فضاءات فكرية

حولَ مفهومِ المُواطنة دلالاتٌ وإشاراتٌ في دَولةِ المُواطنة والحُكم الصّالح

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

لم يستطع الإنسانُ السير على طريق السّلامة المُجتمعية والتّطور والازدهار الاقتصادي والعيش بأمان واستقرار إلا عندما أوجد معالجة جذرية لمشكلة السلطة بعد صراعات طويلة مكلفة، حيث تمكّنَ – من خلال عقله وتطور فكره السياسي – من الوصول إلى تركيز مفاهيم الحكم وإدارة الشأن العام بالاستناد على مفهوم المواطنة كمعيار أساسي ومركزي في حياة مجتمعاته السياسية والعملية..

جرى هذا في دول الغرب حيث اكتشفوا مفهوم العقد الاجتماعي، وابتدعوا آليات سياسية فعّالة وغير مكلفة تسمح للمجموع الاجتماعي العام بالمشاركة في الحكم عبر ممثلين له في إدارة شؤونهم وتفعيل وجودهم في صنع مستقبلهم والإشراف المباشر على مواقع تطورهم واستثمار مواردهم وثرواتهم على نحو فاعل ومنتج وعادل ومنصف، بما يمكّنهم من العيش الآمن المستقر والرغيد.

وعبر مسيرة الإنسان التطورية السياسية وغير السياسية، وبروز مجموعة ظواهر وتحولات سياسية واقتصادية وعلمية عديدة كالعولمة والإنترنت وتقنيات التواصل السريعة، تشعّب مفهوم المواطنة ليشتمل على معالم وأبعاد جديدة ثقافية وسياسية واجتماعية، ما زالت لها الدور المهم والحيوي في بناء المجتمعات الديمقراطية في عالم الغرب وغيره..

المواطنةُ في اللغة والاصطلاح

تُشتقُ كلمة “مواطنة” من جذرها اللغوي “وطن”، وهو كيان جغرافي أو أرض ينتمي إليها الفرد البشري، سواء ولد أو عاش فيها أو لاحقاً تطلع للعيش عليها بغاية الرزق وبناء حياة سعيدة.. أما في الاصطلاح الفكري فيمكن تعريف “المواطنة” من حيث أنها “صفة يتمتع بها الفرد داخل دولة معينة، تمنحه حقوقه السياسية والمدنية والاجتماعية، وتفرض عليه بالمقابل جملة واجبات تجاه المجتمع الذي يعيش فيه، ويمارس نشاطاته وفعاليته العملية من خلال مؤسساته، وتجاه الدولة التي تفرض سلطتها القانونية عليه”. وهذا التعريف هو تعريف حديث، وهو يشمل كل الناس المواطنين الأحرار بصرف النظر عن جنسهم ونوعهم ولونهم وانتمائهم وقوميتهم وووإلخ.. وهذا ما أكدت عليه كل المواثيق الدولية والمبادئ الحقوقية العالمية مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. أما قديماً فهذا المفهومُ كانَ موجوداً وقائماُ في العصور الغابرة، كما في حالة مجتمع اليونان، ولكنه ارتبط بالذكور الأحرار، وتم استثناء النساء والعبيد منه.

مبادئ المواطنة في السياسة والاجتماع المعاصر

ومع التطور السياسي تحوّلت البلدان من الملكية إلى الجمهوريات، وأصبح الشعب مصدر السلطات. وبذلك نقلت دائرة الحضارة الأوروبية المفهوم التقليدي للمواطنة من الفكر السياسي الإغريقي والروماني إلى المفهوم المعاصر للمواطنة، حيث باتت هناك اليوم شروط واجبة التّحقق في معنى المواطنة بالمفهوم الثقافي والسياسي الغربي، وهي:

1-  لا سيادة لفرد ولا لفئة على أخرى.

2-  الشعبُ مصدر السلطات.

3-  سيطرةُ أحكام القانون والمساواة.

4-  عدمُ الجمع بين أيّ سلطة تشريعية وتنفيذية وقضائية في يد شخص واحد أو قومية واحدة.

5-  ضمانُ الحقوق والحريات العامّة دستورياً وقانونياً وقضائياً ومجتمعياً من خلال تنمية قدرة الرأي العام ومنظّمات المجتمع المدني على الدفاع عن الحريات العامّة وحقوق الإنسان.

6-  تداولُ السّلطة سلمياً دورياً وفق انتخابات عامّة حرّة ونزيهة، وتحت إشراف قضائي مستقلّ، وشفافية عالية تحدّ من الفساد والإفساد والتضليل في العملية الانتخابية.

وهذه المبادئ الستة تختزنُ في داخلها عدة أبعاد للمواطنة، هي:

البعدُ القانوني -السياسي: توفر الحقوق الفردية المدنية والسياسية كالحق في الحياة، الحق بالحرية، الحق بالمساواة أمام القانون، وحق الانتخاب والترشح والمشاركة في الحكم وصنع القرار وتحديد المصير.

البعدُ الاجتماعي: الحق في الملكية، والسكن، والمأكل، والمشرب، والتعليم، والصحة، والضمان الاجتماعي.

البعدُ الثقافي: وهو يرتبط بوجود هويات ثقافية وقيم مجتمعية تتأسس على التنوع والتعدد والاحترام المتبادل بين الثقافات وتقديرها وعدم المساس بالأعراق والانتماءات المتعددة، مع ضرورة الحفاظ على التراث الوطني والانفتاح على الثقافات الأخرى.

البعدُ الاقتصادي: ويعني حق الفرد المواطن في العمل والتملك، والمساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين..

إذاً، المواطنة ليست مجرد أن ينتمي الإنسان إلى أرض تعد وطناً له، بل هي علاقة حقوقية قانونية متبادلة بين الفرد والدولة التي يعيش في كنفها، وتقوم على الحقوق والواجبات. وهي أحد الأسس التي تُبنى عليها المجتمعات المتحضّرة، حيثُ تتعزّزُ من خلالها القيم الوطنية، والمسؤولية الاجتماعية، والالتزام بالقوانين السائدة المتوافق عليها اجتماعياً وسياسياً، والتي تدفع “الفرد-المواطن” للمشاركة الفاعلة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية لبلده، والإحساس بالمسؤولية تجاه الوطن، والدفاع عنه، والمساهمة في تطوره وازدهاره.

نعم، الوطنيةُ حقوقٌ وأمان وصحة وعافية وسلامة مجتمعية.. والوطنية لا تقاس بكمّ الشعارات.. تقاس بالعمل الصامت النوعي الهادئ.. تُقاس بمدى تحقق مواطنية الفرد في تمكنه من حقوقه وتأمين حاجاته بسلاسة، وقدرته على المشاركة الفعالة والحضور المنتج في بلده بلا ضغوط ولا معاناة ولا قهر.. الوطنية خيرات بلد تعم على الجميع، وموارد مجتمع تستثمر للصالح العام انطلاقاً من مبدأ العدل والمساواة في مواجهة الإقصاء والتهميش والظلم والاستبداد السياسي وغير السياسي..

المُواطنة في الفضاء الثقافي والسّياسي العربي

طبعاً يجب أن نعترف أن تحليلنا لمفهوم المُواطنة ما زال مجرّد كلام في الهواء، خاصة عندما نتحدثُ عنه نظرياً في عالمٍ عربي يضجُّ بالصّراعات والانقسامات، وما زالتْ تهيمنُ عليه روح القبلية والعشائرية والانتماءات ما دون وطنية..

وللأسف مَا زالَ هذا المفهومُ غريباً عن واقعنا وبيئتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية، وما زال مفهوم الراعي والرعية هو السائد حتى في العلاقة بين الحاكم والمحكومين.. أي أنّه لم يتم تقعيد وإرساء معنى هذا المفهوم بشكلٍ عملي مؤسّساتي خلال عُمر الدولة العربية كلها.. ولم يُسمح حتى اليوم لكثيرٍ من العرب بنيلِ حقوقٍ مُشتركة متساوية.

من هنا يجب أن نعمل على إيجاد بيئة حقيقية لهذا المفهوم الفاعل والناجح والمثمر، في بلداننا ومجتمعاتنا، بما يعزّز حضوره في واقعنا العملي على صعيد التثقيف والتوعية، وإدراج مناهج تعليمية تربي الأجيال على قيم المواطنة والتوعية بحقوقها وواجباتها.. وضورة إصدار التشريعات الداعمة لتلك الحقوق خاصة منها حقوق الأقليات المجتمعية التاريخية، القومية منها والدينية وغيرها.

إن بناء وتأسيس الدول على فكرة وقيمة المواطنة بالمعني السياسي والقانوني، هو الذي يرسّخ الانتماء الوطني والهوية الثقافية، ويسهم بقوة في دفع المواطنين الأحرار ليكونوا فاعلين في استقرار بلدانهم، والدفاع عنها، خاصة عندما يكونون حاصلين على حقوقهم ولديهم الإمكانية للمشاركة في الشأن العام، مما يخلق مجتمعات متعاونة متضامنة منتجة، قوية وقادرة على مواجهة كل الصعاب والتحديات.. وهذا يتحققُ فعلياً من خلال استقرار الدولة وترسيخ مبدأ الديمقراطية فيها قبل أي شيء آخر..

إنَّ المواطنة هي القاعدة لتحقيق الاندماج الوطني الاجتماعي والسياسي الحقيقي بين مكونات المجتمع، بل هي حجرُ الزاوية في بناء الدولة الوطنية الحديثة القائمة على الحقوق والقانون.. وهذه الحقوقُ كلها لا تتفعل من دون ضمانات دستورية عملية مؤسسية، تحقّق التقارب النسبي في الدخل والثروة والمكانة الاجتماعية والمستوى التعليمي، مع توفير فرص العمل والتعليم والرعاية الاجتماعية، ما يجعل من المواطنة عمليةَ مشاركةٍ ممكنة وفعّالة.. وفشل أية دولة في علاقاتها مع أفرادها يأتي من باب الفشل في إرساء مبدأ المواطنة، حيث تقوم نخبتها بتهميش مجتمعها وتقصيه عن المشاركة تحت ذرائع شتى دينية وغير دينية، معتمدةً على مبدأ الشوكة والغلبة والعنف في إخضاع من لا يوافقون عليها، ويمضون على سياساتها ولو كانت خاطئة.. نعم، تفشل الدولة عندما لا تعتمد مبدأ الإقناع والتوافقات والحلول الوسط التي هي أس السياسة ومن أهم بنود المواطنة السياسية كحق للفرد المحكوم، وواجب على الحاكم.

ويجبُ أنْ نعلمَ ونعي أنّ التحقّق الموضوعي لمبادئ المُواطنة، هو ما يقود بالضّرورة إلى بناء مجتمعات الفضيلة والأخلاق، التي كثيراً ما يتم التركيز عليه نظرياً (عبر الخطاب والإرشاد والوعظ والكلمات) في بلداننا مع تناسٍ وتغييبٍ لحقوق الناس.. ولهذا مهما حاولنا البحث عن أسباب فشل بلداننا ومجتمعاتنا في وصولها للتقدم والازدهار، ومهما حاولنا تبيان الأسباب والدوافع الخارجية المانعة والعائقة، ومهما أكدنا على تطبيق القانون في داخل البلدان، وووإلخ، في سبيل معالجة الفشل المجتمعي والبدء بالإصلاح والسير على طريق التنمية والنهضة، فإنه ينبغي أن نعلم قبل كل ما تقدم أن إصلاح الأخلاق وتقويم السلوكيات والممارسات العملية للناس – على صعيد نظم أمورها وعلاقاتها في محيطها الخاص والعام – أمر إشكالي وصعب جداً، وليس من الوارد أن يتحقق عبر تبنّي سياسة بث الدعوات والمواعظ والنصائح والخطابات القيمية وغيرها.. لأنها (أي الأخلاق والسلوكيات الأخلاقية العملية للناس) تعكسُ طبيعة الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تحيط بهم، ويعيشونها في معاملاتهم وعلاقاتهم بكل مفرداتها الخاصة والعامة.. وهي ليست حالة مثالية مفارقة طوطمية مطلوب تمثلها بشرياً مع عدم الإمكانية على ذلك.. ولهذا نقول – وهذه هي تجارب البلدان شاهد على ذلك – بأنّ تكريس مبدأ المواطنة القانونية والسياسية (أي إعطاء الحقوق وتلبية الحاجات، وبالتالي تحقّق العدل والمساواة)، هو أساس التطور والازدهار المجتمعي، وهو ما يؤثر إيجاباً في وعي الناس، ويغير أكثر في أخلاقياتهم وقيمهم، ويبني علاقاتهم على قيم الحوار والتفاعل الإيجابي والانفتاح الاجتماعي والتعايش السلمي المثمر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *