لنكفّ عن نعي الشّعر.. المطلوب فقط تحديث الحداثة
بقلم غسان عبد الله
همُّ الشعر منذ نشأته، البحث عن عرائس الكلام، لكن قرانه بها كان دائماً قران متعة، فهو يمتصّها كنحلةٍ مجتهدة، ثم يتركها لمصيرها. الشعر مع ولَعِهِ بالكلمة، لا يطيق عشرتها طويلاً، كما عرفها في أوّل الزواج. إنّه في حاجة لجوجة الى ابتكار عرائس أخرى من أجل لعب أدوار أخرى على خشبة العصر، وإلاّ فقدَ عنصر المفاجأة قوته الدائم. وهذا ما نَشِطت المذاهب الشعرية في تجسيده كجماعة أو أفراد.
هل يمكن أن نستمر في دوار الشعراء الحداثيين الغربيين أمثال بودلير ورامبو، في عصر التكنولوجيا المتسارع الذي نعيشه؟ ماذا تهمّ مثلاً هلوسات إشراقات رامبو وذرّيّاته إنسان اليوم؟ ألم يحن بعد لأفعى الشعر الحديث أن تسلخ جلدها؟ كثيرون من مثقفي العصر باتوا يطرحون هذه الأسئلة. وعلى المعنيين أن يخرجوا من هذه الدائرة السحرية.
يقولون مات الشعر!!.. الشعر لا يموت، فكما استطاع مبدعون سابقون أن يبعثوه، كلّما أُعلن دفنه، لن يُعدم اليوم من يبعثه مجدداً. لكنّ الموت الحقيقي في الواقع هو الدوران المستديم حول محاور حداثته نفسها. فهل من قتَلةٍ جُدد لأولئك الآباء الحداثويين الذين سبق لهم أن قتلوا بدورهم أباءهم في نجاح باهر لا نزال مأخوذين به.
إنّ هذا العالم ذا الدماغ الإلكتروني، وإن يكنْ بارداً، هو العالم الذي أُعطيناه، والمجال الوحيد لحياتنا واختبارنا. فهل يحقّ لنا ونحن نعرف ذلك، أن نستبدله بالكلمة الشعرية ذاتها التي باتت تضيق عن أشكال هذا الاختبار وهذه الحياة؟. إن قراءة الشعر اليوم ليست، وهنا المأساة، غير استبدال ما غدا ملكنا الوحيد، بما لا وجود له.
إنّ اللاشخصية المغِمّة في التجهيزات الحديثة أحدثت انفصاماً لا يُجبَر بين عالم الأشياء والكائنات والكلمة الشعرية المستعملة الى الآن. فكلّ جهد هذه الكلمة، هو نذرها الوحيد للتجسّد في ضياعها فوق الجمود النهائي للأشياء والكائنات مخلّفة إيّاها في موتها.
هذا الشعر الحلولي أصبح برغمه متعالياً نهائياً. فالنّقاوة، أقلّ من أيّ عهد مضى، ما عادت من همّ هذا العالم، عالمنا، كما هو في حضوره وصيرورته. إن الكلمة الشعرية المعروفة حتى الآن، لا تستطيع إدراكَه ولا إثارته. لم يبقَ لها غير نسيانه. لكنها إذ تتركه في جموده تهرب منّا بعيداً. لعلّ هذه الكلمة الشعرية، الثمرة المباشرة للقلب والمخيّلة قد أوجدت زمانها. ولعلّ على قدر الأزمان التي بدأت في هذا العالم الذي لا يُطاق، يُولدُ نوعٌ جديدٌ من الشعراء يختلف جذرياً عن السابق، فيقبل انعكاسات أيّ تكيّف جديد، ويتلاءم مع الاشكال والنماذج الجديدة.
ذلك الزمن ولّى، حيث الكلمة الشعرية كانت تهاجم عالماً غائصاً في الأوحال أو تتحدّث عن إحياء للحقائق المتفسخة، حقائق، على الرغم من تفسّخها، كانت لا تزال موجودة. فقبلَ سنين، كان يمكننا العيش مع الأشجار، الماء، الرّيح والأشخاص الذين حضورهم الحقيقي يطيق أن يكون مركز نظام تجد فيه الحياة معنى ومذاقاً. كان القلب لا يزال يجرؤ على الكلام.
فأنا اليوم، حين أقرأ شاعراً حداثياً ما، أحس في ذاتي بانبعاث حقائق مندثرة عليّ تذكّرها لكوني عرفتها من زمان في عالم آخر، ولا علاقة لها بحياتي الحاضرة. يخيل إليّ عند قراءة هؤلاء الحداثويين أننا نفرّ إلى نقاوة عالمٍ بعيدة عن أي نقاوة في حياتنا الحاضرة أو الآتية. خيرُ ما في الشعرِ الحديثِ يجهدُ في البحثِ عن نقاوةٍ غيرِ نقاوتنا. فأنْ نَشغَفَ بعدُ بطبيعةِ الشِّعرِ المعاصرِ الذي لا يكْذب، والذي يشغلُه الحيّزُ الإنسانيُّ وحدَهُ في عمقٍ، أشبه ما يكون بالانتحار أو بنوعٍ من الشلل ويعني في أي حال الالتزام بعزلة فائقة.
حالما نطلّ على الخارج، كلُّ ما يوجد إطلاقاً أو يكونُ المهمَّ في الحياة، يساهم متحداً في اطلاعنا على مبلغِ هذرنا حين نكلَّف بالأشياءِ والمشاعرِ والحقائق التي بَطُلَت نهائياً.
أنا واحد من الذين يكثر الكلام عليهم اليوم.. إن المتمرّدين الحقيقيين، متمرّدي الوجود بينهم، قلّة ضئيلة. أولئك الذين يتألمون حقاً ويعون حقاً العدم الذي نُلزَم بأن نعيشه.
هناك بالفعل إلزامٌ، الاختيارُ لا يُسمَح به.. هناك ثورات كثيرة أعمق للغاية وأوعى من المحاولات التي حصلت من قبل، لكن القيام بها مستحيلٌ من الآن فصاعداً. إن التكيُّف الحاضرَ بثقلِهِ الفائقِ ناشطٌ في حركةٍ لا تعرف النكوص.
إنّي، حين أترك آثار الشعراء لتناول الطعام وسط كل تلك التجهيزات العملية التي أصبحت ركيزة المستقبل القريب، أحسّني قمت بسفر طويل وغريب، كأنّي قادم من كوكب آخر. إذاً ما جدوى الشعراء في زمن البؤس؟ فنحن لا نوجد في بؤس جزئي، ولكن في شبه له شامل يتفاقم يوماً بعد يوم (…).
المقدّس مات في القلوب. ولذا قبل أيّ شيء نموتُ تدريجاً كلّ يوم ويقيناً أنّ هذا التدنيس متناسب طرداً مع مستوى إنجازات الحلول المعاصرة. إنّ كثراً يحلمون بمدينة الفراغ في المستقبل، الفراغ الذي لا يقوى من الآن على العيش ساعة من العزلة. وبعد، لعلّ قلب الأنسان يتغيّر مع العالم، لكثرة التكيّف، ناسياً عطشه وجوعه ورغباته القديمة؟.
فلنكفّ بعدُ عن نعي الشّعر.. فسقوط أوراق الخريف لا تعني موت الربيع. ومشكلة الشّعر هي مع حداثته الخريفيّة التي ملكت طويلاً حتى عجّزت. وإن إعادة النّظر في مفهومها الشائخ، كفيلٌ بإعادة ربيع الشعر، أي في اختصار، المطلوب فقط تحديث الحداثة.
