هامش ثقافي

التعددية الثقافية!.. أم التنوُّع؟!

بقلم غسان عبد الله

ناهيك عن المثقفين العرب الذين إن فُهِمت مبرراتُ الأصوات النسائية الأوروبية الرافضة له بسبب خوفها من تكريس ثقافات تضطهد المرأة وتتعامل معها بوصفها مخلوقاً أدنى خصوصاً في مجتمعاتنا العربية فإنني لم أفهم جيداً أسباب رفض أغلب المثقفين العرب له، وعلى ماذا استندوا في موقفهم الثقافي الاستباقي المناهض للتعددية الثقافية الذي أستطيع أن أصفه بأنه شديد الصرامة ويصل أحياناً إلى درجة العنف.

التعددية الثقافية في التباسها بمفهوم التنوّع الثقافي كواقع من منطلق الوجود والتنفس استطاعت أن تطرح نفسها موضوعاً هاماً أمام الفكر الثقافي والسياسي العالمي منذ بدايات القرن الماضي، إلا أن تبلور مفهوم التعددية الثقافية كطرح فكري منفصل ومختلف عن التنوع الثقافي يناقش حق الأنواع في الوجود والتنفس ومنحها مساحتها بما يضمن حق الأقليات في مجاورة الآخر في التعبير عن شخصيتها الثقافية فإنني أميل – بحثياً – وكما أكدته أغلب المصادر إلى أنه بدأ كنظرية في ثمانينات القرن الماضي بأمريكا في سَبْق ثقافي فكري صريح لأمريكا على حساب أوروبا.

سيحتدم النقاش بين المثقفين والمفكرين الغربيين بعد نضوج التجربة لديهم على صعيد التعددية الثقافية، ليتحوّل التسابق على تبنيها من انتصار لحرية الأقليات وفتح أفق الثقافة إنسانياً أمامهم، إلى مساهمة مباشرة في حرمان غير عادل إنسانياً لأفراد الأقليات من الحماية ومساحة الحرية التي توفرها لهم الأنظمة الليبرالية، في هذا السياق يقول المفكر بريان باري (1936-2009) في كتابه الثقافة والمساواة: “إن جوهر التعددية الثقافية لا يزال هو الإصرار على ضرورة التراجع عن صور الحماية الليبرالية للأفراد حيثما تداخلت تلك الحماية مع قدرة إحدى الأقليات على العيش وفقاً لثقافتها. وهكذا يمضي استيعاب التنوع العميق بين الجماعات جنباً إلى جنب مع قمع التنوع داخل الجماعات والويل لأي شخص يشاء سوء حظه أن يكون عضواً في أقلية ثقافية يخالف سلوكه قواعدها السلوكية المتعصبة.

لم يتردّد المتعصبون للتعدّدية الثقافية في اتهام المحاولات النقدية لهذا المفهوم بأنها شكل من أشكال التراجع عن دعم الحريات في محاولات تبدو يائسة للمحافظة على مثالية الطرح الأول لمفهوم التعددية الثقافية الذي استمد قوته من الرغبة المتحضرة في إتاحة المجال أمام الأقليات لازدهار ثقافتها بالقرب من بقية الثقافات سعياً لتوهّج إنساني شامل.

على الرغم مما أثبتته التجربة الغربية في مشاريع التعددية الثقافية والمخاوف المطروحة فيما يتعلق بحقوق المرأة والطفل وحرية التعبير داخل الأقليات وما سواها من خطر سيطرة الطائفة وفرض أساليبها القمعية على الأفراد تحت مسمى التعددية الثقافية إلا أن التعددية الثقافية كمفهوم لا يمكن تفاديه أو تجاوز أهميته، بل اعتبره شرطاً إنسانياً أساسياً للتعايش، وقيمة فنية لا يمكن أن يكتمل المشهد الثقافي بدونه.

ربما سيتطلب الأمر جهداً حوارياً أكثر توسّعاً بين المثقفين لبلوغ حالة من التعددية الثقافية ذات فهم أعمق لمعنى الحريات دون أن يتعارض مع حرية الأفراد باعتبارها جوهر النشاط الثقافي، لكن من وجهة نظري فإن قبول ثقافات مختلفة في غرفة واحدة أمر لا يمكن أن يتحقق دون أمرين أساسيين هما التحضّر بما يضمن الاستيعاب العميق لمعنى احترام القانون، وبنية أخلاقية تحافظ على الإنسان فينا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *