الخِلافَةُ والاسْتِخْلافُ ميثاقٌ وأمانةٌ ومَسؤولياتٌ مُتجددة
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
خَلقَ اللهُ تعالى الوجودَ والحياة، وجَعَلَ على هذه الأرض حياةً بشريةً هي حياة الوعي والتكليف والمسؤولية والأمانة التي تنطلق من خلال وجود الإنسان الخليفة المؤتمن والمستأمن عليها إلى حين، بما يفرض عليه أن يمتلك أعلى المزايا والسمات والخصائص والمؤهلات، وأن يتحرك لامتلاك القدرات التي تساعده في عملية البناء الحضاري المنتج والفاعل على الأرض..
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾] يونس: 14[.. ويقول: ﴿إنّي جَاْعِلٌ فِي الأرْضِ خَليْفَة﴾] البقرة: 30[.. ويقول: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾] الأعراف: 69[.
إنَّ هذا الاستخلاف والجَعْل هو جَعلٌ تمكيني وتكليفي، وهو مبدأ قرآني إلهي تكمن غايته الأساسية في تنمية الإنسان وعمران مجتمعه بالخير والعمل التقوي الصالح، حيث أنه تعالى وفّرَ للإنسان الأرضية والمناخات المناسبة للبناء الحضاري الاستخلافي للقيام بمسؤوليات الدور الوظيفي لعمارة الأرض وإشادة بنيانها مادياً ومعنوياً؛ فوضعَ بين أيديه الموارد والطاقات والإمكانات والقدرات، وأرشده إلى المنهج للسير والانتظام الحضاري، وهنا كان لحركة النبوات (إرسال الرسل والأنبياء) الدور المهم على هذا السبيل البنائي التمكيني والتكليفي، كما كان للعقل دوره الحيوي في الرؤية والانتظام والاكتشاف والاختراع وابتكار الحلول والمعالجات لكل ما يعترض سبيل هذا الإنسان – الخليفة من عوائق ومشكلات وأزمات حياتية وجودية خاصة وعامة.. وقد حفلت سور القرآن بالكثير من الآيات التي تشير إلى أهمية العقل وتثني على وظيفته ودوره في البناء والتمكين والحضور الحياتي الفاعل والمسؤول، يقول تعالى: ﴿.. أفَلَا تَعْقِلُوْن﴾] البقرة: 44[.. ﴿.. لآيَاتٍ لقَومٍ يَعْقِلُون﴾] النحل: 12[.. ﴿..لا يَعقِلُونَ شَيئاً ولا يَهْتَدُون﴾] البقرة: 170[.. ﴿.. لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾] آل عمران: 190[..
ويقول الرسول الكريم(ص): “إِنَّمَا يُدْرَكُ الْخَيْرُ كُلُّهُ بِالْعَقْلِ، ولَا دِينَ لِمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ”. (أنظر: محمد الريشهري: ميزان الحكمة، ج3، ص2036).
ويقول الإمام علي(ع): “أَفْضَلُ النَّاسِ عَقْلًا أَحْسَنُهُمْ تَقْدِيراً لِمَعَاشِهِ، وأَشَدُّهُمُ اهْتِمَاماً بِإِصْلَاحِ مَعَادِهِ“. (أنظر: محمد الريشهري: العقل والجهل في الكتاب والسنة، ص139).
وجاء عن الإمام جعفر الصادق(ع): “دعامةُ الإنسان العقل، ومن العقل: الفطنة، والفهم، والحفظ، والعلم، فإذا كانَ تأييدُ عقله من النور كانَ عالماً حافظاً زكـيّاً فطناً فهماً، وبالعقل يكملُ.. وهو دليلهُ ومبصّرهُ ومفتاحُ أمره“. (أنظر: محمد صالح المازندراني: شرح أصول الكافي، ج1، ص305).
وجاء عن الإمام الرضا(ع): “صَدِيقُ كُلِّ امْرِئٍ عَقْلُهُ وَعَدُوُّهُ جَهْلُهُ”. (أنظر: محمد صالح المازندراني: شرح أصول الكافي، ج1، ص76).
والعقل يتكامل في حركة الوجود مع معاني الوحي ومعطيات الرسالة، ولهذا قال الفقهاء، أن الشرع يحكم بما حكم به العقل، بما يعني أنه وسيلة أساسية للحكم وفهم النصوص وتطبيق الأحكام.. خصوصاً وأن العقلَ يتطور بتطوّر التجارب واتساع الخبرات وتراكم المعارف واكتساب المهارات.
والعقل هنا هو العقل السليم الواعي ذي المنهجية العلمية النقدية الصارمة.. وهو قوّةُ الإدراكِ والفهمِ والفقهِ والتفكيرِ السليم.. ويتضمن الإدراكين الحسّي والعقلي.. حيث أن إدراكات السّمعُ والبصرُ هي الوسائط المخصصة لتحصيلِ المعرفةِ من المحسوسِ (الماديّ)، وأمّا القلبُ (الفؤادُ) فهو محلُّ النَّظَرِ والفكرِ المُتحصَّلِ من عالمِ المادّةِ عبرَ وساطةِ السّمعِ والبصرِ، كما بيّنَ ذلكَ تعالى في قوله: ﴿لهم قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا﴾] الأعراف: 179[.
ونلاحظُ أنَّ اللهَ تعالى يضيفُ في كتابه الكريم – على مستوى الاستخلاف الرباني ومتعلقاته العملية – معنىً آخر له يتوازى ويتكامل مع الدور العمراني الوظيفي المنوط بالخليفة، وهو معنى تحَمُّل مسؤوليات الأمانة الربانية في البناء الحضاري، يقول تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾] الأحزاب: 72[.. والأمانة تقتضي وتستلزم دائماً وأبداً استمرارية التصدي للواجب العملي بوعي ومسؤولية وحرص شديد على أعلى درجات التنفيذ والفعل، من خلال ضرورة وأهمية بناء الذات وتأهيلها تأهيلاً علمياً وتنموياً وأخلاقياً وروحياً..
والله تعالى سخّر كل ما في الوجود لكي يقوم الإنسان بمسؤولية الأمانة وواجب البناء الحضاري، يقول: ﴿اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وسخّر لكُم ما في السّموات وما في الأرض جميعاً منه إنّ في ذَلِكَ لآياتٍ لقومٍ يتفكّرون﴾] الجاثية: 12-13[،
إنّ الأمانة هي من أعلى وأسمى القيم الحضارية التي جاءَ بها الإسلام في تركيزه على مقام الخلافة والاستخلاف وموضعته قيمياً وعملياً، كمعيار وقيمة جوهرية كبيرة مرتبطة في العمق بقيمة حضارية أخرى هي الاستخلاف، إذْ أنه لا استخلاف من دون أمانة، ولا أمانة من دون استخلاف؛ وبالتالي لا أمانة من دون مسؤولية حقيقية أي من دون حرية حقيقية في الاختيار والوعي بالذات والحياة.
وهذا الوعي بالذات يستلزم إقامة القيم فيها، أي في النفس والروح، لتسهيل حمْلها وإقامتها في المجتمع والحياة.. إنها أمانة البناء الحضاري المتجدد، أمانة عمارة الأرض بالقيم الإنسانية التي جاءت بها الأديان وعلى رأسها الإسلام.. منذ أن أخذ الله تعالى العهد على الإنسانية كلها، يقول تعالى: ﴿وَإِذَ اَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّٰتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمُۥ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلىٰ شَهِدْنَآ أَنْ تَقُولُواْ يَوْمَ القِيَاْمَة إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَٰافِلِينَ﴾ [الأعراف: 172]..
إنه ميثاق عظيم وعهد وثيق كبير لا يمكن أن يتحمل مسؤوليته الروحية والعملية في الواقع الإنساني إلّا من آمنَ وعياً ومسؤوليات، وانخرط في مسالك الإيمان العملي استناداً للقيم المتفرعة عن هذا الإيمان وفي إطار مسؤولية الاستخلاف، كقيمة العدل والإنصاف، قيمة الحرية والاختيار، قيمة أداء الأمانات، قيمة البناء العمراني وغيرها.. يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾[النساء: 58].. وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27]..
هي إذاً عملية اختيار واعٍ وتحمّل مستمر للمسؤوليات الحياتية الدنيوية العملية، فرداً وجماعات، والتي يترتب وينبني عليها الجزاء في الآخرة ثواباً وعقاباً.. وهي تأتي وتتحرك كتكليف واختيار منه تعالى للفرد والجماعة البشرية، يقول تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾] ص: 26[.
وهي أيضاً أمانة البناء الحضاري، ومسؤولية عمارة الأرض ورعاية نظام التعايش والشراكة الإنسانية، وتدبير سبل العيش وأدواته الفاعلة، وفقاً للمنهج العادل الذي رسمه تعالى، يقول تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ اِلْمُنكَرِ وَتُومِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110[..
وهذا الاستخلاف الإيماني هو استخلافٌ حضاري قائم منذ أن تحرك خط النبوات في حركة الواقع البشري، وتوارثتها الأجيال الإسلامية فيما بعد.. يقول تعالى: ﴿وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ اَلْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَٰهَك وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَٰقَ إِلَٰهاً وَٰحِداً وَنَحْنُ لَهُۥ مُسْلِمُونَ﴾[البقرة: 132].
نعم إن عملية الاستخلاف الرباني للجماعة على الأرض هي بالمفهوم الواسع الذي عبر عنه الشهيد محمد باقر الصدر، تعني انتماء الجماعة البشرية إلى محور واحد وهو المستخلِف أي الله سبحانه وتعالى الذي استخلفها بدلاً عن كل الانتماءات الأخرى، والايمان بسيد واحد للكون وكل ما فيه. وهذا هو التوحيد الخالص الذي قام على أساسه الإسلام وحملت لواءه كل ثورات الأنبياء تحت شعار لا إله إلا الله.. وهي (أي عملية الاستخلاف الرباني للجماعة على الأرض) تعني بالمفهوم الواسع – كما نستنتجه من النصوص السابقة – إقامة العلاقات الاجتماعية على أساس العبودية المخلصة لله، وتحرير الإنسان من عبودية الأسماء التي تمثل ألوان الاستغلال والجهل والطاغوت.
إن الاستخلاف الرباني للإنسان، هو مقامُ كبير للفاعلية والحضور والإنتاج، لا يتوفّر إلا للقلة من الناس، وهو استخلافٌ يتقوم بالدين وقيمه ومعانيه الممتدة عبر سيرورة الوجود والحياة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وما عليها.. والدين هنا هو الذي يعطي لهذه الحياة معناها التكاملي الغائي الذي ما زالت كثير من حضارات البشر (وعلى رأسها حضارة الغرب الاستهلاكية مغيّبة عنه)، لأنه هو بذاته قيمة كبرى للوجود ومبدأ جوهري للإنسانية؛ يختار ما هو أصلح للإنسان على صعيد الدافع والمحرك الأساسي له في حركة الوجود.. ومن خلال قيمه ومبادئه يقوم الدين بتنمية هذا الدافع، وتثمير معناه ووجوده الحقيقي في واقع السلوكيات والمعاملات والعلاقات، بعد تمثّله عملياً في الخصوصيات والذاتيات.. إنه دافعُ بناءِ الحياة على التكامل الروحي والمادي على صعيد مفاهيم ومعاني الإنسانية الخيرة.
والسيرُ التكاملي للمستخلَف يقتضي تنمية هذا المستخلَف (الإنسان) على العلم والمعرفة، وعلى محاسن الأخلاق وتوعيته على مواطن الضعف والنزعات الغرائزية الكامنة فيه.. فالإنسان لا يعيشُ ولا يتحرّكُ في حياته بدافع واحد بل بدوافع متعددة (متنوعة ومختلفة)، فالطمع والتملك والسيطرة والمنفعة الخاصة وغيرها، كلها نزعات إنسانية، قد تدفع الإنسان إلى الزلل والخطأ والسقوط في مواقع الصراعات والعنف.. وهذه قضايا لا يعالجها على نحو واقعي جذري حقيقي سوى الدين في قيمه ومعاييره الروحية والحقوقية.
والإسلامُ – كحالة في الفكر والإحساس والممارسة، وكرؤية للكون والوجود والحياة، وكفلسفة كونية، وكنزعة خلاصية – هو مصدرُ الديناميكية التاريخية المؤسِّسة لمجمل هذه القيم والمبادئ والمعايير الناظمة لحركة هذا الإنسان (المستخلَف) عموماً في كل المراحل التاريخية التي قطعها هذا الدّينُ منذ البواكير الأولى وحتى الآن.. وهذه حقيقة واضحة وصريحة لا يمكنُ غضّ النّظر عنها، أو محاولة القفز فوقها، واعتبارها شأناً ثانوياً لا أثر أو لا معنى لها.
