
كوريا الجنوبية تنتخب رئيساً جديداً: تغيير سياسي يحتاج إلى اختبار
بقلم ابتسام الشامي
بانتخابها رئيساً ذا ميول يسارية، تدخل كوريا الجنوبية مرحلة سياسية جديدة، بعد أزمة عصفت بالبلاد ووضعت استقرارها على المحك. على أن المرحلة الجديدة لن تكون تداعياتها مقصورة على السياسية الداخلية فحسب، وإنما الخارجية أيضاً في ظل الاشتباك التجاري مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتوجيه الرئيس المنتخب رسائل ايجابية لروسيا والصين.
انتخابات مبكرة
وضعت الانتخابات الرئاسية المبكرة في كوريا الجنوبية حداً لأزمة سياسية تفاقمت على مدى الأشهر الماضية، مع اتخاذ الرئيس المخلوع يون سوك يول في كانون الأول الماضي، قرارات بفرض الأحكام العرفية لأول مرة منذ خمسين عاماً. وفي أعقاب انتخابات تشريعية، أفقدت حزبه السيطرة على البرلمان، بما ترك تأثيره في إنتاجية الحكومة مع تعطل مشاريع القوانين المقدمة إلى الهيئة التشريعية، سارع يول إلى محاولة تقويض النظام الديمقراطي، عبر فرض الأحكام العرفية التي تمنح القوات العسكرية صلاحيات استثنائية خلال حالة طوارئ، عندما تعتبر السلطات المدنية عاجزة عن العمل.
لكن إجراءات الرئيس المخلوع لحماية حكمه، سرعان ما انقلبت ضده وعجلت في انهياره. وعلى إثر إعلان الأحكام العرفية التي ظن المواطنون أنها مرتبطة بمخاطر خارجية، سارعت المعارضة إلى إدانة الإجراء ووصفه بغير الدستوري، في وقت دعا فيه زعيمها، لي جاي ميونغ، أعضاء حزبه الديمقراطي إلى الاجتماع في البرلمان مساء للتصويت ضد الإعلان. وحماية للنظام الديمقراطي، انطلقت التظاهرات مواكبة لحراك المعارضة أمام البرلمان ما أدى إلى تصادم مع الشرطة ووقوع إصابات، لتنتهي مفاعيل القرار بعد ست ساعات من إعلانه باضطرار الرئيس التراجع عنه مسجلاً بذلك هزيمة سياسية أمام معارضيه، وواضعاً مستقبله السياسي في خطر بعد توجه المعارضة إلى عزله، وهو ما حصل في نيسان الماضي.
تداعيات الأحكام العرفية فرضت الانتخابات المبكرة مطلع الشهر الجاري، ما أتاح وصول لي جيه ميونغ ذي الميول اليسارية إلى سدة الرئاسة لولاية واحدة من خمس سنوات وفق ما ينص عليه دستور البلاد. وقد حقق لي فوزا ساحقا على المحافظ كيم مون سو من حزب الرئيس السابق يون سوك يول بحصوله على 49.4% من الأصوات، متقدماً بفارق كبير على منافسه الذي حاز 41.2% من الأصوات وسارع للإقرار بهزيمته.
خطاب الرئيس الجديد
ومع وصوله إلى الرئاسة فإن الأنظار توجهت إلى خطاب ميونغ السياسي والتحديات الماثلة أمام حكمه لاسيما في ظلال السياسة الخارجية الأمريكية للرئيس دونالد ترامب وحربه التجارية المفتوحة على أصدقاء بلاده وأعدائها على حد سواء. وفي خطاب النصر الذي ألقاه خارج مبنى الجمعية الوطنية، حرص الرئيس الجديد على توضيح الملامح العامة لسياسته الداخلية والخارجية، اذ تعهد اولا بحماية الديموقراطية في بلاده قائلاً إنه سيضمن “ألا يستخدم الجيش أبداً الأسلحة التي عهد بها إليه الشعب لتدبير انقلاب”. وخاطب مواطنيه قائلاً “بغض النظر عمن دعمته في هذه الانتخابات، سأعمل كرئيس للجميع لاحتضان وخدمة كل مواطن”. وقال: “حان الوقت لاستعادة الأمن والسلام اللذين جرى تقليصهما إلى أدوات للصراع السياسي، وإعادة بناء سبل العيش والاقتصاد المتضرر من اللامبالاة وعدم الكفاءة وعدم المسؤولية، وإحياء الديمقراطية التي تقوضها العربات المدرعة والبنادق الآلية”. وأضاف أن “المهمة الأولى هي التغلب بشكل حاسم على العصيان وضمان عدم حدوث انقلاب عسكري آخر بالبنادق والسيوف ضد الشعب”. وتابع: “إننا قادرون على تجاوز هذه العقبة المؤقتة بفضل القوة المشتركة لشعبنا الذي يتمتع بقدرات كبيرة”.
أما في ما يتعلق بالاقتصاد المأزوم، فقد تعهد بتبني نهج “عملي وموجه نحو السوق” لتنشيط النمو وتعزيز التقنيات المتقدمة، مثل الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات، وقال: “سأقوم بتشكيل حكومة تدعم وتشجع، وليس حكومة تسيطر وتدير”.
ولم ينسَ ميونغ من ارسال رسائل إلى الجارة الشمالية، إذ اتسم خطابه بنبرة تصالحية اتجاهها، وقال “سنداوي جراح الانقسام والحرب ونرسي مستقبلاً يسوده السلام والازدهار”. وأضاف “مهما كان الثمن، فالسلام أفضل من الحرب”، متعهداً في الوقت ذاته بما سماه “ردع الاستفزازات النووية والعسكرية الكورية الشمالية وفي الوقت نفسه فتح قنوات اتصال” مع الشمال.
وإذا كان ترتيب الأوضاع الداخلية أولوية بالنسبة للقيادة الجديدة بفعل ما أصاب البلاد من تشظ بسبب الأزمة الأخيرة، إلا أن التحديات الخارجية لا تقل أهمية، وهو ما حضر أيضاً في خطاب الرئيس الجديد، حيث شدد الأخير على اتباع دبلوماسية “براغماتية تتمحور حول المصالح الوطنية لمواجهة التحديات الناشئة عن المشهد الاقتصادي والأمني المتغير”. وأضاف: “سنعزز التعاون بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة واليابان على أساس العلاقة القوية بين كوريا والولايات المتحدة، والتحالف والنهج في العلاقات مع دول الجوار من منظور التطبيق العملي والمصلحة الوطنية”. وفي مقابل التأكيد على أهمية العلاقة مع الولايات المتحدة، حذّر الرئيس الجديد من أن “تصاعد الحمائية وإعادة هيكلة سلاسل التوريد” يُشكلان تهديداً وجودياً لرابع أكبر اقتصاد في آسيا. علماً أن اقتصاد كوريا الجنوبية القائم على التصدير تضرر بشدة بفعل حرب ترامب التجارية، وما ادت اليه من فوضى على مستوى التجارة العالمية. وسيكون على عاتق الرئيس الكوري الجنوبي الجديد التفاوض مع البيت الابيض للتوصل إلى اتفاق بشأن الرسوم الجمركية على الواردات، وهي مفاوضات تقول واشنطن إن سببها هو اختلال كبير في الميزان التجاري بين البلدين.
على أن التحديات التي تواجه الرئيس الجديد وحكومته، تستدعي التفكير بطرق مختلفة لمواجهتها، وفي هذا السياق كان لافتاً توجه الرئيس الجديد برسائل ايجابية إلى كل من روسيا والصين، فقد سبق له في إحدى المناظرات الرئاسية قوله “يجب ألا نهمل العلاقات مع الصين أو روسيا. ليست هناك حاجة إلى اتباع نهج عدائي مفتعل كما هو الحال الآن”، علماً أن ميونغ تعرض لاتهامات من قبل معارضيه، بالتبعية للصين لدرجة وصفه في خطابهم بأنه “ضفدع مؤيد للصين” نتيجة لإصراره على أن ليس لبلاده مصلحة مباشرة غزو صيني محتمل لتايوان.
خاتمة
يقدم الرئيس الجديد لكوريا الجنوبية خطاباً جديداً ينسجم وقناعاته السياسية، لكن الانتقال بالمواقف المعبر عنها من الأقوال إلى الأفعال سيكون صعباً، في ظل الروابط القائمة بين سيول وواشنطن، والتي من شأنها أن تكبل خياراته الخارجية وتجعل التحرر من قبضتها أمراً بالغ الصعوبة.