فضاءات فكرية

من الخيارات الكارثية التي دمّرت بلداننا: عدمُ تعميقِ الحِسّ النّقدي واستسْهال دور المُثقف العُضوي

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

وهنا يأتي دور النقد الذي يحمل المثقف لواءه.. فالثقافة على الرغم من معانيها الزاخرة بالقيم والاتجاهات الفكرية والاعتقادات والمعارف، هي بشكل أساس صورة مختصرة للنقد.. أي أنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً معه، ولهذا يكون دور المثقف متركزاً على تحليل الواقع وتقييمه وتعريته من خلال وعيه النقدي وامتلاكه لأدواته النقدية المسؤولة في سعيه لتحليل وتقييم وتقويم الأفكار والسلوكيات والأعمال والعلاقات والنظم، والهدف هو كشف الخلل وجوانب الضعف ومواطن الاهتراء تطوير مجتمعه، من أجل معالجتها ومن ثم العمل على تحسين شروط حياة أفراد المجتمع على طريق البناء والازدهار.

إن دور المثقف يتحرك على طريق تحليل الواقع الذي يعيش فيه الناس، وتعريته، والكشف عن تعقيداته، وتحديد مشكلاته وما يواجهه من تحديات فكرية وعملية.. إنه يطرح أسئلته حول المشكلة والحلول والمقترحة متطلعاً لإحداث التغيير الإيجابي في المجتمع من خلال تقديم رؤى نقدية واقتراح حلول للمشكلات القائمة. وهذا يعطينا فكرة عن أهمية دور المثقف – خصوصاً في المنعطفات الخطرة التي يمر بها مجتمعه، وما أكثرها في بلداننا ومجمعاتنا العربية – في وعي المشكلة واقتراح الحل وتعزيز القيم الإيجابية في إحقاق الحقوق وبناء نظم مسؤولة. وهذا الدور الذي يلتزمه مثقفنا، هو دور واقعي مسؤول، ولكنه أيضاً دور بطولي، حيث أنه يواجه في بلداننا أهم مرض مزمن وهو مرض الاستبداد والفساد، ويدعو دوماً للتخلص منه، والتمسك بالقيم الإنسانية والدفاع عن حقوق الإنسان ومبادئه الحقوقية الأساسية.

ولا شك بأن الثقافة – خصوصاً الثقافة الإسلامية التي يلتزمها ولو نظرياً المجموع الأكبر في هذه الأمة – لها أهمية محورية وبالغة في عصرنا الراهن، بما يجعلها على رأس الأولويات والمهام الملقاة على عاتق الدعاة والمثقفين والنخب والمفكرين خاصة منهم النخب الملتزمة إسلامياً أي المثقف الديني، وذلك من أجل العمل على إدخال هذه الثقافة الإنسانية – بتعابيرها وتجلياتها المتعددة – إلى واقع العصر المتنوع الذي نعيش فيه الآن، والذي يتميز بمظاهر جديدة، وتغيرات شديدة التنوع، والتغير، والتحول.. كما وأننا نشهد فيه ظهور حاجات، وأوضاع سياسية وثقافية واجتماعية مستحدثة تتطلب منا الوقوف المتأني والدقيق، والدراسة الموضوعية الهادئة لمجمل تلك التطورات المتعددة في أبعادها ودلالاتها.. ولعل من أولى الواجبات والمهمات المطلوب العمل عليها حالياً (ودائماً) في داخل اجتماعنا الديني الإسلامي، هي مهمة النقد وقضية المساءلة النقدية الموضوعية للفكر، والتاريخ، والثقافة الحضارية لأمتنا ككل، بأشكالها وهمومها المختلفة.

إن تهميش، أو غياب وتغييب هذه الوظيفة الحضارية الحيوية – والعمل على تركيز سيادة الرأي الواحد في الأمة، وغلبة الفرد (وهيمنته) على المجتمع ككل – كان من أهم الأسباب التي أفقدت مجتمعاتنا قدرتها على النهوض من الحفرة التاريخية التي وقعت فيها نتيجة التخلف والتجهيل وسيادة الثقافة العتيقة والرأي الواحد، وتثبيط عزائم أبنائها عن العمل والبناء والانفتاح على مواقع التطور والانتفاع الحضاري، وعجزها عن تجاوز معيقات الحركة والامتداد إلى ساحة الحياة، وبالتالي وقوفه حائلاً بينها وبين وصولها إلى قيم الانفتاح والحرية والتجدد والابداع الحضاري الإنساني.

وإذا كان الدين – من خلال مبادئه وتعاليمه الإنسانية الواضحة والصريحة – يرفض الجمود والعطالة العقلية،  ويستنكر الوقوف على الخطأ، ويواجه التقديس الزائف وعبادة الشخصية واحتكار الحقيقة وسيادة الرأي الواحد وسيطرة القوالب المسبقة على الوعي والممارسة، في كل ما يتعلق بوجود هذا الإنسان وحركته وعلاقاته وفعالياته الوجودية.. بل وأكثر من ذلك: إذ أنه يأمر أصحابه والمؤمنين به بأن يلتزموا بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – كأهم انعكاس عملي لعملية النقد والمساءلة – فلماذا لا نعمل في هذه الأمة – التي عانت ما عانته من التخلف والجمود والعطالة التاريخية – على إعلاء شأن النقد، وتعميق الحس النقدي العلمي والموضوعي في كل مواقع الأمة ومفاصلها ومستوياتها الخاصة والعامة؟!.

وإذا عدنا إلى كلام الله تعالى فإننا نجد أن القرآن الكريم نفسه سلك طريق المساءلة والنقد الهادف لأي فكرة ومواقع في الأمة، ووجه سهامه النقدية لكثير من التجارب والأفكار التي عاشها والتزمها الإنسان والمجتمع، وبخاصة الماضي الذي كانت تعيشه الأمة التي نزل فيها القرآن.. وفي ذلك تأكيد –كما نعتقد- على الحقائق الجديدة، وتوجيه للإنسان من أجل أن يبقى في حالة انفتاح وتواصل فكري متحرك ومسوؤل ومتوازن.. وهو تأكيد أيضاً لكل الناس بأن الجيل الحاضر لا يتحمل مسؤولية الجيل الماضي.. كما أن على كل جيل أن ينطلق في الحياة ليكسب فكره، وعمله، ويمارس نشاطه وفاعليته التاريخية انطلاقاً من مسؤولياته الراهنة، وما يراه ويعاصره أمامه من تحديات وإشكاليات..يقول عز وجل: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾]البقرة: 134[ .

وفي هذا المجال نحن نعتبر أن اكتساب الفكر والمعرفة النقدية -اللازمة للشروع بمستلزمات النهوض، والقيام بدور المثقف الناقد لتجربة الحاضر، وتجارب الماضين- يتم من خلال ما يلي:

1. إعادة الاعتبار لمكانة ودور العقل، وجعله أساساً للوعي والتفكير الإنساني.

2. التأسيس الجدي للحوار في كل مفاصل الأمة، والاعتماد عليه كوسيلة رئيسية من وسائل الوصول إلى حل الخلافات، والانقسامات الراهنة.

3. دفع الإنسان المسلم إلى مواقع العمل والانتاج الروحي والمادي، من خلال الأخذ بأسباب العلم والمعرفة، والسعي باتجاه امتلاك زمام المبادرة في ميادين الحياة.

4. إثارة الكفاءات الفكرية والعلمية، واعتماد الجهد العملي والانضباط المسؤول أساساً للتمايز والتفاضل في كل مواقع الحياة الإسلامية.

5. الدعوة إلى (والدفاع عن) هدف الحرية العامة في المجتمع، في نطاق المسؤولية والالتزام الواعي كمنطلق للإنسانية الرفيعة والكاملة.

6. تحريك الطاقات والمواهب العامة للناس – في مختلف مواقع المجتمع – باتجاه الحق والمعرفة الملتزمة والمعتبرة.. من أجل المساهمة في تعزيز حضور الأمة، وشهودها، ومقاومة الموت المفروض عليها (التخلف والكبت والقلق السلبي والجهل والحصر…الخ).

7. تعميق حس الالتزام بالضوابط الأخلاقية الشرعية والإنسانية من خلال الانفتاح على الله تعالى مطلق الكون والوجود والحياة.. ليزداد الإنسان – من خلال ذلك – نمواً واتساعاً وارتفاعاً في مواقع الخصب والعطاء والانتاج.

بمعنى آخر على المثقف – خصوصاً المثقف الديني – إطلاق ثقافة الإسلام المنفتح كدليل تقدم واقعي، وكمنطلق تيار حضاري نقدي منتج وفاعل. ولا شك بأننا لن نخطو خطوة واحدة باتجاه تمثل وتحقيق تلك القيم والمبادئ ما لم ننظر بعمق إلى طبيعة البنية الداخلية الإسلامية، بأن نشتغل على إصلاحها من جديد.. أي الاشتغال على الذات، وتظهير أمراضها، وكشف عيوبها، ومعالجتها، وتحصيل أجود السبل للرقي العلمي والمعرفي..  فالجزء الأساسي من المعركة الحقيقية مع التحديات الخارجية كائن أصلاً في داخل ذاتنا الحضارية الراهنة، قبل أن يكون مع بنية التحديات الخارجية وبخاصة الاسرائيلية. لأن إنجاز مشروع النهوض لا بد أن يمر عبر إعادة بناء إنساننا.. بناء الفرد، والعمل – كما ذكرنا -على إثارته وتحريك طاقاته الهائلة. وذلك من خلال إفساح المجال له ليشعر بأنه يعيش في مجتمع سياسي، يعترف بوجوده، وتتسع فيه مساحة الحقوق والواجبات.

أجل إنها معركة تحرير الذات والبنية العربية الإسلامية – من الفرد وصولاً إلى الدولة – من علاقات النفي والنفي المتبادل إلى علاقات التكامل والتوازن، من عدم الاعتراف بحق الأفراد في الاختلاف إلى قيام أوسع دائرة من الاعتراف بحق الاختلاف في الاجتماع العربي والإسلامي.

وبالنظر إلى ذلك يمكننا أن نقرر هنا بأن المستقبل الثقافي والسياسي لمجتمعاتنا ولما نؤمن به من قيم إسلامية إنسانية في هذا العصر (بما فيه مستقبل الصراع الوجودي مع العدو الغاشم الذي ما زال يقتل ويدمر ويبطش)، سيتحدد من خلال طبيعة الشروط التي تنتجها الأمة العربية والإسلامية، وبخاصّة إرادة شعوب هذه المنطقة.. وإذا ما استطعنا أن نتحول إلى خوض معركة التحرير في الداخل على مستوى إنتاج بنى سياسية داخلية شرعية، بالاستناد على آلية العمل التعددي السياسي، والاعتراف بالآخر، ومن ثم العمل على بناء علاقات عربية وإسلامية تكاملية في كل المجالات، فإننا نكون بذلك قد بدأنا السير على طريق امتصاص شروط عدونا في الحياة والوجود. أي أننا نكون قد عَملنا فعلياً على إسقاط احتمالات إسرائيل القادمة في كل مخططاتها ومطامعها المستقبلية القائمة على التفرقة والتدمير والسيطرة على كامل المنطقة.. ولنتخيل هنا فقط من باب الأمل والرجاء، لو أن بعض البلدان العربية، قامت وتحركت وفعلت مثل ما فعلته إيران يوم أمس في إمطار الصواريخ كالمطر على هذه المحمية الغربية الأمريكية (التي لا تزيد مساحتها على مساحة حيّ صغير في أي بلد عربي كبير المساحة نسبياً)، ما الذي كان سيحدث وينتج؟!.. بكل تأكيد ستزول من الوجود، وستتوقف عملية إخضاع المنطقة وتمويتها على يد أقذر كيان همجي عرفه التاريخ البشري..!!. ولكن هذا الفعل الكبير دونه الكثير من وعي الذات، والجرأة وعدم الخنوع والاستسلام، وامتلاك القرار، والأساس النفسي القيمي العميق، والإيمان الحقيقي، وووإلخ..

.. ومرة أخرى نعود للتأكيد على مسؤولية المثقف في ضرورة ممارسته للنقد الموضوعي لجملة الأفكار والمشاريع المطروحة في أي سلوك تاريخي أو سياسي أو اجتماعي. لأن الأمة تحتاج – في الظروف الراهنة التي تسيطر فيها أجواء الكسل والتعب والإحباط – إلى من يقوّم حركتها، ويثير إرادات وهموم أبنائها، وينفخ في أوصالها دماءً جديدة، ويأخذ بيدها في حركة أرقى، أكثر وعياً ونضجاً واكتمالاً في الفكر والإحساس والممارسة، نحو مواقع الرفعة والعزة والكمال والكرامة، وهي قيم ما زال كثير من العرب يفتقدها للأسف الشديد، خاصة في ظروفنا اليوم التي نحن بأمس الحاجة فيها لتمثل الحكمة: “كن وحيداً في طريق الحق، ولا تكن زعيماً في طريق الباطل“.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *