كبديل عن الصراع بينها، والتدافع رؤية كونية تقوم على التعدد والتساند والتوازن والارتفاق.. إن هذا التدافع كما حدده محمد عمارة هو عبارة عن حراك اجتماعي وثقافي وحضاري، أي تنافس وتسابق بين الحضارات، يعدل المواقف الظالمة، والممارسات الجائرة، والعلاقات المنحرفة، دون صراع يصرع الأخرى، فيلغي التعددية، وإنما بالحراك والتسابق الذي يعيد العلاقات المختلة إلى درجة التوازن والعدل في العلاقات بين مختلف الفرقاء.. وبذلك، فالتدافع الحضاري هو فلسفة إسلامية للعلاقة بين الحضارات، يتوسط بين الصراع، الذي هو إلغاء للتعددية ودعوة إلى تصفية الآخر، وبين السكون، بوصفه “مواتاً”، يؤدي، في نهاية المطاف، إلى التبعية والتقليد والارتهان للأقوياء والدوران في فلكهم.

من هنا، يمكن القول بأن الإسلام كعقيدة ورؤية إنسانية، دعت لإقامة العلاقات بين البشر على الحوار والتنافس الحضاري والندية العملية، انطلاقاً من فلسفة التدافع الحضاري، ولهذا نحن نعتقد أن هذه الفكرة هي البديل الإسلامي عن تلك الفلسفة المادية اللاإنسانية الغربية التي تأسست على فكرة التناقض والصراع وفقاً للوعي الفكري والسياسي الغربي المرتهن فقط للمادة وإغراءات العقل الاستهلاكي.

والفرق واضح وبيّن تاريخياً وواقعياً بين عالم كان يعيش تحت ظل الإسلام وحضارته وقيمه الإنسانية الرائدة، حيث كان الاعتراف بالآخر المختلف، وكانت قيم التعايش بين مختلف الأديان والأجناس والشرائع واللغات هي اللغة السائدة، بعيداً عن الرفض والإقصاء وإلغاء الخصوصيات الحضارية والثقافية والاجتماعية لهذا الآخر؛ وبين عالم حضارة الغرب وثقافته وسياسة نخبه (ليس فقط اليوم بل منذ زمن طويل)، التي لا تعترف بالآخر ووجوده، وتضيق بالمختلف المغاير له وعنه في الجنس والعرق واللغة والدين واللون وحتى في السياسة، ويدعو إما إلى إلغائه وتصفيته فيزيائياً ومادياً، وإما إلى احتوائه والسيطرة عليه عقلياً وغرائزياً واستهلاكياً.. والدليل الأبرز هنا هو ما جرى ويجري منذ أكثر من عام في غزّة المظلومة من حربٍ عدوانية وحشية، كانت مثالاً فاقعاً على عقلية الصراع وفقاً لفلسفة الغرب البربرية التي لا تقبل إلا بذاتها وقيمها وهيمنة مقتضيات وجودها المادي النفعي الاستهلاكي..

للأسف الغرب ما زال يتعاطى مع شعوب العالم، ومنها شعبنا العربي وعموم الشعوب الإسلامية، ككائنات مستهلكة فاقدة لمصداقيتها العقلية والعلمية، ومرتهنة لثقافتها الماضوية، والتي لا يمكن – كما يزعم – أن تتغير وتتطور وتحسّن من شروط انتمائها للحياة والعصور الحديثة.. وما لم نغير نحن من نظرتنا لأنفسنا، ونعيد النظر في كثير من تقييماتنا وقيمنا الحضارية، سنبقى مجرّد تابعين أذلاء لهذا الغرب الذي ما زالت قيادته ورموزه الثقافية والعلمية يتفنّنون في ابتداع أساليب وفنون الهيمنة علينا والتحكم بنا والضحك على مجتمعاتنا ونخبنا الحاكمة في تمرير حداثة نمطية قشرية استهلاكية فارغة، يسرقون من خلالها أموالنا وثرواتنا التي هي من حقنا، وأمانة في أعناق قياداتنا وحكامنا و”مؤسساتنا” المزعومة القائمة..!!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *