الكتابةُ أفقُ الحياة
بقلم غسان عبد الله
المسألة هي ليس في أن نكتب، ولكن أن نفتح الأفق على الكتابة.. أن نجعل هذا المشروع الثقافي مفتوحاً لاحتمالات المستقبل ومرتبطاً بها.. أن نتهيّأ لتأسيس هذا المشروع وبلورتِهِ في حرارةِ الوقت..
أن يكتب المأخوذون بالمستقبل، أو يستعدّوا للكتابة.. فكلُّ كتابةٍ لا تدعو إلى كتابة أخرى ولا تكتمل بها.. ستشكو من خلل ما. وربما كمن هذا الخلل في الشعور باكتفاء ذاتي مكتنز بالقصورِ فالكتابةُ ليست مشروعاً منفصلاً عن الحياة. والحياةُ لا تكتفي بذاتها إلا في حالةٍ واحدة: هي حالة الموت.
الشعور بالحياة المكتملة هو موتٌ منجز.. الكتابة ليست كذلك مثلما أنت لا تستطيع أن تقول هنا بدايةُ الأفقِ وهنا نهايتُه، كذلك الكتابةُ، إنها حياةٌ تبدأ فحسب، تبدأ دوماً.. وعندما يتوقف هذا الكاتب أو ذاك، فإن الكتابة لا تفعل ذلك. إنها أفق الحياة.. حارّة، متوثّبة.. تبدأُ دوماً.. تبدأُ فقط. هذا هو مشروعنا الذي نلمسُ دفءَ المستقبلِ في أحضانِه. وإذا كان الممكنُ الآن ليس في حجمِ الطموح فإن هذا يكفي كي يكون سبباً يجعلنا نؤمن بأهمية هذا المشروع ونثق بجدواه، في سبيل طموحٍ لا يتسع له الممكن الآن.
المسألةُ إذن.. ليس أن تكتب لكن أن تحيا. والكاتب العربي، فيما هو يحيا، فإنه يعيش اجتيازاً دائماً من جحيم إلى نعيم ثم إلى جحيمٍ ثانية، دون أن يكون هناك فردوس في الأفق.. هذه هي اللحظةُ المستمرةُ كأنَّ الواقعَ نعيُ الحياة، وكلُّ ما يصدرُ عن الكاتب.. هو نزيفٌ يؤجّلُ النّعي يشهده، ويصرخُ في البَرِيةِ لأجلِ نفيه. لذلك تأتي الكتابةُ مكتظةً بما يشبهُ الوصايا الأخيرة، وبما يضاهي الرؤيا المغدورة أيضاً. ربما لأن الذي تصرخ به الكتابة أقلّ سطوة من الواقع/النعي، بل ومما بلا سطوة في معظم الأحيان. فالذين يأخذون الحلم العربي إلى الدفن.. يعرفونَ ذلك ويمعنون. ولا يرونَ في صريخِ الكتابةِ سوى تراتيل معقودة برسمِ استكمال الطقوس.
وعوض أن يحيا في أمل الفردوس، يظلُّ الكاتبُ متلبّساً برؤياه تجربةَ البجعةِ التي وعلى الرغم من عذاب الذّبح، تطرحُ صوتها على العالم.. جميلاً، مرعباً حدَّ الضراوة، دون أن تستسلم.. دون أن تموت.. من يقوى على اجتيازِ هذهِ التجربة؟!. عبورٌ دائمٌ من جحيمٍ إلى برزخٍ إلى جحيمٍ ثانيةً دون الوصولِ إلى فردوسٍ ما!.
هذا هو الكاتبُ العربيُّ.. بجعةُ الوقت. لم يعدْ الكاتبُ يأمَنُ لجهةٍ ما، ولا تحصِّنُهُ سوى كتابته وكلماته. هذه الكلماتُ التي هي أضعفُ الأيمان، أقوى الأسلحة وأكثرها مضاءً. مرصودٌ هو من كلِّ الجهات، فأمّا أن يمدحَ قبيلةً لتحميهِ من قبائلَ أخرى، أو أن يظلَّ مهدوراً للجميع.. وليس في الجميع ما يُغري، فالنّعيُ العربيُّ موشومٌ بكلِّ الأختام. أنْ تمدحَ الخازوق.. أن تهجو الجثّة.. أن ترثي البجعة.. فإنك تصف ما يستعصي على الوصف. وقَدَرُ الكاتبِ – في كل هذا – أن يتشبّثَ بما ليس يأساً.
ليس أن تكتب، لكن أن تنقذَ الكتابةَ من عادتِها.. أن تعلِّمها الخروجَ على مألوفها، وقولِ ما لم تَقُلْهُ، لئلا تتركَ الواقعَ ليكتُبَ لكَ النصّ وأنتَ خارجُ اللغة، لئلا تسمح لعناصر الواقع أن تتناسخَ في لغتك، وأنت هناك.. خارجُ الكتابة.
أن تكتب، يعني أن تنقضّ هيمنةُ حكمةِ الموتى على لحظتِكَ الحيّةِ الحاضرة المتأجِّجة. وأن تمارس حكمك وحكمتك على كتابة رؤياك. فبين أن يغدرَ الواقعُ برؤياكَ وبينَ أن يفتكَ الماضي بلحظتك علاقةُ الدمِّ بالتميمة وكلّما خرجت عن الطوقِ وتغايرتْ مع الطريقة، كلما اتصلت باحتمال الكتابة الأفق/الحياة.
ليست الكتابةُ وصفاً للصلاةِ على الميّت لكنها تصفيةٌ له.. من هنا تأتي أهمية إنقاذِ الكتابةِ. من هنا يصبحُ النصُّ مملكةَ الكاتب، واللغةُ سلاحَهُ الذي لا يصدأ. اللغةُ التي لا سطوةَ عليها سوى موهبةِ الخَلْق وحرّيةِ الفعلِ. لسنا معنيين بالفراديس المطروحة أمام الكاتب.. مقابل مصادرةِ حريةِ مخيّلتِهِ وإبداعه. لسنا مشغولين عن جوهرِ الحياةِ وخبيئة الرؤيا.. لسنا كتَبةَ المشروعِ العربيِّ إلى الموت.. نحنُ بجعةُ الوقتِ نباهي بوصفِ ما لا يوصف.
