فضاءات فكرية

الاستخلافُ الرّبّاني: بينَ الواجب والمسؤولية والأمانة

بقلم نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

عند بدء خلقه لهذا الكون، أبدع تعالى وأوجد نظاماً لإدارته والإشراف عليه، يقوم على التوازن والحكمة والغائية، وذلك قبل الدخول في أية أمور أخرى.. وكانَ أول ما أعلنه تعالى في هذا الصدد هو قيامه بـــــ “الجَعْل”، أو “التعيين”.. وهو جعل وتعيين خليفة له في الأرض.. يقول تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾]البقرة: 30[.

وقد تباينت واختلفت تفسيرات المفسرين لمعنى مصطلح الخلافة التي ذكرها تعالى، فمن بين من رآها مجازاً يشير إلى استثمار الإنسان للأرض، وبين من فهمها كمقامٍ رباني يتطلب مواصفات استثنائية فريدة.. إلا أن النصوص القرآنية تؤكد أن هذا الموقع الحيوي الإلهي لم يكن مجرد منحة عامة، بل اقترنَ بشروط ومؤهلات دقيقة يجب توفرها في الخليفة. وهي شروط لا تتحقق غاية الخليقة والاستخلاف على الأرض من دون وجودها وتوفرها ذاتياً وموضوعياً في هذا الخليفة..!!.

وكانت هناك محاولات للملائكة – وهم من عباد الله المقربين – لاستيعاب حكمة هذا الاختيار في مواصفات صاحبه ومعاييره، فعرضت نفسها لهذه المهمة الجسيمة مستندةً إلى قدرتها على التنزيه والعبادة الخالصة لله تعالى، لكنها اكتشفت أنّ متطلبات الخلافة ومقتضياتها تفوق حتى طاقاتها الذاتية التكوينية القائمة بها وعليها.. وهذا أمر بالغ الدلالة من حيث أنه يشير إلى أن المقام عظيم وكبير (بالنظر لمسؤوليات من يتصدى له)، وبالتالي هو يحتاج إلى مؤهلات وقابليات تتجاوز حتى كمالات الملائكة ذاتها كما يظهر من حديثها.

ويجدر بنا هنا أن نؤكد هنا على أن بعض التيارات الفكرية التي رفعت شعارَ الالتزام بالقرآن، لم تعطِ مفهوم الخلافة والاستخلاف تلك الأهمية التي يستحقها في أصل المنظومة القرآنية. فإذا تأملنا ودققنا في تسلسل الأحداث الإلهية وفقاً لكتاب الله عز وجل، نجد أنّ أولَ قرار إلهي في مرحلة التكليف بعد تجاوز مرحلة الفطرة كان متعلقاً بتعيين الخليفة نفسه. مع أن مرحلة الفطرة سابقة على التكليف، بما قد يظن بوجود إمكانية وصول الإنسان إلى الإيمان دون وساطة نبوية، وهذا ظن خاطئ لسبب بسيط وهو أن البشرية – بغاليبتها – سلكت وتسلك طريق الإفساد وسفك الدماء، رغم تقّومها بالفطرة، الأمر الذي استدعى تحولاً جوهرياً في المسار. وبانتقال البشرية إلى مرحلة الاستخلاف والتكليف، تولى الله هداية الإنسانية مباشرة، فلم يتركها لقوانين الفطرة وحدها، بل أقام نظاماً متكاملاً يقوم على أساسيين وركيزتي هما: النبوة والاستخلاف. وهذا ما يوجب على الناس إدراك عظمة هذه المسألة، وإعطاءها الأهمية اللائقة والجديرة بها، إذ أنها لم تكن قضية فرعية ثانوية، بل كانت المهمة الجوهرية التي ارتبطت ببداية عهد التكليف، والمتمثلة في ضرورة وحيوية وجود قائد نوعي موصول بالله تعالى، يهدي البشرية ويقودها نحو غايتها الوجودية.

ولم يفوض الله هذا الأمر لأحد، بل تصدّى له مباشرة انطلاقاً من قوله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾] البقرة: 30[، ما يؤكد أن مسألةَ الخلافة لم يتم تركها لتسير وفقاً للاختيار البشري وقناعات البشر أنفسهم، بل هي منوطة بالإرادة الإلهية المباشرة. وهذا يفرض علينا التعامل مع مفهوم الخليفة بأعلى درجات الجدية والتوقير، بعيداً عن السطحية في الفهم أو الانزلاق إلى مزالق الادعاء والتطفل.

فالخليفة في الأرض لا يختار من بين عموم الناس، بل هو شخصية فريدة واستثنائية، وبالتالي لا بد أن تتوافر فيها أعلى الصفات، وأسمى الملكات، وأرقى المؤهلات والخصائص التي تؤهلها لحمل لقب ومسؤولية “خليفة الله”. وقد تجلى هذا المعنى بشكل واضح في القصة التي يتحدث عنها القرآن في سجود الملائكة لآدم عليه السلام، يقول تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾] البقرة: 34[، وما رافقها من تعليم الأسماء (كلها)، وعجز الملائكة عن الإحاطة بها أو معرفتها ولو بالحد الأدنى. والواضح أن هذه المحاجّة لم تكنْ مجرد حوار عابر، بل كانت إعلاناً عن مواصفات الخليفة وشروطه ومعاييره المطلوبة للمقام الكبير.

طبعاً، الواضح من سياق الآيات أن الله تعالى لم يترك الأمر غامضاً أو معرضاً للالتباس والشك، بل حدّد بنفسه معايير الخلافة ومصاديقها ومواصفاتها، ووضع ضوابط ربانية دقيقة لها؛ فلا مكان هنا للادعاءات الفارغة أو التفسيرات الشخصية أو التأويلات المزاجية المصلحية.. فلو تركت من دون معايير أو ضوابط، لادعى كل أحدٍ بأنه “خليفة”، وبالتالي لضاعَ الحقُّ بين المتنافسين.. لذلك جاء التشخيص الإلهي واضحاً، وهو: أنّ الخليفة يجب أن يكون معصوماً، عالماً، منصوصاً عليه، وممتداً في سلسلة لا تنقطع. فهذه هي المعايير التي تضمن حفظ الرسالة واستمرار الهداية الإلهية عبر الخلفاء الراشدين.. إنها الخلافة للأنبياء إذاً.

والتأمل في النص القرآني يُظهر أنّ الله تعالى قد أخذَ ميثاقاً خاصّاً على الأنبياء ومخصوصاً بهم. وهذا يثير التساؤل عن طبيعة هذا الميثاق وماهيته ونوعيته!؟ ولماذا يؤاخذ به أنبياءٌ هم بالأساس خير الخلق وصفوته وأقربهم إلى الله؟!.

في الحقيقة: هذا الميثاق ليس إشارة إلى احتمال تقصير الأنبياء، فهم منزّهونَ عن الخروج عن طاعة الله، بل هو تأكيد على أهمية هذا الميثاق نفسه في شروطه ومعاييرها.. فإذا كان الله قد اشترط على أنبيائه، وهم أعلى الخلق مقاماً، الالتزام به، فكم يجب أن يكون هذا الميثاق جوهرياً وخطيراً؟ وكم يجب أن نعتني به نحن الذين لسنا بأنبياء؟!..

وهذا الميثاق العظيم كما يقول تعالى: ﴿ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ﴾] آل عمران: 81[، هو ميثاق الإيمان برسول آتٍ، ونصرته، ودعمه، والسعي معه في دينه ومبادئ تعاليمه وتشريعاته، وووإلخ.. وهذا ليس مجرد اعتراف شكلي، بل هو تعهد بالاتباع الكامل والولاء التام.. وهذا يعني أن هذا الرسول المنتظر يتمتع بمنزلة تفوق منزلة النبي الذي أخذ عليه الميثاق، وإلا لما طلب من نبي سابق أن يتبع نبيًا لاحقاً.

وهنا تكمن العظمة: فالميثاق لم يؤخذ على الأنبياء فحسب، بل كان شرطاً أساسياً لنيل شرف النبوة نفسها. فقبل أن يصطفي نبي، عليه أن يقرّ بهذا الشرط ويقبله. وهذا يدلُّ على أنّ مركز الخلافة الإلهية ومحور الرسالة سينطوي على هذا الشخص الموعود.

وليس أي رسول جاء، بل هو خاتم الأنبياء، الذي على الرغم من مجيئه متأخراً زمنياً، إلا أن جميع الأنبياء السابقين دخلوا في نبوّتهم من باب الإيمان به ونصرته. فكان تصديقهم به هو مفتاح اصطفائهم، مما يوضح علو مقامه وتميزه، ليس فقط على عامة الناس، بل على سائر الأنبياء والمرسلين أيضاً.

وبتحليل منطقي بسيط، نجد أن طلبَ الإيمان بنبي آتٍ بعد قرون من زمن الأنبياء السابقين يطرح تساؤلاً جوهرياً، هو: لماذا يُشترط على نبي أن يصدق بمن سيأتي بعده؟! هل هو شرط شكلي رمزي، أم أنه حقيقي وجوهري؟!..

لا يعقل أن يكون الأمر شكلياً، فالله تعالى لا يأخذ مواثيق عظيمة مع أنبيائه على أمور لا معنى لها.. بل إنّ اشتراط الإيمان بالنبي الخاتم كشرطٍ لاصطفائهم وانتخابهم، يعني أن لهذا النبي دوراً محورياً حياً في رسالاتهم جميعاً، حتى قبل مجيئه. فهو ليس مجرد خليفة في المستقبل، بل هو مركز الخلافة الإلهية الذي تدار من خلاله هداية البشر عبر العصور.. وبالتالي، فإن تأثيره ليس محدوداً بزمنه، بل يتعداه إلى من سبقه من الأنبياء، الذين كان إيمانهم به جزءاً من شرعيتهم النبوية. وهذا يفترض وجوداً خاصاً لهذا الخليفة، يتجاوز الإطار المادي المألوف، وهو ما تؤكده النصوص التي تتحدث عن رفع بعض الأنبياء – كإدريس – إلى مراتب عليا وحياة مستمرة، مما يفتح الباب لفهم أعمق لطبيعة الوجود الرباني وتأثيره الذي لا تحده حدود الزمن.

وتأتي الخطوة التالية بعد تنصيب الخليفة في بيان مقام الأمانة، إذ لا يتصور استخلاف من دون ما يستأمن عليه. ولهذا جاءت الآية المباركة: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾] الأحزاب: 72[.

لقد عرض الله الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين حملها، ليس عن تكبر أو تقصير، بل لأن طبيعتها التكوينية تمنعها من الاختيار بين الطاعة والمعصية.. فهي تسير وفق ناموس وقانون إلهي ثابت لا تحيد عنه إطلاقاً.. بمعنى أنها قائمة ذاتياً ومعيارياً بذلك الأمر.. أما الإنسان، فقد قبل حمل هذه الأمانة لأنه المخلوق الوحيد الذي منحه الله حرية الإرادة والاختيار، ليختبر صدق التزامه بأدائها.. غير أن الآية ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ لا تصف من رضي بحمل الأمانة، بل تحذّر مَن يفرط فيها.. فحمل الأمانة شرفٌ وسمو روحي ونفسي وعملي، والتقصير في أدائها هو الظلم والجهل بعينه، جهل بالذات وبالخارج.. والأمانة ليست عبئاً، بل هي وسيلة الارتقاء إلى مقام الاستخلاف في الأرض.

ولا يستحق هذا المقام سوى من بلغ أعلى درجات الطهارة والعصمة، وخلص من أدنى درجات الظلم والجهل. فمن تطهرت نفسه من الرجس والزيغ وشوائب الدنيا، وبلغ في العلم والحكمة مبلغاً يجعله قادراً على أداء الأمانة كاملة غير منقوصة، فهو الجدير حقيقةً بالاستخلاف الرباني، وهو الذي يحمل عرش الربانية في الأرض. وهؤلاء هم الذين اختارهم الله لحمل أمانته وقيادة مسيرة الهداية في مسيرة البشرية، مسيرة العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *