غزة بين نار الحرب وسلاح التجويع.. إدانات دولية لا توقف الإبادة
بقلم ابتسام الشامي
في الوقت الذي تتواصل الحرب الإبادية الإسرائيلية ضد قطاع غزة للشهر العشرين على التوالي، يبدي العالم مزيداً من “العجز” عن إيقافها، ومع حصد المجاعة أرواح العشرات من أبناء القطاع..
تكتفي معظم حكومات العالم بالإدانة والشجب، من دون أي إجراءات يمكن أن تضع حداً لهذه الجريمة التي تمثل امتداداً للإجرام الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني.
مجاعة غير مسبوقة
لم تكن المجاعة يوماً غريبة عن تاريخ الشعوب الفقيرة والمستضعفة، لا سيما تلك التي اجتاحت بلادها جحافل المستعمرين لاستتباعها والسطو على خيراتها، أو تلك التي تحاربت لأسباب سياسية أو دينية أو عرقية. لكن المجاعة التي امتدت من عمق التاريخ ونتجت في بعض الأحيان إلى الأسباب المذكورة عن تغير مناخي، أو تفشي الأوبئة، تشهد اليوم في غزة إحدى أسوأ نسخها وأكثرها بشاعة وقسوة، ليس بسبب مشاهد الأجساد النحيلة للأطفال والنساء وهي تتساقط من شدة الجوع فحسب، بل بسبب الصمت العاجز الذي تبديه حكومات العالم تجاه مرتكبيها، مع قدرة تلك الحكومات على الفعل والتأثير.
المجاعة الأولى في تاريخ البشرية التي تنقل أحداثها المأسوية في بث حي عبر الأقمار الصناعية يصل كل بيت في العالم، لم تخرج في الفعل السياسي على المستوى الدولي عن إطار الشجب والاستنكار والإدانة، حكومات الدول المؤثرة بما فيها العربية، فضلت صرف جهودها في كتابة البيانات “بأشد عبارات” الشجب، من دون أن تكلف نفسها عناء البحث عن أدوات ضغط أخرى، من شأنها أن تؤدي في الحد الأدنى إلى إدخال المساعدات وإغاثة أهل القطاع، إن لم نقل وقف المجاعة ورفع الحرب عنهم. وبهذه الاستقالة الرسمية الدولية من العمل الفعّال، تسجّل غزة سابقة في تاريخ البشرية، في كونها المكان الوحيد في العالم الذي يشهد مجاعة يشارك الجرم فيها معظمُ دول العالم، إما تواطؤاً أو صمتاً أو اصطناع عجز وقلة حيلة. وبهذا المعنى فإن حملات الإغاثة التي ينظمها نشطاء دوليون تبقى عاجزة عن بلوغ أهدافها والدخول إلى القطاع بسبب المتواطئين والصامتين ومدعي العجز.
الإعلام الغربي يتفاعل مع صور المجاعة
الصمت الرسمي عن المجاعة في غزة، قابله حضور أكبر لهذه المأساة في الإعلام الغربي، وإذا كان هذا الإعلام قد تجنّد أغلبه في بداية الحرب على غزة لمصلحة العدو، وسرديته وبث دعايته المضللة، فإن تحول الحرب إلى إبادة بالنار والجوع، فرض تعديل الأجندة الإعلامية، وكما استفزت المجازر التي ارتكبها العدو على مدى عشرين شهراً من عمر الحرب، في المدارس والمستشفيات وخيم النازحين، مشاعر الملايين على امتداد العالم، فإنها أثرت في مقاربة الإعلام الغربي للحرب لغة، وتغطية صحافية. ومع اشتداد تأثير المجاعة في ظل إصرار العدو على حصار القطاع، وأمام مشاهد مصائد الموت في مراكز توزيع الغذاء العائدة لما يسمى منظمة غزة الإنسانية، ازداد حضور “غزة الجائعة” على الصفحات الأولى للصحف مرفقة بصور ضحاياها من الأطفال والنساء وكبار السن.
في هذا السياق، قالت صحيفة “الغارديان” البريطانية في تقرير ميداني، حول المأساة في القطاع “إن المجاعة في غزة بلغت مستويات غير مسبوقة، وسط أطفال هزيلين يملؤون المستشفيات، وأمهات يغامرن بحياتهن من أجل لقمة تسدّ رمق أبنائهن، في ظل سياسة تجويع ممنهجة فرضتها إسرائيل منذ أشهر”.
ونقلت الصحيفة عن فايدة عبد الرحمن، جدة الطفل محمد البالغ من العمر سبعة أشهر، أن حفيدها الذي لا يتجاوز وزنه 4 كيلوغرامات “يمضي يومه إما في البكاء من الجوع أو في قضم أصابعه النحيلة”، مضيفة: “واجهنا الجوع من قبل، لكن لم نرَ شيئاً كهذا. هذه أقسى مرحلة نمر بها”. وأضاف تقرير الصحيفة البريطانية أن المستشفى الذي يعالج فيه محمد، “جمعية أصدقاء المريض”، يعاني من اكتظاظ شديد، حيث يتكدس الأطفال الهزيلون على 12 سريراً فقط، بعضهم يتقاسم السرير مع طفل آخر، بينما لم يتبقَ في مدينة غزة سوى فريقين طبيين مختصين بالأطفال، يواجهان ما يصل إلى 200 حالة يومياً.
وفي تقريرها المطول عن مأساة الجوع في غزة، تشير الغارديان إلى أن “إسرائيل فرضت حصاراً تاماً على غزة في 2 آذار، ثم أعلنت رفعه جزئياً في أيار بعد ضغوط من حلفائها الغربيين الذين رفضوا صور المجاعة، لكنها في الواقع أعادت هندسة الأزمة، حيث تُدار عمليات توزيع الغذاء الآن عبر منظمة أمريكية غامضة تدير أربع نقاط مُعسكرة يصفها السكان بأنها مصائد موت. وقد قُتل مئات أثناء محاولتهم الوصول إلى تلك المواقع.”
بدورها خصصت صحيفة “ديلي إكسبريس” غلاف إصدارها على مدى يومين متتاليين لتسليط الضوء على المجاعة والأزمة الإنسانية الشديدة في قطاع غزة. وجاء غلاف يوم الأربعاء بصورة كبيرة لطفل فلسطيني يعاني من سوء تغذية شديد، مع عنوان رئيسي: “بحق الإنسانية أوقفوا هذا الآن”. وتحت العنوان الرئيسي تصدرت عبارة: “معاناة الطفل محمد المتمسك بالحياة في جحيم غزة تخجلنا جميعاً”. أما في اليوم التالي فجاء غلاف الصحيفة المحسوبة على التيار اليميني المحافظ، فتصدرته صورة لعدد من الأطفال المُجوّعين الذين يحملون أواني طهي فارغة، مع عنوان عريض “أطعِموا أطفال غزة وأمهاتهم المعذبات والمرتاعات والمكسورات، والذاهلات من الرعب”.
الصحف الفرنسية اهتمت أيضاً بالإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة بسلاح التجويع، فخصصت صحيفة ليبراسيون صفحتها الافتتاحية وعدداً من صفحاتها الداخلية للإضاءة على تزايد أعداد ضحايا المجاعة في غزة، وتضمّنت مقابلات مع عددٍ من الفلسطينيين. وعلى صورة لطفل برزت عظامه نتيجة سوء التغذية في مخيم الشاطئ، عنونت “ليبراسيون”: “المجاعة في غزة”، وتابعت: “أكثر من مئة منظمة غير حكومية تندد بحدوث مجاعة جماعية في القطاع، حيث تتضاعف الوفيات بسبب سوء التغذية نتيجة غياب المساعدات الغذائية التي تمنع إسرائيل دخولها”. أما صحيفة لوموند فقد اختارت صورة الأم الفلسطينية نفسها التي نشرتها “ذا غارديان” لتتصدر صفحتها الأولى، تحت عنوان “قطاع غزة: ويلات المجاعة”. وأشارت الصحيفة الفرنسية إلى أن “نحو 100 شخص لقوا حتفهم جوعاً منذ أن فرض الجيش الإسرائيلي حصاراً على دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع”. كما استعرضت “لوموند” شهادات جمعتها من أهالي غزة الذين تحدثوا عن الظروف المأسوية التي يعيشون فيها، منبهة إلى أن “الحكومة الإسرائيلية تتبنى، بشكل متزايد وعلني، استراتيجية تهدف إلى تفريغ غزة من سكانها”.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية الراعي الرسمي لجرائم العدو وشريك الإبادة المتواصلة منذ أكثر من عشرين شهراً، فإن صور المجاعة فرضت حضورها على الإعلام الأمريكي، مع ارتفاع صوت المطالبات بوقف الحرب وفي هذا الإطار، نشرت صحيفة واشنطن بوست، مقالاً للكاتب ديفيد إغناتيوس عن الوضع في غزة، يشير فيه إلى أن الحرب المستمرة “لا تترك مجالاً لالتقاط الأنفاس”، بل “تُراكم المآسي يوماً بعد يوم”. ويصف الكاتب مقتل مدنيين فلسطينيين أثناء انتظارهم المساعدات الغذائية بأنه “مشهد قاس يكشف عمق الكارثة”، ويشكل برأيه “سبباً كافياً لضرورة إنهاء الحرب من دون تأخير”.
وتحت عنوان “هذه صرخة تدعو العالم للالتفات للمجاعة في غزة” نشرت صحيفة نيويورك تايمز مناشدة عاجلة من قبل د. محمد منصور مدير التغذية في لجنة الإنقاذ الدولية وهي إحدى المنظمات القليلة التي لا تزال تقدم المساعدات في غزة، قال فيها “إن ما يقرب من نصف مليون شخص من سكان غزة يكابدون مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي، في إحدى أسوأ أزمات الجوع في العالم اليوم”. وأضاف منصور أن هؤلاء السكان باتوا على حافة المجاعة وأن نحو 100 ألف طفل وامرأة يعانون سوء التغذية الحاد والشديد، وهو التشخيص الأقسى في درجات انعدام الأمن الغذائي.
ولاحظ منصور أنه منذ أن فرض الاحتلال الإسرائيلي حصاراً على المساعدات الإنسانية الموجهة إلى غزة في آذار، تفشى الجوع بشكل كبير، خصوصاً بين الرضَّع والأطفال الصغار، مشيراً إلى أن الوضع يزداد سوءاً. وأوضح منصور أن البنية التحتية الإنسانية بغزة محاصرة بالكامل وأن نظام توزيع الغذاء الذي أنشأته “إسرائيل” لا يعمل في ظلّ تصاعد الأعمال العدائية، ومقتل المئات من الفلسطينيين الذين ينتظرون المساعدات، وإغلاق المعابر، وتأخير التصاريح، والنقص الحاد في الوقود والإمدادات الطبية والمياه والغذاء.
الصحافيون يواجهون خطر المجاعة أيضاً
المجاعة التي يكابدها أهل غزة بفعل الحصار الاسرائيلي، تطال كل أبناء القطاع، ومن منوط بهم نقل صورة المجزرة وأصوات الأطفال الجوعى باتوا يظهرون على شاشات التلفزة وقد بوجوه شاحبة وأجسام نحيلة أخذت منها المجاعة مأخذاً. وعلى خلفية ما يواجهه الصحافيون في غزة من قتل وتجويع، صدر بيان مشترك، عن هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) ووكالة فرانس برس الفرنسية، ووكالة الأنباء الأمريكية أسوشييتد برس، ووكالة رويترز، حذّر بأن من يغطون الحرب “يواجهون الآن المجاعة” و “نفس الظروف القاسية التي يواجهها من يغطون أخبارهم”. وجاء في البيان: “نشعر بقلق بالغ على صحافيينا في غزة، الذين يعجزون بشكل متزايد عن إطعام أنفسهم وأسرهم. لأشهر عديدة، كان هؤلاء الصحافيون المستقلون بمثابة عيون وآذان العالم على أرض غزة. وهم يواجهون الآن نفس الظروف القاسية التي يواجهها أولئك الذين يغطونهم”. وأضاف “يعاني الصحافيون من الحرمان والمصاعب في مناطق الحرب. نشعر بقلق بالغ لأن خطر المجاعة أصبح الآن أحدها”. كما طالب البيان السلطات الإسرائيلية بـ “السماح للصحافيين بالدخول والخروج من غزة”، مؤكداً “ضرورة أن تصل إمدادات غذائية كافية إلى السكان”.
خاتمة
تجوع غزة، لكنها لا تستسلم وترفع الراية البيضاء، وأمعاء المجاهدين الخاوية لم تمنعهم من الإبداع في تنفيذ عمليات تجبي أثماناً من أرواح الغزاة المحتلين. وكما قال الشاعر محمود درويش: “قد ينتصر الأعداء على غزة قد يكسرون عظامها.. قد يزرعون الدبابات في أحشاء أطفالها ونسائها وقد يرمونها في البحر أو الرمل أو الدم ولكنها لن تكرر الأكاذيب ولن تقول للغزاة: نعم.. وستستمر في الانفجار.. لا هو موت ولا هو انتحار ولكنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة“.
