الحفاظ على الوحدة الداخلية أهم واجبات الحكومة التي لا يجوز التفريط بها
بقلم سماحة الشيخ علي الخطيب – نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى
نحن الآن بصدد الاحتفاء بذكرى أسبوع على ارتحال عالم ربّاني إلى جوار الله سبحانه وتعالى إثر مرض عضال كان خاتمة رحلة من العمر قضاها في الجهاد، طالباً لتحصيل العلوم الدينية في حوزة النجف الأشرف.
وقد كانت وسط ظروف من المعاناة التي فرضتها طبيعة الحياة التي كانت تحكم، من الإهمال المتعمّد والضغط الاقتصادي والسياسي على مدى العهود المتوارثة التي واكبت قيام هذه الحوزة بل سبقتها، وكانت سبباً من أسباب انتقالها من بغداد بعد الفتنة التي وقعت فيها واضطر معها الشيخ الطوسي (رض) إلى الخروج منها ليعاود ممارسة مهامه التي بدأها ببغداد في النجف الاشرف عند مرقد أمير المؤمنين (ع)، حيث لم يتحمّل أهل الاهواء والتعصّب أن يشغل كرسي الكلام في بغداد شيخ الاسلام من قبل هذا العالم الجليل، وأن يجلس بين يديه طلاب العلم من مختلف المذاهب، فأجَّج أهل الاغراض الدنيوية الفتنة في المدينة بين المسلمين، وأحرقوا كرسيه ومكتبته فخرج منها تاركاً منصبه تطويقاً للفتنة، هارباً بدينه وعلمه إلى حيث مقام باب مدينة العلم أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب (ع)، مما أسهم في عملية الفصل المذهبي التاريخي بين طلاب العلوم الاسلامية ومنع التلاقح العلمي والمعرفي بين علماء الأمة من سائر المذاهب، وهذه مرحلة من المراحل التاريخية لبروز عوامل التعصّب في الأمة وانقسامها على أساس مذهبي وبداية لمرحلة جديدة من مراحل الانقسام، وأسسّت لمرحلة خطيرة ما زالت تتوالد حتى اليوم فتناً طائفيةً تشغل الأمة وتتسبّب في تخلّفها الحضاري وإعاقتها عن أداء رسالتها الإلهية للعالم.
لقد أتاح انتقال الشيخ الطوسي (رض) إلى النجف الأشرف ومعه الحوزة الدينية فترة من الهدوء استدعت مع الشهرة العلمية لهذا العالم الربّاني أن يقصدها العلماء وطلاب العلوم من كل مكان طمعاً في الاستفادة وتحصيل العلوم الإسلامية مع الظروف الصعبة التي مرت بها، ولكن حبّ تحصيل العلم والمعرفة سهل على طالبها تجاوز هذه العقبات، على أن الاستقرار لم يدم لها لفترات طويلة مما أدى بها إلى الانتقال إلى أماكن مختلفة من العراق، وقد تعرّضت في التاريخ المعاصر إلى نكبات كبرى حيث عُمِلَ على إنهائها والتخلص منها لأنها كانت دائماً تُشكّل مصدر قلق وخصوصاً بعد أن تعرّض العراق إلى الاستعمار المباشر من بريطانيا بعد سقوط الدولة العثمانية، وتصدّر مراجع الحوزة وعلماؤها المواجهة لها سواءً على المستوى الفكري والثقافي والسياسي، أو على مستوى الانتشار للدولة العثمانية حين تعرّضت للعدوان فأفتى المراجع بوجوب مساندتها وبعد سقوطها أمام الهجمة الاستعمارية، بقيادة حركة التحرّر فيما عُرِفَ بثورة العشرين، على ان هذا النشاط الذي قاده العلماء والمراجع في العراق لم يقتصر على العراق فحسب وإنما انضم اليه علماء الأمصار الإسلامية بحكم الارتباط الديني والفكري والتبادل العلمي، إذ كانت النجف الأشرف هي المكان الذي تخرَّج منه الكثير من هؤلاء العلماء والمكان الذي يقصده علماء البلدان الإسلامية الأخرى للحوار العلمي والفكري والمعرفي، كما هو الحال مع سائر المراكز والحوزات العلمية الأخرى في العالم الإسلامي كجامعة الأزهر الشريف.
ولذلك فلم تكن الفترة التي رافقت وجود طلاب العلوم الدينية في النجف الأشرف ومنهم الطلاب اللبنانيون ومنهم سماحة العلامة الراحل السيد عباس الموسوي (رض) استثناء من هذا الواقع المزري، وعلى الرغم من هذا الواقع السيء والظروف الصعبة التي كانت تعيشها حوزة النجف الأشرف إلا استثناء ولفترات وجيزة، فإن هذا الواقع وهذه الظروف لم تكن لتمنعه كما الكثيرين من إخوانه من تجشّم الصعاب والانتقال اليها بحكم الشعور بالمسؤولية الدينية والوعي للظروف القائمة والتحديات الفكرية والثقافية التي يفرضها الواقع الذي تعيشه الأجيال من حروب ثقافية كالإلحاد ومحاولات التطبيع مع الاستعمار وتشويه للدين وثقافة الأمة الاصيلة، دفعه وأمثاله لتحمّل مخاطر الانتقال إلى الحوزة النجفية وتلقّي الدروس على أعلام الحوزة وقادتها الفكرية والسياسية كالإمام الخوئي والإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر وغيرهم من الاعلام، ولكن النظام الصدامي البائد الذي اخذ على عاتقه مهمة ضرب الحوزة والقضاء عليها واعتقال العديد من العلماء والطلاب واخراجهم قسراً من العراق هذه الفترة وبعد انتصار الثورة الاسلامية في إيران وقيام الجمهورية الإسلامية على يدي الإمام الخميني (رض) قام باستكمال ما بدأه، وكان اكبر خسائر الحوزة استشهاد الإمام السيد محمد باقر الصدر (رض) وأخته العلوية إلى جانب العديد من العلماء والطلبة كما زُجَّ بالكثير منهم بما فيهم علماء وطلاب لبنانيون في السجون ومنهم نحن، كما اضطر آخرون إلى الترك والعودة إلى بلدانهم ومنهم علامتنا الجليل (رض) ليكمل مشواره ومسيرته الجهادية التوعوية والتثقيفية والسياسية في المساجد وعلى المنابر عبر خطب الجمعة مؤيداً صلباً للمقاومة في وجه الاحتلال الصهيوني الغاشم ومساهماً في الدفاع عنها في وجه حملات التشكيك، منضماً إلى كوكبة من إخوانه العلماء المجاهدين إلى جانب مساهمته في إبداء الرأي وبلورة المواقف التي كانت تصدر عن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، حيث كان أحد اعضاء الهيئة الشرعية البارزين إلى جانب مساهمته المهمة على مستوى المعرفة والتأليف وخدمة كتاب الله سبحانه وتعالى تأليفاً وتفسيراً جزاه الله خيراً.
لقد كانت خسارة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بوفاته كبيرة، وكذلك العلماء ففقدوا أخاً مخلصاً وسنداً قوياً وثُلِمَ العلم ثلمةً لا يسدها شيء، ولهذا لن نقول عوضك الله علينا فلا شيء يعوّض فقد العالم، ولكن الذي يسلي فقدهم قول أمير المؤمنين (ع): “والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة”.
حيث نستلهم مواقفه الوطنية والاسلامية في جمع الكلمة ولمّ الشمل ومنع الفتنة التي نحرص عليها دائماً وقول كلمة الحق في وجه السلطان الجائر المتمثّل اليوم في الولايات المتحدة الامريكية والغرب في الضغط على لبنان وإثارة الفتن بين العرب والمسلمين واللبنانيين لتنفيذ مخطّطاتها في لبنان والمنطقة، وتدفع إلى نزع أوراق القوة من أيديهم في الدفاع عن سيادة بلدانهم وعن مصالحهم ووجودهم بأيدي عمالها من العدو الصهيوني أو الواقعين تحت تأثير دعايتها أو تأثير عملائها ممن يقدّمون مصالحهم على مصالح بلدانهم.
وفي هذا المجال ننصح الحكومة اللبنانية بعدم الامتثال للضغوط الامريكية والاستجابة لها في الاستمرار على قرارها الخاطئ وإدخال البلاد في فتنة داخلية لتحقيق ما يريده العدو، فالحفاظ على الوحدة الداخلية أهم واجبات الحكومة التي لا يجوز التفريط بها مهما بلغت الضغوط الخارجية، لأن التفريط بالوحدة الداخلية تفريط بالوطن وهي خطيئة لا تُغتفر، وأهم عوامل الحفاظ عليها هو الحوار الداخلي الذي هو من وظيفة رئيس الجمهورية بالدرجة الأولى، فلا يجوز في موضوع خطير كموضوع السلاح أن يؤخذ بخفةٍ، وهل هناك أمر أخطر من هذا يستحق ان يكون موضع توافق بين اللبنانيين كما يفرض الدستور؟؟.
على أننا ما زلنا نحمل الأمر على انه تمرير للوقت تخطيّاً للضغوط، كما أننا نعوّل على حكمة قيادة الجيش في الحرص على إخراجٍ لا يُحقّق اهداف العدو في الايقاع بين الجيش الوطني وبين الطائفة الشيعية التي قدّمت التضحيات الكبيرة من أبنائها وأمنها وأرزاقها وبيوتها التي حرّرت الأرض وردعت العدو عن الاستمرار في ممارسة عدوانه، وهذا يستدعي أن تلقى هذه التضحيات دفاعاً عن لبنان ما تستحقه من الاعتراف بالجميل والإشادة كما يقتضي الانتماء الوطني والخلق الانساني لا التنكّر لها والإساءة لأهلها ولشهدائها ولأبنائها وإظهار الشماتة واستدعاء العدو للتخلّص منها الذي يتنافى مع كل القيم الإنسانية والوطنية، ويدفع إلى التباغض والتنافر والعداء بين أبناء الوطن الواحد ويخلق جواً من الخوف لدى هذا المكوّن على مستقبله وأمنه واستقراره حينما يرى الخطاب الداخلي مهدداً له يدفعه إلى التمسّك بالسلاح لدفع المخاطر الوجودية التي خلقها وجود عدوٍ غاشمٍ على حدوده، ويساعده خطاب داخلي يتنكّر لكل تضحياته ويهدّد وجوده، ولو كان الخطاب الداخلي خطاباً وطنياً وأخلاقياً معبّراً عن وحدة وطنية وتضامن بين جميع المكوّنات وكانت السلطة في تصرفاتها تأخذ بعين الاعتبار المصلحة الوطنية آخذة الظروف التاريخية التي أحاطت بهذا المكوّن وتُشعره بالاهتمام وتأخذ مخاوفه على نحو جدّي، ولا تتصرف وفقاً للضغوط والاملاءات الخارجية على حسابه لما احتاج الامر إلى التمسّك بالسلاح، ولكن ما يحصل هو العمل على إخضاعه وإشعاره بالهزيمة، وأن عليه أن يتصرّف كمهزوم، ويدفع ثمن هزيمته لحسابات سياسية طائفية داخلية في تجاوز فاضح لاتفاق الطائف وضرب للدستور بعرض الحائط، ومع ذلك يراد له التخلّي عن وسيلته الوحيدة التي حرَّر بها أرضه ودافع فيها عن وجوده بعد أن تخلّى الكل عن واجبه الوطني ووجد نفسه يواجه مصيره وحده. أُضيف اليها أن السلطة لم تقدم تبريراً منطقياً واحداً لقرارها المشؤوم، بل كانت الطريقة التي اخذت بها القرار انقلابً على الخطاب الرئاسي وخضوعاً للضغوطات الامريكية ما زاد من المخاوف عند هذا المكوّن، وأن ما أمله من وجود مرحلة جديدة لبناء دولة حقيقة تدافع عن سيادتها ومصالح وكرامة شعبها ذهب أدراج الرياح، فمن يكون المسؤول عن وصول الامور إلى ما وصلت اليه وهو غير المقاومة ولا بيئتها التي تعاطت بكل أريحية وإيجابية ابتداءً من تسهيل انتخاب رئيس للجمهورية وتأليف حكومة وقبول المقاومة بالانسحاب من جنوب الليطاني وترحيب بتسلّم الجيش لهذه المنطقة، بتعاون تام من قبلها باعتراف الجميع حكومةً وجيشاً، وأعطت الحكومة ما طلبته من فرصة للعمل الدبلوماسي لتطبيق القرار الدولي 1701، ولكن الدبلوماسية لم تُحقّق شيئاً مما وعدت به الحكومة بل تحوّلت إلى أداةٍ للإخضاع للضغوط الدولية، وأن الهدف فقط لم يكن تحرير الأرض ولا وقف العدوان ولا تحرير الاسرى واعادة الاعمار وترميم القرى المهدمة وإعادة اهلها اليها، وإنما هو الخداع لتعرية لبنان من أهم أوراق القوة التي يملكها لحرف الأنظار عن الخروق الاسرائيلية وعدم التزام العدو بالقرار الدولي في مخالفة صريحة للقانون الدولي وتحويلها إلى مشكلة داخلية بين اللبنانيين تتحمّل السلطة مسؤولية مباشرة في ذلك.
إنّ المصلحة الوطنية تفرض على السلطة تدارك ما أوقعت نفسها ولبنان فيه، والعودة إلى موقف الإجماع الوطني الذي تمّ التفريط فيه بسبب الضغوط الخارجية، فالتمسّك بالوحدة الوطنية كفيل بإفشال الضغوط الخارجية وتحقيق المصالح الوطنية، أما التفريط بها فلن يؤدي إلى إلزام العدو بتنفيذ الاتفاق وإنما إلى التوسع في احتلال مزيد من الارض وجرّ لبنان إلى التصادم الداخلي، كما يؤكده اليوم البيان الصادر عن مكتب رئيس وزراء العدو الذي أفصح عن نيته وقصده في دفع السلطة اللبنانية إلى التعاون معه لنزع سلاح المقاومة، وهذا ما ينبغي أن تتنبه له السلطة بالتراجع عن قرارها الخاطئ الذي يحقق هدف العدو. كما ندعو السلطة إلى القيام بأدنى مسؤولياتها الوطنية بإشعار مواطنيها ومناطقهم التي تعرّضت للعدوان والدمار بالرعاية والاهتمام برفع الانقاض والبدء بإعادة الترميم على الأقل، وهي لا تحتاج إلى مبالغ طائلة وهي متوفرة كما أُبلغنا، ولا ندري هل ان عدم المبادرة إلى القيام بذلك أيضاً ناتج عن الضغوط الخارجية من أجل الابتزاز والإخضاع؟؟.
أخيراً نسأل الله تعالى أن يتغمّد فقيدنا العلامة السيد عباس الموسوي بواسع رحمته ويلحقه بأجداده الطاهرين وأن يخلف عليه في الغابرين، كما نتقدّم من أسرته الكريمة بأحرّ التعازي والمواساة، وأن يحسن الله لهم العزاء ويوفّيهم أجور الصابرين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والى روحه وأرواح الشهداء الفاتحة.
كلمة في حفل تأبين العلامة السيد عباس علي الموسوي
