دوليات

اتساع دائرة الاعتراف الاوروبي بدولة فلسطين.. مؤشر يعكس تغير المزاج الغربي

بقلم ابتسام الشامي

تحول في المقاربة الغربية

بين بداية الحرب العدوانية الاسرائيلية ضد قطاع غزة خريف عام 2023 ولحظتها الحالية، ثمة تغير لافت في مقاربة العالم الغربي للحرب، وانزياح تدريجي من الدعم المطلق للعدو سياسياً وعسكرياً وأمنياً إلى موقف أكثر توازناً ينسجم ومستوى تغير الرأي العام الغربي اتجاه دولة الاحتلال، وهو ما عبّرت عنه ولا تزال، التظاهرات المطالبة بوقف الحرب على غزة في العواصم الأوروبية وداخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، مضافاً إليها تحركات طلاب الجامعات لاسيما الأمريكية منها، وتوسع دائرة المقاطعة للعدو بمختلف أشكالها.

الموقف الجماهيري الذي تصاعد قوة وحضوراً وتوسع أفقياً في المجتمعات الغربية عموما، مع ارتفاع مستوى التوحش الإسرائيلي في ابادة أهل غزة، وصولاً إلى استخدام سلاح التجويع، كان لا بد من أن يجد تعبيره السياسي، في الأوساط الرسمية وأن يفرض على الحكومات تغيير مقاربتها لما يجري في فلسطين المحتلة وتحديداً الموقف الداعم لحكومة العدو. وبعد مرور أكثر من عشرين شهراً على بداية الحرب وجدت الدول الغربية نفسها مضطرة إلى اتخاذ خطوات تضغط فيها على العدو في محاولة لوقف الحرب بعدما بدا واضحاً تعمد حكومة العدو تعطيل مسار المفاوضات وعرقلة التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل الاسرى مع المقاومة الفلسطينية.

خطوات عملية للاعتراف بدولة فلسطينية

في هذا السياق تندرج خطوة عدد من الدول الغربية الاعتراف بدولة فلسطين، وهي خطوة يراد منها رفع “الضغط الديبلوماسي” على كيان العدو. حيث أعلنت عواصم دول غربية وازنة عزمها الاعتراف بدولة فلسطين قبيل انعقاد الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة في ايلول المقبل، وأصدرت 15 دولة بياناً مشتركاً، في ختام مؤتمر “حل الدولتين” الذي عقد في نيويورك، ودعت فيه إلى الاعتراف رسمياً بدولة فلسطين، معتبرة أن “خطوة – الاعتراف – أساسية نحو تحقيق حل الدولتين.” ودعت بقية دول العالم إلى حذوها. وعلى الرغم من الإعلان المشترك من الدول الخمس عشرة، إلا أنها ليست على المستوى نفسه من الالتزام بالخطوة المزمعة، إذ تنقسم الدول المشاركة في الإعلان إلى ثلاث مجموعات، الأولى سبق أن اعترفت بدولة فلسطين وتضم، إسبانيا وأيرلندا وسلوفينيا والنرويج، وثانية أعلنت نيتها الاعتراف وهي فرنسا ومالطا وكندا، اما المجموعة الثالثة فقد أبدت استعدادها للنظر بشكل إيجابي إلى خطوة الاعتراف بدولة فلسطين وهي أستراليا وأندورا وفنلندا وآيسلندا ولوكسمبورغ ونيوزيلندا والبرتغال وسان مارينو.

وتقصد الدول المذكورة بحراكها السياسي هذا الاعتراف بالدولة الفلسطينية التي أعلنتها من الجزائر، القيادة الفلسطينية في المنفى في 15 تشرين الثاني عام 1988، علماً أن 51 دولة من بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة البالغ عددها 193 دولة، لم تعترف بتلك الدولة حتى الآن. وبالتالي فإن الحراك السياسي يجري في أوساط هذه الدول، التي ترى في خطوة الاعتراف بالدولة الفلسطينية طوق نجاة من عار صمتها عن المجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة على مدى أشهر العدوان، حيث شكل دعمها السياسي والعسكري والأمني مشاركة فعلية لتل أبيب في جرائمها. وبدا خلال الأيام الماضية قيادة فرنسا الحراك السياسي هذا. وفي هذا الإطار تصدر وزير الخارجية الفرنسية صفوف الحملة الإعلامية للاعتراف بدولة فلسطين، وعبر حسابه على منصة “إكس” كتب جون نويل بارو باسم الدول الخمس عشرة “نعرب عن عزمنا الاعتراف بدولة فلسطين وندعو الذين لم يفعلوا بعد إلى الانضمام إلينا”. وبالتزامن مع صدور البيان المشترك في نيويورك، صدر إعلانان آخران وُصِفا بالتاريخيَّيْن في كلٍّ من لندن وأوتاوا. حيث أعلن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر أن بلاده ستعترف رسمياً بدولة فلسطين في أيلول المقبل ما لم تلتزم “إسرائيل” بالشروط التالية: “وقف إطلاق النار في غزة، واتخاذ الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو خطوات للسماح بدخول مزيد من المساعدات إلى قطاع غزة والإعلان بشكل واضح بعدم ضم الضفة الغربية والتزامها بعملية سلام تفضي إلى حل الدولتين”.

ألمانيا بدورها وهي أقرب الحلفاء الغربيين لدولة الاحتلال لم تتعهد بالاعتراف بدولة فلسطين لكنها حذرت تل أبيب من أنها “تزداد عزلة على الصعيد الديبلوماسي”، وعشية زيارته كيان العدو أعلن وزير الخارجية الألماني يوهان فاديفول أن “عملية الاعتراف بدولة فلسطينية يجب أن تبدأ الآن”، مردفاً أن “الاعتراف بدولة فلسطينية يجب أن يأتي في نهاية عملية تفاوضية، وأن ألمانيا ستُضطر أيضاً إلى الرد على أي خطوات أحادية”. مشيراً إلى أنه “في ظل التهديدات العلنية بالضم من جانب بعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية، فإن عددا متزايدا من الدول الأوروبية بات مستعداً للاعتراف بدولة فلسطينية من دون مفاوضات مسبقة”.

غضب اسرائيلي وقلق من التداعيات

الخطوة الغربية التي توازن بين احتواء الموقف الشعبي الضاغط لوقف الحرب، والتبرؤ من جرائم العدو لاسيما جريمة التجويع، بعد وقت طويل من الدعم الغربي غير المحدود قابلها العدو بالتعبير عن الغضب، واتهام الحكومات التي اعترفت أو هي في صدد الاعتراف بدولة فلسطين بدعم الارهاب.

وفي هذا السياق، أعرب رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو عن معارضته الشديدة للخطوة، مدعياً أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو “عقاب للضحية”، وقال إن “قيام دولة فلسطينية على حدود إسرائيل سيجعلها دولة جهادية تشكل تهديداً لاحقاً حتى للدول الأوروبية”.

وفي سياق التعبير عن الغضب الاسرائيلي، نشر السفير الاسرائيلي السابق في ايطاليا درور إيدار مقالاً في صحيفة اسرائيل اليوم تحت عنوان “دولة فلسطينية سيئة للعالم”، شن فيه هجوماً لاذعاً على الدعوات الغربية المتزايدة للاعتراف بدولة فلسطينية. ووصف إيدار فكرة إقامة دولة فلسطينية بأنها “هراء”، مشيراً إلى أن مجرد مناقشتها بعد “هجوم 7 أكتوبر” يعد “نوعاً من الإخلاص الخاص لعبدة الأوثان الفرنسيين” وفق تعبيره. واقترح إيدار “تفريغ الاعتراف بالدولة الفلسطينية من أي مضمون” عبر خطوات عملية تشمل فرض “السيادة الإسرائيلية من البحر إلى النهر، واستقدام يهود العالم للاستيطان في فلسطين التاريخية”، وتشجيع ما وصفه بالهجرة الطوعية للفلسطينيين”، لتحقيق أغلبية يهودية طويلة الأمد.

غضب نتنياهو والمسؤولين الإسرائيليين من الأداء الأوروبي، والذي يراد منه التأثير في مسار آخذ في الاتساع في مختلف دول العالم، يعكس من جهة أخرى حجم القلق الذي يعيشه العدو بفعل ما بدا مؤشرات متزايدة عن العزلة الدولية التي تواجه العدو في أوساط حلفائه الغربيين، وهو ما حذّر منه معظم الكتاب والمعلقين الاسرائيليين، الذين رأوا في خطوة الاعتراف بدولة فلسطين، إشارة تآكل للدعم التقليدي لكيانهم الغاصب. وفي هذا الإطار، وصف محرر الشؤون الدولية في القناة 12 الإسرائيلية عيران نير، التحركات الأوروبية للاعتراف بدولة فلسطين بأنها “تسونامي سياسي”، على الرغم من تأكيده أنها خطوة رمزية. وإذ تساءل عن دوافع قيام الدول الغربية بدعم قيام دولة فلسطينية الآن، فإنه اعتبر أن “الاعتراف، وإن لم يحدث فرقاً في حياة الفلسطينيين اليومية، لكنه سيترك أثراً كبيراً على علاقات إسرائيل الخارجية، وربما يصل إلى حد فرض عقوبات ملموسة عليها”. وأشار إلى أن دولاً مثل فرنسا وهولندا وبريطانيا “لا تتحرك فحسب تحت ضغط ناخبيها المسلمين، بل تسعى أيضاً – على نحو ساخر – لإنقاذ إسرائيل من نفسها”. ويرى الكاتب أن هذا التوجه الأوروبي نابع من عدة دوافع متشابكة، في مقدمتها: تنامي ضغط الرأي العام المحلي الغاضب من صور التجويع والدمار في غزة.

اضافة إلى ازدياد الشعور بالعجز السياسي تجاه الحرب، وفشل المجتمع الدولي في فرض وقف لإطلاق النار أو الدفع بمسار سياسي حقيقي. مضافاً إلى ذلك “القلق الأوروبي من احتمال إقدام حكومة نتنياهو على تنفيذ خطط ضم كامل للضفة الغربية وقطاع غزة، وهو ما يعتبر تهديداً نهائياً لأي أفق لحل الدولتين”. وانطلاقاً مما تقدم، يقول محرر الشؤون الدولية في القناة 12 الاسرائيلية، إن “الاعتراف بدولة فلسطين لا يقرأ فحسب كخطوة تضامنية رمزية مع الشعب الفلسطيني، بل ينظر إليه كأداة ضغط سياسي على إسرائيل لإجبارها على الانخراط في مسار تسوية ووقف الحرب المستمرة”، خصوصاً في ظل انسداد الأفق السياسي وفشل الخيارات الدبلوماسية التقليدية.

بدورها اعتبرت مراسلة الموقع الإلكتروني “زمان يسرائيل” بيرنيت غورين، أن الاعتراف الذي تسعى له الدول الأوروبية يعد “رمزياً ولا يغيّر شيئاً على الأرض، إذ سبق أن اعترفت 150 دولة بفلسطين منذ 2012. لكن الكاتبة ترى، أن هذه الخطوة تعكس إحباطاً دولياً من سياسات “إسرائيل” في غزة، وإذلالا سياسيا لها – لدولة الاحتلال – أكثر من كونها انتصاراً للفلسطينيين.

وأوضحت الكاتبة أن التحرك الأوروبي باتجاه الاعتراف بدولة فلسطين، يشكل تطوراً دبلوماسياً بارزاً، يضع حكومة نتنياهو أمام تحديات متزايدة على الساحة الدولية، وقد يدفع تدريجياً نحو تغييرات ملموسة في خريطة المواقف العالمية إزاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

خاتمة

على الرغم من الطابع الرمزي للخطوة الغربية الاعتراف بدولة فلسطين، إلا أن المهم فيها أنها تعكس تغيّر المزاج الغربي الشعبي اتجاه العدو وسقوط سرديته لديها، وهو تحوّل خطير بالنسبة العدو، الذي اعتاش عليها عقوداً من الزمن وأمّن من خلالها الحماية السياسية والدعم المتواصل لتأبيد احتلاله أرض فلسطين والتوسع في جغرافيا المنطقة وصولاً لتحقيق هدف إقامة “اسرائيل الكبرى”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *