استمرار نتنياهو بحَرب غَزَّة يُزعزع عَلاقَتهُ بِأُوروبا وأَمريكا
بقلم زينب عدنان زراقط
الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحقّ أهل غزة منذ عشرين شهراً، 600 يوم من القتل والحصار والتجويع وأقسى الظروف الإنسانية، كارثةُ العصر التي تدفع بالأبكم إلى الاستنكار وبالصنم إلى النهوض..
لكن، أخيراً وصلت الرسالة – وإن كانت متأخرةً -، إلى الدول الأوروبية للاستنكار والنظر بشراكتهم مع “إسرائيل”، ودفعت بالرئيس الأمريكي – من بعد ما سُحقت غزة عن بكرة أبيها -، بالمبادرة لإيصال مساعدات إنسانية التي سُرعان ما تبين أنها ليست إلا إمعاناً بالتهجير القصري واستغلالاً لورقة التجويع للمساومة عليها ليُلملم “ترامب” الخبر على عجل هو ومبعوثه إلى الشرق الأوسط “ويتكوف” ليعلنوا عن خطة جديدة للتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار في غزة سيتم بحثها مع الأطراف المعنيين في “حماس”.
فهل ما نراه اليوم من ضغوط دولية، وتراجع الدعم الغربي، وحالة الانكشاف السياسي لنتنياهو، هو بداية عزلة حقيقية لإسرائيل وانتهاء وظيفتها؟ كيف تريد أوروبا معاقبة إسرائيل؟ وما حقيقة “المساعدات الإنسانية الأمريكية” المرسلة إلى غزة وتفاصيل محادثات وقف إطلاق النار بين أمريكا وحماس؟.
أوروبا تُفكك اتفاقيات الشراكة الإسرائيلية!
في تحول لافت، بدأت دول أوروبية تصعّد لهجتها تجاه “إسرائيل”، متهمة إياها بارتكاب انتهاكات في غزة، وملوّحة بعقوبات ومراجعة اتفاقيات الشراكة، في سابقة لم تشهدها العلاقات منذ عقود. بينما الاتحاد الأوروبي، الذي يمثل 32% من تجارة “إسرائيل”، بدأ يواجه ضغطاً شعبياً متصاعداً، وسط رفض جماهيري متزايد لحكومة نتنياهو وسياساتها في غزة والضفة.
العلاقات الأوروبية – الإسرائيلية متجذرةٌ على مدار عقود من الزمن، بدءاً من اتفاقيات التجارة الحرة في 1975 حتى اتفاقية الشراكة في 2000 التي جعلت الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لإسرائيل. ومع ازدياد انتهاكات حقوق الإنسان إثر العدوان الإسرائيلي في أكتوبر 2023، بدأ الاتحاد الأوروبي وبعض دوله، مثل إسبانيا وإيرلندا، في الضغط لمراجعة هذه الاتفاقيات وفرض عقوبات، منها حظر تصدير السلاح لإسرائيل ووقف المحادثات التجارية البريطانية. في 18 مايو 2025، شهدت لاهاي، عاصمة هولندا، أكبر مظاهرة منذ 20 عاماً ضد الاحتلال الإسرائيلي في غزة، شارك فيها أكثر من مئة ألف متظاهر مطالبين الحكومة الهولندية والأوروبيين باتخاذ إجراءات عقابية ضد إسرائيل بسبب جرائمها في غزة. تأتي هذه الاحتجاجات في سياق تصاعد موجة الانتقادات الأوروبية لسلوك إسرائيل، خصوصاً بعد فرض الحصار على غزة منذ مارس 2025. في 20 مايو 2025، اقترحت هولندا إعادة مراجعة اتفاقية الشراكة بسبب انتهاك إسرائيل لحقوق الإنسان، ما أدى إلى تصاعد التوتر في اجتماع وزراء الخارجية الأوروبيين، حيث اتحد 17 وزيراً لدعم الاقتراح مقابل 9 معارضين، وقد تمّ الاتفاق على المضيّ قدماً في مراجعة الاتفاقية. تشير الوثيقة أيضاً إلى تحضيرات لعقد مؤتمر دولي في يونيو 2025 في نيويورك لإحياء فكرة حل الدولتين، مع توقّع اعتراف فرنسا بالدولة الفلسطينية، في ظلّ حاجة إسرائيل للدعم الأمريكي لمواجهة أي قرارات قد تضر بمصالحها. في المجمل، تعكس هذه الأحداث تصاعد الضغوط الأوروبية على إسرائيل وتغير المواقف السياسية قد يؤثر بشكل كبير على مستقبل العلاقات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية.
تحول دفع السفير الإسرائيلي الأسبق لدى فرنسا آفي بازنر لوصفه بـ “الأمر الخطير”، حيث قال: “لأول مرة في التاريخ الدبلوماسي لدولة إسرائيل يهددنا الغرب بفرض عقوبات علينا، وفكرة كرة ثلج بدأت تتدحرج بشأن العقوبات”، لافتاً إلى أنه: “نحن للأسف دخلنا اليوم للمرة الأولى بأزمة، مع جزء كبير من القارة الأوروبية القريبة منا تاريخياً وثقافياً، والذين يقومون ضدنا من خلال العقوبات، هذا الأمر يحدث لأول مرة وهو أمر خطير، هذه فقط البداية، إذا استمرت الحرب، العقوبات ستزداد”.
تحوّل أثار الكثير من التساؤلات حول توقيته ودوافعه ومآلته، وما إذا كان استفاقة إنسانية أخلاقية سياسية حقاً أم مجرد ذرٍّ للرماد في العيون، رضوخاً لموجات الضغوط الشعبية والإعلامية المتصاعدة والتي لا يكتفي معها خفض الرأس لتمريرها. وعلى الرغم من أهمية هذا التحول الرمزي، إلا أن فعالية العقوبات تبقى محدودة، وسط غياب عربي رسمي عن المشهد، ما يثير تساؤلات حول جديتهم لتحمّل مسؤولياتهم الأخلاقية.
فعلى سبيل المثال، بعد أربع ساعات ونصف فقط من إلقاء وزير خارجيه بريطانيا خطابه الشهير أمام أعضاء البرلمان البريطاني مهاجماً فيه إسرائيل بقوة بسبب جرائمها في غزة وأعلن خلاله تعليق بلاده لمفاوضاتها التجارية مع الإسرائيليين، أقلعت طائرة تجسس بريطانية من قاعدة Episkopi Cantonment في قبرص لتحلّق فوق غزة وتساعد الاستخبارات الاسرائيلية في مراقبه القطاع!!.

مساعدات أمريكية وهُدنة؟
يكتنف الغموض ما تسمى “مؤسسة غزة” التي أنشأتها (إسرائيل) بدعم أمريكي، للسيطرة على توزيع المساعدات الإنسانية المقدمة دولياً لأهالي القطاع مع استمرار الحصار، وصولاً لاستقالة المدير التنفيذي جيك وود، وتأخر عملها حتى اللحظة لأسباب متضاربة. ولا يعرف الكثير عن المؤسسة الأمريكية سوى أنها أُسست في فبراير/شباط 2025، بعد مشاورات بين ضباط إسرائيليين ورجال أعمال أمريكيين، وبدأت تنشط أواخر مايو/أيار من العام نفسه، وذلك بعد حصار إسرائيلي مطبق على جميع معابر ومنافذ غزة لنحو ثلاثة أشهر.
وفي مراحل لاحقة، تقترح الخطة إنشاء مناطق سكنية يزعم الاحتلال أنها محمية تحت اسم “مناطق الانتقال الإنساني” تكون مخصصة لإيواء النازحين دون عودتهم لمناطقهم السكنية، كمحطة نحو تهجيرهم قسراً. ورداً على ذلك، قالت الأمم المتحدة إن خطة التوزيع المدعومة من الإدارة الأمريكية لا تفي بمبادئ المنظمة الراسخة المتمثلة في النزاهة والحياد والاستقلالية. وأكّدت الأمم المتحدة أن هذه الخطة لتوزيع المساعدات “تفرض مزيداً من النزوح، وتعرّض آلاف الأشخاص للأذى، وتجعل المساعدات مقترنة بأهداف سياسية وعسكرية، كما تجعل التجويع ورقة مساومة”.
يكشف تحقيق نشرته صحيفة “واشنطن بوست” عن تحديات كبيرة تواجه مشروع آلية المساعدات الإنسانية لغزة الذي تدعمه الولايات المتحدة. فتشعر قيادات عسكرية إسرائيلية بعدم جدوى هذا المشروع، متسائلين عن الهدف الحقيقي منه، وهل هو مجرد خطوة لتهيئة إعادة احتلال قطاع غزة. كما يشير التحقيق إلى حالة من الارتباك وعدم اليقين تحيط بالخطة، مع غياب دعم واضح من بعض مسؤولي الإغاثة البارزين. إضافة إلى ذلك، تراجعت عدة دول عربية وأوروبية كانت معنية بتمويل المشروع، ما أثار تساؤلات جدية حول كيفية تأمين التمويل والمواد اللازمة لنجاح آلية المساعدات هذه. يوضح هذا التحقيق الأوضاع المعقدة التي يمر بها ملف المساعدات، وسط الشكوك حول فعاليتها وغاياتها.
سريعاً بعد انتشار فضيحة حقيقة المعونات الأمريكية لغزة، سارع ترامب إلى تلقّف الخبر وأعلن عبر مبعوث أمريكا إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، إن واشنطن بصدد إرسال ورقة شروط جديدة بهدف التوصل إلى اتفاق بشأن غزة.
من جانبه، قال ترامب للصحفيين إنه يتعين على الأطراف في غزة أن توافق على الوثيقة التي قدمها ويتكوف، وأكد أن إدارته تعمل على تسريع توصيل المواد الغذائية للفلسطينيين في غزة. وأضاف “نتعامل مع الوضع برمته في غزة، نوصل الغذاء لسكان غزة، الوضع شنيع جداً”!!.
وأوضحت حركة حماس، في بيان صحفي يوم الأربعاء الماضي، أن الإطار المتفق عليه يتضمّن انسحاباً كاملًا لقوات الاحتلال من القطاع، وتدفّق المساعدات الإنسانية، وتشكيل لجنة مهنية تتولى إدارة شؤون القطاع فور الإعلان عن الاتفاق.
كما كشفت المصادر أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سيكون الضامن لتنفيذ الاتفاق خلال فترة الستين يوماً، على أن تتولى الوساطات الدولية ضمان استمرار وقف إطلاق النار بعد انتهاء المدة المحددة، ضمن رؤية سياسية طويلة الأمد لإنهاء الحرب. من جهتها، نقلت صحيفة “هآرتس” عن مصادر مطلعة أن الولايات المتحدة تواصل ممارسة ضغوط كبيرة على الحكومة الإسرائيلية من أجل إنهاء الحرب في قطاع غزة، وسط تصاعد الخسائر الإنسانية والدعوات الدولية المتزايدة لوقف إطلاق النار.
في الختام، يبقى نتنياهو، المطلوب للعدالة الدولية، يتهرب بطرح شروط جديدة، أحدثها نزع سلاح حماس، وهو ما ترفضه الحركة طالما استمر احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية. وتقول المعارضة وأهالي الأسرى إن نتنياهو مستمر في حرب الإبادة بغزة رضوخاً للجناح اليميني الأكثر تطرفاً في حكومته، لتحقيق مصالحه السياسية الخاصة، ولاسيما البقاء في الحكم.
يقول إيهود باراك: “في الأيام القليلة المقبلة، سيُجبر نتنياهو إلى الاختيار بين بن غفير وسموتريتش من جهة، وبين ترامب وقادة العالم من جهة أخرى، وبين مواصلة حرب سياسية عبثية، وبين الإفراج عن الأسرى وإنهاء الحرب”. في حين أن “اختيار الاستمرار في حرب عبثية، تتنكر خلف ستار مضلل وتدّعي زوراً أنها معركة من أجل أمن الدولة ومستقبلها، بينما هي في الحقيقة حرب سياسية “حرب ائتلافية من أجل البقاء” سيكتب فصلاً جديداً في “موكب الحماقة”.
فمن جهة، من المشكوك فيه جداً أن تؤدي هذه الحرب إلى نتائج تختلف عن تلك التي حققتها الجولات السابقة في قطاع غزة. ومن جهة أخرى، لا شك في أنها ستُعمّق عزلة إسرائيل دبلوماسياً وقانونياً، وتُشعل موجة جديدة من معاداة السامية، وتحكم على بعض الأسرى الأحياء بالإعدام.
فهل تؤدي انتهاء “الشرعية الدولية” للعمليات العسكرية لجيش العدو الإسرائيلي في غزة إلى قرار في مجلس الأمن بوقف الحرب الإسرائيلية على القطاع؟.
