الإعلام الرقمي ومستقبل العلوم الإنسانية
بقلم غسان عبد الله
على مدى عقدين وأكثر من الزمن نشهد زيادة في استخدام التقنيات الرقمية الثابتة والمتنقّلة، كالهواتف المحمولة على أنواعها، والحواسيب المختلفة، ويتزايد الاعتماد على هذه التقنيات الرقمية في سيرورة عملية تبادل المعرفة، وفي عملية التواصل.
وقد أصبح معروفاً وملاحظاً مدى التأثير المباشر لهذه التقنيات في الحياة اليومية بشكل عام، وفي الحياة الأكاديمية – البحثية بشكل خاص، ما يدفع إلى القول إن هذا الانتشار للتقنيات يؤدي بالتالي إلى إبداع ابتكارات تقنية للمعلومات والاتصالات، تصبح بحد ذاتها أدوات إنتاج للمعرفة وليست فقط وسيلة للاستخدام.
ومن هنا، فإن هذا التقدم الحاصل بوتيرة متسارعة في الزمان والمكان لتطبيقات وسائط الإعلام الرقمية واستخدامها في العلوم الإنسانية، يدفع إلى التفتيش عن أُطر جديدة ترقى بهذه العلوم إلى مستوى العلوم الإنسانية العلمية، لكي تتماشى مع طبيعة الوسيط الرقمي. لهذا نعتبر أن هذا التوجه الجديد مرتبطٌ بسلسلةٍ من المجالات التي تؤثر في العلوم الإنسانية، مثال: المكتبات الرقمية، والنصوص الرقمية، ونظم المعلومات الجغرافية والوسائط المتعددة والشبكات الاجتماعية، وتكنولوجيا التعليم، والمصادر المفتوحة، وغيرها.
إن التوجه الجديد في العلوم الإنسانية هو إعادة هيكلة هذه العلوم لكي تدخل ضمن ما بات معروفاً بـ (الإنسانيات الرقمية)، التي تدعو إلى البحث عن مفاهيم ومعانٍ مرتبطة بالتقنيات، ومدى تأثيرها في مختلف الاختصاصات الإنسانية. فالإنسانيات الرقمية تقوم على دراسة كيفية بناء معايير علمية بدأت تُسيّر آلية البحث العلمي، وعلى كيفية رؤية الباحثين في العلوم الإنسانية إلى هذه الوسائط الجديدة. ففي هذا السياق، من الممكن اعتبار أن التقنيات الرقمية هي وسيلة لنشر وإنتاج المحتوى الرقمي، وهي تنطوي على برامج معلوماتية مثل قواعد البيانات في مختلف أشكالها المنظمة وغير المنظمة، ومحركات البحث للتنقيب عن المعلومات واسترجاعها، وعلى تطبيقات النشر الإلكتروني ومعالجة المعلومات. كما أنها متشكّلة من تطبيقات معلوماتية للاتصال تسمح تالياً بالتواصل والتعاون بين الباحثين بصورة مختلفة عن السابق، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فالإنسانيات الرقمية ترتكز على بناء برامج معلوماتية تعالج النصوص آلياً وتدخل في كل الاختصاصات وتؤثر فيها.
العناصر التي تنطوي عليها الإنسانيات الرقمية، توضح مجموعة من التطبيقات القائمة على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي ترتبط مع المجال. ولدراسة تأثير التقنيات في العلوم الإنسانية فمن المفترض دراستها من منظور مفاهيمي ضمن الأطر التكنولوجية، من جراء إدخال التقنيات في مجالات الحياة كافة كونها مرتبطة بالعلوم الإنسانية.
لقد أثّرت التقنيات الرقمية في كيفية التعليم والتدريب، وفي علم التاريخ، والأدب، والآثار، والمكتبات، والمتاحف، والمسرح، والألسنية، والدين، والإعلام، والإعلان، والفلسفة، والقانون، والصحافة، والفن والرسم، وغيرها.. وتحاول الإنسانيات الرقمية الإجابة عن التساؤلات الآتية: ما المطلوب من عمل أكاديمي – بحثي لنصل إلى المستوى العالمي ويكون للأكاديميين دور في عملية صنع القرار؟. ما تأثير الوثائق الرقمية على الإنسانيات الرقمية؟ انطلاقاً من مبدأ الحتمية التقنية، هل الخيار في أدوات الإنتاج المعرفية يعدّ خطوة حاسمة في مسيرة البحث العلمي؟ هل لطريقة استرجاع المعلومات في البحوث تأثير في الدراسة والأبحاث؟ كيف سيتأقلم المنهج التجريبي مع المستجدات الرقمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية والإعلام؟ انطلاقاً من دراسة الظواهر المراقبة التي تغير من عملية تنفيذ النهج العلمي، الذي عليه أن يأخذ في الاعتبار تعقيدات عملية جديدة للبحث، ترتبط في إدراك الحقائق المراقبة، فهل علينا البدء في تغير الرؤية المعرفية؟.
انطلاقاً ذلك كله، تقع المسؤولية الأولى على الجامعات العربية، بالأخص تلك التي تدرّس العلوم الإنسانية والاجتماعية والإعلام، كما تقع هذه المسؤولية على مراكز الأبحاث الجامعية، التي من المفترض بها أن تتعامل مع المعلوماتية في هذه الاختصاصات على أساس أنها علم له مصطلحاته ومفاهيمه الخاصة. كما التعامل مع المعلوماتية كمكوّن أساسي ضمن المناهج التعليمية لتصميم البرامج التي تعالج النصوص العربية آلياً، وليس على أساس أنها أدوات وأجهزة للكتابة وللتنقيب عن المعلومات فقط. وبحسب الدراسات العالمية فإن المستقبل للذين يصممون البرامج وليس للذين يستخدمونها!. لأن التغيرات الثقافية المرتبطة بالرقمنة تؤثر على الإنتاج المعرفي والبحوث العلمية، وخصوصاً في الإنسانيات، كون طرق نشر المعرفة وتخزينها ومعالجتها والوصول إليها باتت مختلفة. وهنا يكمن مستقبل العلوم الإنسانية من جراء هذا التلاقح المتبادل بين المعلوماتية كعلم، والثقافة بمفهومها الواسع كالطريقة التي نرى بها الحياة، والعلوم التي تهتم بها. هذا التقارب في معالجة العلوم الإنسانية يأتي من كون هذه العلوم تأخذ النص في مقارباتها المعرفية، والنص كما هو معلوم هو العنصر الأساسي للتواصل وهو العنصر الأول الذي يتغير خلال عملية إنتاجه. ومن هنا تأتي التغيرات على علوم اللغة نظراً لارتكازها أولاً وأخيراً على النص. إذاً من المفترض التفتيش عن طُرُق مناسبة لتعليم المعلوماتية وإدخالها في العلوم الإنسانية المتنوّعة لوضع منهجيات علمية مناسبة لهذا النوع من التفاعل.
