في الأرضِ الطّيّبة ووجدانيّات التَّعلُّق بالعِرضِ الوجودي مقاربةٌ في معاني الانتماء للأرضِ ووجوبِ حمايتها والذّودِ عنها
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
سنواتُ المِحن التي مرّتْ علينا في هذه المنطقة من عالمنا العربي، حفرت كثيراً في نفوسنا ووجدانياتنا.. بات تعامل الناس مع بعضهم تشوبه الكثير من الشوائب والتعقيدات.. حتى علاقة الناس مع الأرض تغيرت.. مع أن الأرض هي قدس الأقداس، ولها معاني عميقة، فهي مسقط الرأس، ونبع الخير والعطاء، ورحم الإنسان التي تحتوي الأجساد على ما فيها وعليها من خطايا وموبقات وغيرها..
نعم، الأرض أصلُ الخير، والزاد، والمدد البشري، وهي ليست مجرد مكان نجلس بين أحضانها أو نقيم فيها، ولا مجرد قطعة نمتلكها، أو طريق نسير عليها، أو صخرة عالية نطل من خلالها على أفق طبيعي جميل… إنها كائن حي ينبض بالعطاء، بل هي الأم الحنون الأولى للإنسانية احتضنت وما زالت تحتضن بذور الحياة فتنمّيها وتعطيها لنا لاحقاً خيرات لا تقدر بثمن.. هي “الطين” الذي خلقنا تعالى منه، يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا ۖ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ۖ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ﴾]الأنعام: 2[.. وإليه سيعود كل واحد فيها ولو ذراتِ رماد، فيما تمثله هذه السيرورة والدورة الأبدية، من أهم وأعمق أسرار ارتباطنا بالأرض ومعنى الحياة عليها، وباقية ومستمر حتى يرثَ اللهُ تعالى الأرض ومن عليها وما فيها وعليها.
إنَّ الأرضَ إذاً هي أكثر من حالة مادية نتعايش معها وعليها، بل هي تعيش فينا، ونعيش فيها.. وتعلقنا فيها هو في الأصل تعلق قديم موغل في التاريخ، وهو ارتباط روحي ووجداني وحضاري عميق ومتجذر لا حدود له.. وهذا ما يتجلى من خلال ما يلي:
- الأرضُ هوية ثابتة وذاكرة تاريخية:
فالإنسان ومنذ أن تفجّر وعيه، لما يبدأ دورته الحضارية على نحو فاعل ومنتج إلا عندما استقر في مكان أي في أرض، فبنى المساكن والقرى عليها، وبدأت تترسخ علاقته معها، واكتشف أنها تعطيه ثماراً وأكلاً وماءً.. يزرعها لينتج، ويحفر فيها ليستخرج الماء والمعادن وبقية الثروات، وبهذا المعنى أضحت الأرض هوية وانتماءً مقدساً، تستحق أن يدافع عنها، ويضحي بنفسه من أجلها، خاصة وأنها موطن الذكريات والوجدانيات، بل هي التاريخ والتقاليد والعادات التي يتم توريثها من جيل إلى آخر.. وهي مصدر الفخر والاعتزاز، خاصة في شعورنا بأننا جزء منها، من مكان ما عليها، يشكل قيمة فريدة مميزة لنا، تاريخاً وهويةً وطبيعةً خاصة.
- منبعُ الحياة والعطاء والرزق:
كانت الأرض وما زالت على مر الأيام والقرون والأزمان مصدر العيش البشري، ولولا ما فيها من منابع خير وعطاء وثروات لما استطاع الإنسان أن يقيم حتى مجرد قرية صغيرة.. حتى أنها أثرت في شخصيته، فعلّمته معنى الصبر الإيجابي في انتظاره لنمو الزرع والمحاصيل، كما جعلته يفجر طاقته في عمله الجاد والدؤوب لحرث الأرض وسقايتها واستصلاحها واستثمار طاقاتها.. وبهذا المعنى باتت الأرض ليس فقط مصدر الحياة والعطاء للإنسان بل الأساس الراسخ للبقاء والاستقرار النفسي والروحي له بعدما كان يتنقل من كهف إلى آخر، ومن مغارة إلى أخرى، حتى عرف أن الأرض قيمة كبيرة في زراعتها وعطائها واقتصادها.
- تركيزُ السكينة والهدوء النفسي وقيم السلام الداخلي بين الإنسان وذاته ومحيطه:
ولنا أن نتخيل هنا، أن الإنسان ولد من الأرض، ومشى عليها طويلاً حافي القدمين، دونما أن يتركها ولو لثانية واحدة، تلامس معها في جسده ورجليه ويديه، أخذ من طينها وأعشابها ليبني بيوتاً زراعية بسيطة في بدايات خروجه من الكهف وسكنه عليها في بدايات الثورة الزراعية.. وهذا كان له أشد الآثار النفسية والروحية عليه.. واليوم نجد أن إنسان هذا العصر الذي يريد أن يعيش شيئاً من الهدوء والتركيز النفسي، يترك المدينة في صخبها وضجيجها وهيمنة العلاقات النفعية بين سكانها، ليفر هارباً نحو الريف والأرض، محاولاً استعادة بعض السكينة والسلام الداخلي لروحة ونفسه ووجدانه، وإعادة التواصل الطبيعي القديم والأزلي مع قوة الطبيعة والأرض (في السحر الطبيعي للجبال والسهول والبحار والوديان وغيرها) بعيداً عن الحياة الصناعية المكلفة له روحاً ومادة.. وهذا هو الجمال والروحانية والارتباط الوجداني القوي بجماليات الأرض وما فيها من سحر طبيعي خلاب هو جزء من بناء الإنسان الروحي، ومصدر للإلهام والسلام الداخلي له.
- التّعلقُ القيمي الروحي الثقافي والديني:
وهذا ما نجده في كل ثقافات الحضارات وأديانها وعادات الناس وتقاليد المجتمعات.. إذ لا توجد ثقافة واحدة أو حضارة واحدة أو مجرد جماعة بشرية صغيرة واحدة إلا ولديها علاقة انتماء ثقافي غني، وقيمة عليا ومكانة رفيعة عالية ومقدسة للأرض، باعتبارها وعاء التراث والعادات والتقاليد والحكايات والأساطير التي تتناقل عبر الأجيال، وأيضاً باعتبارها رمزاً للخصب والخير والعطاء، يقيمون من أجلها الكثير من الاحتفالات الموسمية الزراعية التي نجدها في مواسم الحصاد وجني الثمار المختلفة والمتنوعة. وحتى في الأديان، نجد أن كل الكتب السماوية قد عظّمت من قيمة الأرض، وأوجبت إعمارها وعدم الإضرار بها والإفساد فيها، ودعت إلى المحافظة عليها، وصونها وحمايتها والتضحية بالغالي والنفيس في سبيلها كأعظم نعمة حباها الله تعالى للإنسانية جمعاء.
- التاريخُ المشترك والآمال الواحدة:
عندما يعيش الناس (سواء كقبيلة صغيرة أو كمجتمع صغير) على أرض واحدة، تمثل بالنسبة لهم إطاراً تبنى فيها وعليها العلاقات وتنسج وشائج التفاعل والتكامل الروحي والمادي، وتتشكل فيها أيضاً العلاقات الاجتماعية وتتقوى الروابط التي تجمع بينهم، فتنشأ العادات الواحدة، وينمو ويخلق التاريخ المشترك وبالتالي المصير الواحد.. خاصة وأن الأرض ذاتها كانت صلة الوصل الوحيدة بين الأجيال، حملت لهم ومعهم التراث والعادات والتقاليد.. وهذا بحد ذاته استمرارية وعطاء مستمر يوحي للإنسان بشيء من قيمة الخلود بما يدفعه للبذل والعطاء والتضحية..
- الأرضُ قوةٌ وطنية ودافعٌ للتحرر:
وللأرض أيضاً معاني رمزية وطنية، تعطينا إياها على صعيد الوطنية والتضحية، والتحرر والمقاومة، والوحدة الوطنية، وهي معاني وقيم عظيمة، تدفعنا للتمسك بها باعتبارها هوية ووجوداً مقدساً نرفض من خلاله التهجير والذوبان والتسليم للاحتلالات.. والدفاع عن الأرض والتضحية في سبيلها هو أعلى درجات اكتساب الوطنية والفداء الوطني، وليس التغني بها وراء الميكروفونات وحفلات الصراخ في الندوات والمؤتمرات وطاولات الاستسلام..!!.
- الأرضُ كمعنى وجودي مصائري:
كما وتعطينا الأرض، معاني وجودية وفلسفية عميقة، فهي مبتدئ ومنتهى، أصلٌ ومصير، يقولُ تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ﴾]طه: 55[. وهذا ما يولد فينا انتماءاً وجودياً لهذا الوجود الأرض والكوني.. ويدفعنا للحضور المسؤول والواعي تجاه الأرض وما تمثله من قيمة مكانية وزمانية، عمرانية وروحية ثقافية، لا على مستوى الاستغلال الجائر، بل على مستوى المحافظة على ما فيها من خيرات وموارد وقدرات في استمرارية العطاء..
ولكن على الرغم من كل تلك المعاني الوافرة التي تعطينا إياها الأرض، وتقدمها لنا روحاً وثقافة ومادة، فقد حدث ويحدث الكثير من الشروخات في علاقة الإنسان بالأرض، معنى ومادة.. بل يمكن القول بأنه حدث انفصال لدى الكثير من المجتمعات في علاقتهم بالأرض.. حيث طغت وهيمنت العلاقات المادية في معنى التمدن الحضري، بعدما اجتذبت المدن الكبيرة الكثير من الناس إليها بحثاً عن الدعة والراحة والطمأنينة، وكثير من إغراءات الاستقرار المادي وأوهام وعود البقاء المضمون.. فرأينا كيف هاجر كثير من الناس قراهم ومزارعهم وأراضيهم المنتجة، وارتموا في أحضان المدن والوظائف والمصانع والمكاتب.. وهذا ما أفقدهم الصلة مع الأرض وقيمها.. خاصة مع تحولها عند كثيرين منهم (كي لا نعمم)، إلى مجرد سلعة وموقع للاستغلال الاستثماري ليس إلا، بعدما كانت مصدراً ونبعاً للحياة والعطاء.. وليس من دليل على هذا من هيمنة علاقات الاستنزاف الجائر للأرض والطبيعة على عقول التجار والمتنفذين والمستثمرين،، الذين يقيمون مشاريعهم عليها، دونما أي تقدير واهتمام وحماية للأراضي الخصبة خصوصاً تلك التي تمتلك جودة عالية في تربتها وخصبها وعطائها.. وهذا أعلى درجات التسليع والاستنزاف الجائر للموارد والثروات..
لقد أثرت الحياة المادية للإنسان وميله للدعة والراحة (وما يعتبره سهولة الحياة الجاهزة والمصنّعة سكناً وأكلاً وشرباً)، عاملاً مهماً للقضاء على مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية الخصبة.. كما سحق هذه الإحساس الداخلي السطحي للإنسان الحافزَ والدافع الضمني لدى الكثيرين لإعادة التواصل مع أرضهم وإعادة زراعتها أو حتى مجرد الاهتمام بها كمصدر غذائهم الصحي الصحيح السليم والمعافى لهم ولعائلاتهم وأجيالهم.. وعلى ما يبدو أن هذا الإنسان الذي يأكل أكلاً جاهزاً افتقد لمعنى الأرض، عندما افتقد للتعب الذي يجب يُبذل لإنبات حبة قمح، ففقد تقديره للقيمة الحقيقية للطعام والأرض التي أنتجته وأعطته..!!.
والأمر الأكثر أسفاً وخطورةً أنه قد ولدت لدينا –وفي كثير من بقاع هذا العالم- أجيال مدينية بأكملها افتقرت وتفتقر للحد الأدنى من معاني الأرض في معناها وقيمتها وضرورات الارتباط بها.. حيث لم يعد لديهم ذاكرة حقيقة نفسية وروحية حولها، ولا أقل معرفة علمية بمفردات الزراعة وواجبات العمل فيها وآليات استثمارها والتواصل معها. حتى أن كثيراً من تلك الأجيال باتت تنظر للأرض كمجرد تراب ووحل وطين وربما قذارة، وليس كمعنى للخصب والخير والنمو والعطاء.. وهذه نظرة مختلّة كرّستها ظروف العيش المادي في المدن وثقافة العمل الجاهزة.
نعم، إن الإحساس الرمزي لكثير من الناس بالوجود الأرضي المحيط بهم اضمحل كثيراً، ومنه مسألة أو موضوع الانتماء إلى الأرض، كمظهر من مظاهر هذا الإحساس العضوي والمادي، وهو بات عملة نادرة.. وربما يعود سبب هذا الاضمحلال –من جملة أسباب قائمة ومؤثرة- إلى ما انطبعنا به أو تطبّعنا عليه من ثقافة الاستهلاك الزائف والباهظ الثمن والمريح للعقل والسلوك.. ربح وفير بفترة قصير..
وربما هذا ما دفع الناس كما قلنا إلى هجر الأرض، والتراخي في علاقتهم معها، وفك ارتباطاتهم ونبذ انتماءاتهم إليها، ليستغرقوا في انتماءات (مدينية) فرعية جانبية افتراضية أيديولوجية غير حقيقية متنوعة المشارب والقناعات والامتدادات، وهي عملياً انتماءات انعكست مظاهر انفكاكية تذررية، لا تقدم ولا تؤخر في عوالم الإحساس والارتباط الواقعي القائم على التمكين والاستقرار الحقيقي، وامتلاك مواقع القوة على مهد السيادة وهي الأرض..!!..
ففي السابق، كانَ الانتماءُ والتعلق مختلفاً، حيث كنا نرى النّاس (ونسمع ونقرأ) عن كيفية وماهية انتمائهم للأرض بطقوسها وفصولها وتقلبات مناخها، انتماءاً صلباً رصيناً ومعيارياً فيه حالة من الطُهر، ويعكس قدسية ما في نوعية التعلق مع الأمّ الأولى، الأرض التي هي منبع الثروة والطاقة والقوة.. نعم كان الانتماءُ ذا طابع وجودي متأصل وعميق ومعياري نوعي شبه عضوي.. لكنه بات اليوم ذا طابع نفعي مصلحي آني مؤقت انفكاكي، ضيق الأفق ومرتبط بالأهواء النفسية والأمراض البشرية وتقلبات الشخصية والاستسلام لها، بمعنى أنه منحصر في بعد مادي زائل بزوال لحظة الشهوة والغريزة.. فقد هجر الإنسانُ الأرضَ، لأنها بخلت عليه موسماً أو موسمين أو ثلاثة، وليست هي السبب، بل هو، لأنه استغلها واستنزفها استنزافاً جائراً بلا رحمة ولا تفكير ولا مسؤولية ولا أدنى وعي علمي.. باتت العمائر العشوائية والاستثمارات العقارية سريعة الربح مع فوائض ثروة مهلكة ومستنزفة للقدرات ومريحة للعقول المستنفرة جشعاً وطمعاً..!!.
وأيضاً اليوم، انظروا إلى ما حلّ ويحلّ بأراضي وعقارات الناس، يبيعونها فقط ليعيشوا ويأكلوا ويشربوا.. هذه هي الكارثة..!!.. أنتَ تبيع أرضاً كانت تنتج لك الخيرات وتعطيك القوة والمدد والفاعلية الوجودية إذا صح التعبير..!!. وأنت اليوم تبيعها بأبخس الأثمان، فقط لتعيش أو لتهاجر (أو تهجِّر أولادك مضطراً) بحثاً عن مصدر علم أو رزق آخر في بلد لم يلدك، وربما قد يرفض احتواء جسدك بعد فناء مادته…!!.
إنها الأرض الطيبة أيها السادة، أمّ الخيرات، ونبع الإحساس بالوجود والعطاء الدائم الذي لا ينضب أبداً..!!.. فأين نحن من مسؤولياتنا تجاهها رعاية وحماية ودفاعاً مقدساً عن المس بها من أرجاس الأرض؟!.. فمن يتخلى عن أرضه، أو حتى يهملها ولو قليلاً، يتخلى عن جزء من مهم وحيوي من ذاكرته ووجدانه وإنسانيته وجذوره وأصله وفصله..
وبطبيعة الحال، نحن لسنا ضد التقدم الحضري الذي وصل حدوداً لا قبل للبشرية بها، من حيث التطور التقني والعلمي، ولكن هذا التّقدم لا يجب أن يعني إهمال الأرض، ولا حتى استنزافها بوسائل ذلك التقدم، بل يعني توفير أفضل السبل وأنجعها وأفضلها وأقلها ضرراً بالأرض التي يجب العودة إليها بوعي ومسؤولية حتى مع استخدامنا لأرقى التكنولوجيات في زراعتها بشكل مستدامٍ، وحمايتها من الاستنزاف الجائر..
إن الأرض الطيبة أمانة يجب أن نورثها لأبنائنا خصبة خيرة ومعطاءة.. وهي أساس استقرار المجتمعات وسلامها وازدهارها الحقيقي..
ومن الضروري التأكيد أخيراً أن تطور المجتمعات لا يتحقق من دون علاقة عميقة مع الأرض.. ولا يقدر الأرض إلا من وعى معنى المواطنة، في أصل معنى الحقوق الذي يجب أن تتبناه المجتمعات وتقوم به دول مؤسسية عادلة..
