
في الحديث عن توسُّلِ الإرهاب وأعمال العُنف وجبَ التّدقيق والتّمييز العقلاني الصّحيح
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
يقول الشاعر والكاتب السوري أدونيس بأنّ “الإرهاب جزء من تاريخ العرب منذ تأسيس الدولة الإسلامية..“.. حقيقة الإرهاب الذي هو أحد أهم التطبيقات السلوكية العملية العنفية لظاهرة التطرف والإقصاء والاحتكار، هو ظاهرة بشرية عمومية، انطلقت منذ بدء تكون تاريخ الدول والأمم والحضارات.. وتاريخ العرب والمسلمين ليس بدعاً أو استثناءً من هذه الظاهرة، وملحقاتها من العنف والتعصب والتطرف.
وهذا التاريخ هو تاريخٌ دنيوي لا ديني (الدين فيه مثل أية أيديولوجية كان شعاراً ومحركاً ومحرّضاً فحسب).. هو تاريخٌ بشري تدبّري عملي لا تاريخ قيمي مبادئي أخلاقي.. وحتى لا نكون مثاليين في طروحاتنا ومغالين في قناعاتنا الفكرية الواصلة ربما حدّ التماهي والانسياق (غير الواعي عن حسن نية!) مع أغراض الغرب ودسائسه ورؤيته المؤدية لتكريس معنى ونمط واحدٍ للإرهاب، نقول بأن الإرهابَ والتطرف والعنفَ أمرٌ لا يقتصر على منطقتنا هذه التي ارتكب فيها الغرب ما ارتكب من فظائع الإرهاب والقتل والتدمير الممنهج عبر عقود طويلة من السيطرة الاستعمارية المستمرة عبر كيانه العنصري إلى أيامنا هذه، ومن يلف لف من كيانات تابعة خانعة تدعمه في إرهابه وتوفر له سبل الإمداد الأخرى.. كما لا يتحدّدُ الإرهاب ولا يعرّف فقط بالبعد أو بالمعنى والبنية الدينية، بل هو أمر دنيوي بشري يتعلق بنزعات السيطرة والهيمنة والبقاء والحكم والتسلط عند الإنسان ذاته (سواء كان متديناً أم ملحداً أم لا أدرياً)..
وبمراجعةٍ مدقِّقة وفاحصة لمسيرة التاريخ لدى الحضارات وتطور الأمم والمجتمعات، سنجد أن الحروب والإرهاب (الذي مورس فيها وقبلها وبعدها، والذي يعود لغايات مادية بحتة)، هو أكبر حجماً وأوسع مدىً وأشد رسوخاً من الحروب التي استُغل فيها الجانب الديني إلى أبعد الحدود.. فما رأيكم مثلاً بالتاريخ الأميركي والغربي الأوروبي، ألم تندلع فيه ظواهر الإرهاب السياسي والمافياوي والميليشياوي المستمرة حتى اليوم؟!.. ثم ألم تتأسس الولايات المتحدة الأمريكية نفسها على الإرهاب والقتل والفتك في سحق وقتل الهنود الحمر؟! وما رأيكم بإرهاب جماعات وتنظيمات اليسار (الثوري العنيف والانقلابي!) الذي انطلق وتحرك في كثير من دول العالم، وهو الذي تأسس على قناعات وإيمان عقيدي عميق بالإرهاب والقتل والتصفيات التي جرت في غير بلد في هذا العالم البشري؟ ثم ألم تشتعل حربان عالميتان قُتل فيهما أكثر من 70 مليون بني آدم نتيجة دوافع الهيمنة والنفوذ والسيطرة والصراعات على الموارد والثروات والطاقات والطرق؟! وكي لا ننسى أو يأخذنا تركيزنا على إرهاب التاريخ العربي، نسأل: أليست إسرائيل اليوم هي أس وبؤرة الإرهاب في منطقتنا؟ بالعكس وجودها اللاشرعي الاغتصابي (للأرض والشعب) هو ما تسبب ويتسبب بتغذية ونمو حركات ومواقع العنف والإرهاب في منطقتنا؟!!.
إن معظم وربما كل الحركات السياسية بالمنطقة العربية (من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين) أسّست وأقامت وجودها على فكرة الانقلاب والثورات وبالتالي على منطق القوة والعنف وعقلية الغلبة والاحتكار، ومارسته على نطاق واسع لتحقيق طموحاتها وأغراضها في الصول للحكم والسيطرة على المجتمعات بما فيها وعليها من موارد وثروات وقدرات، حيث قامت بمعظمها عندما استلمت السلطة التي شرعتها بقوة الإرهاب، بأعمال القتل والإبادة والتصفيات ونهب الثروات والخيرات..!!.
من هنا: الإرهاب ليس حكراً على جماعة أو دين أو بلد أو مجتمع أو حضارة بعينها، ولا تختص به أمة من أمم الأرض… فالإرهاب (من حيث هو عنفٌ دموي تدميري ينطلقُ من عقيدة الخلاص وامتلاك حقيقة مقدسة، ومن عقلية رفضٍ لآخر مختلف ومغاير)، قائم وموجود (وما زال قائماً وموجوداً لدى كل الأمم والبلدان والحضارات وإنْ بمسمّيات مختلفة) في كل مكان من هذا العالم (المتحضر!!) الذي تسيطر عليه قوى ودول الإرهاب العالمي وعلى رأسها أمريكا وإسرائيل..
طبعاً، قد يظن بعضنا أن أدونيس – في حديثه عن الإرهاب القائم فكرياً وعقائدياً في بنية مجتمعات العرب منذ الأيام الأولى لعهدهم بثقافة التطرف والإقصاء في ارتكازاتها الدينية – لا ينفي ولا يؤكد الإرهاب لدى الثقافات والأديان الأخرى.. هو يتحدث فقط عن ظاهرة الإرهاب لدى بعض الجماعات الإسلامية.. لكن ما اتضح لنا أن أدونيس – في معظم دراساته وحواراته وأحاديثه – يركز دوماً وبشكل تكراري على هذا الموضوع الذي يحمل فيه الدين – والنص الديني (يغلفه بالحديث عن التاريخ العربي) – مسؤولية الإرهاب والعنف المستمر في ساحات العرب وميادينهم منذ قرون، ناسياً أو متناسياً الدور الكبير والحيوي الذي مارسه الغرب في إذكاء روح الصراعات وإشعال الكثير من دورات العنف الدموي في مجتمعاتنا.. ودور العنف العدمي لعقلية الاستبداد العربي القائم في توليد العنف والإرهاب.. فآراؤه واضحة وليست مخفية في هذا المقام…
طبعاً نحن هنا لا ندافع عن تاريخ الأمة والعرب، ففيه من الصراعات والإرهاب والعنف ما يوزع على العالم بأكمله.. ولكن التركيز الدائم على هذا الموضوع دون التطرق لأسبابه يدفعنا للتشكيك بالنوايا..
واليوم لا شك نشهد مزيداً من أشال العنف والإرهاب السياسي وغير السياسي في بلداننا العربية، وهي لها أسبابها وجذورها التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، التي لم تتم معالجتها جذرياً إلى يومنا هذا..
إننا نعتقد أن جذور مشكلاتِنا العربية الضاربة في عمق التربة المالحة لاجتماعنا العربي التاريخي، تتمظهر فيما يلي:
1- هدرُ طاقات الشباب العاطل عن العمل وتبديدها على العبث والفوضى واللا معنى والضياع وربما العدمية..
2- مشكلةُ التنمية المعاقة، وضعف قيم العمل والإنتاج المادي النافع. بمعنى عدم خلق فرص عمل حقيقية لهذه الأجيال بما يتناسب مع قدراتها ومواهبها وتعليمها، وبما يحقق ويضمن لها “عيشة” حرة كريمة، تحفظ حياتها المستقبلية تطوراً وازدهاراً وسعادة.
-3 انكفاءُ الناس عن مساندة ودعم مواقع ومظاهر الحداثة القشرية المستوحاة من تجارب الآخرين، والمنقولة نقلاً من تربتهم، بلا أدنى تهيئة أو قبول.
وقد أفضت المشكلات السابقة – في أغلب بلدان العرب – إلى عدم بناء وقيام بنى صناعية وعلمية حقيقية قادرة على تأمين تلك الفرص المطلوبة لتمكين قدرات أغلبية الناس وزجها في أتون العمل المنتج، وإشغالها بالإنتاج والازدهار واقتصاد الرفاه.. فبلدان العرب لم تخرج من أطوار صراعات نخبها الأولى.. هي بلدان تتعيش على الاستهلاك فحسب، حيث يتم بيع مواد الخام العربية للخارج، لتقدّم (تلك البلدان) قليلاً من التنمية والحاجات والوظائف لأبناء مجتمعاتها دونما تخطيط مستقبلي يقوم على العلم والمعرفة وتراكم الخبرات وتحشيد الطاقات.
في مثل هذه الأجواء – وفي ظل البنى السياسية العربية المهترئة – تنشأ علاقات الفساد والإفساد، بل وتتجذر أكثر فأكثر مع وجود أرضية واسعة لتهتّك القوانين ومزاجيتها وتأويلاتها، وبالتالي خرقها دوماً.. والنتيجة -كما نراها اليوم في معظم بلدان العرب- صراعاتٌ وأعمال عنف وإرهاب تتفجر، وحروب تندلع، وتدخّلات خارجية تستبيح كل شيء نهباً وسرقة..!!.
إن استمرار العنف والإرهاب في كثير من بلداننا، هو أيضاً ملازمٌ لغياب قيم الوعي الاجتماعي والعقلانية والحرية والعدالة (أي الافتقار لمنظومة الحقوق).. بما يعني عملياً أن مناعة هذه البلدان والمجتمعات ضد العنف والإرهاب لا تكون بقوة العضلات فقط، بل بقوة العقل، والعلم والتنمية، ومنح الحقوق قبل أي شيء آخر. ولكن هذا لم يحدث بشكل حقيقي عملي ومستدام، ولهذا لا تزال مجتمعاتنا تعيش أزمات متواصلة ومستمرة، تؤدي بين وقت وآخر إلى توليد مسببات ودوافع واسعة لنشوء العنف والقوة وبالتالي تفجر الإرهاب، خاصة على صعيد انهيار شرعية الاجتماع الديني والسياسي العربي والإسلامي، وهيمنة ثقافة الأصولية والسلفية والتكفيرية والإلغائية وما تفرزه من عنف مادي لا تزال تزدهر مناخاته ومنابعه بقوة في داخل تلك التربة الخصبة.
وحتى تمكنت الدول والشعوب البشرية من قوننة عنفها وفوائض قوتها، كان لابدّ من معرفة عوامل ومسبّبات العنف والقوة… وعلى صعيدنا نحن في عالمنا العربي يمكن القول بكلّ تأكيد بأنّ مناخ العنف السياسي وغير السياسي بنوعيه العضوي والرمزي لا زال حاضراً بقوة، ولا تزال تتوفر بيئة حاضنة وتربة مناسبة لنموه وتصاعده، ولهذا جذوره ومولداته وعوامل لنشوئه، لعل من أبرزها: وجود نظم أمنية عنيفة مغلقة تتبنى العنف منهجاً وطريقاً وحيداً للعمل السياسي وغير السياسي، وهيمنة تراث ثقافي وعقائدي تديني (غير ديني) إقصائي غير تسامحي، يبرّر العنف ويمجّد القوة ويتغنى بالإرهاب وقتل الآخر المخالف، بل يعتبر هذا القتل واجباً شرعياً يتقرب به إلى الله..!!!… إضافة إلى سيادة العلاقة الفوقانية الجائرة بين النخب الحاكمة والجماهير المحكومة… وعدم وجود جسور وقنوات تفاهم أو توسّطات مدنيّة حقيقية مهيكلة بينهما من تنظيمات ومؤسّسات مدنيّة وأحزاب ومنظّمات أهلية يمكن أن تكون محطّة تواصل وتفاعل بين أهل الحكم وعموم الجمهور… وبطبيعة الحال لا يمكن استثناء إسرائيل – كما قلنا سابقاً – كعامل من عوامل العنف الدائم في منطقتنا العربية، مع أنه كان يجب أن يكون دافعاً للعلم والتنمية والديمقراطية والحرية بدلاً من كونه محرضاً على القمع والاستبداد والعنف..
أمّا عن العلاج، فإنّ تكوين الدولة الديمقراطية ذات البنية المؤسساتية القانونية الراسخة والقوية بحكم العراقة والضمانات الدستورية والوعي العقلي الشعبي، هي الوحيدة القادرة على إضفاء طابع الشرعية القانونية على مناخ العنف عبر التحكم بمختلف آليات ووسائل الضبط والردع لطرق استخدام القوة ومختلف أدوات العنف، مع حصر احتكار سلطة إصدار الأمر بها بيد أقلية سياسية منتخبة إرادياً من الناس، وهي التي تتحمل مسؤوليات العمل السياسي وغير السياسي، وبناء مناخ عام لها مناسب..
طبعاً، الديمقراطية ليستْ علاجاً كاملاً ومثالياً ولا وصفة سحرية نهائية، ولكنّ نظامها السياسي بات أفضل النظم التي توصل إليها الإنسان خلال مسيرته التاريخية فيما يخص قضية غاية في الحيوية والخطورة، وهي قضية احتكار العنف، ومنع إشاعة القوة لأي كان، وقضية الحكم وآلية انتقال السلطة وإدارة شؤون المجتمعات وقيادة الدول وإيصالها إلى بر الأمان والاستقرار السياسي، رغم ما يختزنه هذا النظام الديمقراطي من سلبيات، وما قد يعتريه من أمراض قد تنكشف فيها هشاشته، خاصة في ظروف وحالات هيمنة مظاهر الاستقطاب الاجتماعي الحاد، وبروز التطرف والشعبوية، لكنّه يبقى (أي النظام الديمقراطي) المعيار والإطار الأنسب لحل التناقضات الاجتماعية والسياسية حتى في حالاتها المتطرفة، إضافة إلى أنه يحتاج إلى حماية وتطوير دائمين.
نحن نحتاجُ في عالمنا هذا كله، خصوصاً في بلداننا العربية – التي هدّها التعب واللا مسؤولية وإضاعة الثروات، وتوسّل العنف والإرهاب عند كثير من جماعاتها وتنظيماتها – نحتاجُ إلى حالةٍ وشيءٍ من العقلانية والهدوء العملي، لنتمكّنَ من إعادة تأهيل ذواتنا وخاصة شبابنا، لنحميهم من العنفِ والتطرفِ والراديكالية والفكر العدمي.. فعندما تُنتهكُ الحقوق في أي بلد، ويغيبُ الحوار والانفتاح واحترام الآخر.. يتفجّـر الجهل، وتنمو بذور التّطرف والتّعصب والإرهاب العدمي الأعمى..!!.
وهذا ما يجعلنا نؤكد أخيراً كنتيجة، على أنّ كل أعمال ومواقع التطرّف والعنف والإرهاب، هي – بالدرجة الأولى – نتاج ومحصلة نهائية لتاريخ طويل من الإقصاء والقمع والكبت والانغلاق والتعقيم السياسي التاريخي والمعاصر، ولا حلّ ولا علاج له إلا ببناء دول مدنية حضارية مؤسسية حرّة، تتمكن من تحقيق المشاركة والعدل والكفاية والحريّة للناس، وعندها سيزول ويختفي العنف والتعصب باختفاء أسبابه وزوال دوافعه..!!.