آلياتُ هيمنةِ الغرب على العالم وإمكانية المواجهة وكسر الاحتكار
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
تستند الحضارة الغربية المعاصرة في بنائها الفكري والتاريخي العملي إلى ثلاثة أركان ومراجع رئيسية صاغت هويتها الثقافية التاريخية، وشكلت سياقات استراتيجيتها السياسية والعملية عبر قرون عديدة، وهي (بحسب التحقيب الزمني): الإرث الفلسفي اليوناني، والمنظومة القانونية الرومانية، والتراث الديني المسيحي. حيث كوّن هذا الثالوث نسيجاً متداخلاً، فقد غذت المسيحيةَ بالقيم، والإغريقية بالعقل، والرومانية بالتنظيم، لتبني معاً المنظومة الفكرية والمجتمعية التي نمت عليها الحضارة الغربية.
– فالفلسفة والعقلانية الإغريقية: قدّمت الأدوات المنطقية والمنهجية للتفكير والتحليل، وسعت إلى فهم الكون والإنسان من خلال العقل والبرهان.
– والنظام القانوني والإداري الروماني: أسس لفكرة الدولة القائمة على القانون والمؤسسات، والتي تحكم العلاقات بين الأفراد والدولة.
– والتراث الديني المسيحي: شكّل الإطار القيمي والأخلاقي، وساهم في صياغة الرؤية الغربية للعلاقة بين الإنسان والله والعالم.
ولكن هذه المحركات الثلاث للغرب، تعاضدت عند فكرة القوة والهيمنة على الآخر، فما هي الأسباب والدوافع التي غذّت منهج التحكم والهيمنة في بنية الحضارة الغربية؟!..
في الواقع، لا يمكننا حصر الأسباب في بعد واحد.. فظهور نزعة الهيمنة والتسلط في الغرب هو نسيج معقد من العوامل التاريخية والفكرية والاقتصادية والدينية التي تراكمت على مدى قرون، ويمكننا رصدها ومعاينتها في جذورها من خلال النقاط الآتية:
- الجذور الدينية والوضعية – فكرة “الاستثناء” و”الرسالة“
وهذا ما برز في:
– التراث المسيحي والصراع مع الإسلام خلال الحروب الصليبية التي شكلت هوية غربية مسيحية في مقابل “الآخر” الشرقي الإسلامي.. وقد أفضى أدى هذا إلى ترسيخ فكرة “الحملة المقدسة” التي تبرر التوسع تحت شعار ديني.
– فكرة “عبء الرجل الأبيض”، مع ظهور العلمانية، حيث تحولت الدوافع الدينية إلى رسالة “مدنية” للغرب الوضعي، عليه واجب ومهمة تحضير الشعوب “المتخلفة” ونشر قيمه (الديمقراطية، الرأسمالية، المسيحية) فيها، وهي فكرة استخدمت لتبرير الاستعمار بطبيعة الحال.
– الفلسفة والعرق التي برزت في القرن التاسع عشر، حيث قدم بعض الفلاسفة (مثل هيجل) قراءات للتاريخ صورت أوروبا على أنها قمة المدنية والتطور الإنساني. كما أن نظريات “علمية” زائفة عن تفوق العرق الأبيض (مثل نظرية داروين الاجتماعية) قدّمت غطاءً أيديولوجياً للهيمنة.
2-الجذرو الاقتصادية والموارد: الطمع والجشع
وهذه من أهم الدوافع التي جاءت مع تفجر الثورة الصناعية وصعود الرأسمالية من أجل فتح طرق التجارة العالمية بعد حدوث الكشوفات الجغرافية..
فقد خلقت الثورة الصناعية في الغرب (التي روّجت لسيادة العقل، والنقد، والمنهج العلمي القائم على الملاحظة والتجربة، مع ظهور الآلة البخارية، والمصانع، والسكك الحديدية) حاجة ماسة إلى الإمساك بالموارد والمواد الخام (القطن، المطاط، المعادن) الموجودة في كثير من البلدان البعيدة، وذلك لتصنيع المنتجات المختلفة ومراكمة الثروات بعد التقدم العلمي الذي حدث في الغرب.. الأمر الذي اقتضى الوصول إلى تلك البلدان للقبض على تلك المواد، وأيضاً فتح أسواق جديدة لبيع المنتجات المصنّعة خاصة مع تعاظم المخزونات الأوروبية منها.. وحتى تصل المنتجات لأبعد الأمكنة لا بد من السيطرة على منافذ التجارة وطرقها العالمية بالقوة، وهنا برز البعد الرأسمالي التجاري، فتسابقت القوى الكبرى للوصول والسيطرة على تلك الطرق التجارية العالمية (مثل طريق الحرير والطريق إلى الهند) وهنا انكشف المشهد العالمي عن عدة إمبراطوريات استعمارية فرضت بالقوة هيمنتها التجارية وهي بريطانيا، فرنسا، إسبانيا، البرتغال.
- الجذور العسكرية والتقنية: التفوق والقوة الغاشمة
مع اكتشاف البارود، وبعد أن اخترع الغرب الأسلحة النارية، وبنى السفن الحربية الحاملة للمدافع، امتلكت القوى الأوروبية الصاعدة الناظرة لاقتصاديات المستعمرات تفوقاً كبيراً وساحقاً على جيوش وحضارات كانت تعتمد على أدوات دفاعية تقليدية، فانهزمت عند أول المواجهات، انفتحت أبواب الهيمنة الغربية لإخضاع الآخرين وسرقة ممتلكاتهم وثروات أراضيهم.. خاصة مع ظهور المنافسة الشرسة والصراعات الدامية بين تلك الإمبراطوريات، والذي أدى إلى سباق للتوسع الاستعماري خوفاً من أن تسبق هذه الدولة (أو تلك) قوة أخرى إلى موارد وإقليم جديد، مما يهدد أمنها ومكانتها.
ومع مزيد من الاكتشافات وظهور الموارد والثروات في البلدان المستعمرَة قامت تلك القوى المالكة للقوة والمؤمنة بعقيدة التفوق العنصري الغربي، بتقاسم البلدان وبالتالي تقسيم الثروات فيما بينها.. وهذا ما جرى في مؤتمر برلين (1884-1885) الذي كان الذروة التجريبية لنزعة الهيمنة، حيث اجتمعت القوى الأوروبية لتقسيم قارة إفريقيا بشكل تعسفي ظالم فيما بينها، دون أي اعتبار للتركيبات الثقافية أو القبلية أو رغبة السكان المحليين. كان هذا المؤتمر تجسيداً لفكرة أن العالم ملكية يمكن للغرب تقسيمها كما يشاء ويريد وتستوجب مصالحه.
إذاً، كانت نزعة الهيمنة الغربية عملية تراكمية قامت على:
– قناعة أيديولوجية صلبة استقت منابعها من العقل اليوناني والقانون الروماني والتراث المسيحي، التي اجتمعت على عقيدة تفوق الحضارة الغربية. (احتكار شرعية القوة).
– حاجة اقتصادية وشبق اقتصادي هائل للموارد والأسواق.
– قدرة عسكرية مكنت القوى الغربية من تحقيق أطماعها في النهب نتيجة التفوق الذي فرض السيطرة في المعارك والحروب البرية والبحرية والجوية.
– تكالب وصراع تنافسي استعماري دفعت به إلى مزيد من التوسع واستمرارية عقلية السيطرة والنهب.
وهكذا تواصلت هذه النزعة بعد نهاية الاستعمار التقليدي من خلال ظهور أشكال جديدة، مثل الهيمنة الاقتصادية عبر مؤسسات مالية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والهيمنة الثقافية، والتدخل العسكري تحت مسميات مختلفة (حماية الديمقراطية، مكافحة الإرهاب)، والسيطرة على المعايير الدولية، وحماية أمن إسرائيل، وووإلخ.. كما برزت آليات ثقافية ورمزية للهيمنة الغربية مع التوسع في العولمة الثقافية، عبر وسائل الإعلام، السينما، الموسيقى، والبرامج التلفزيونية، ومع انتشار النموذج الثقافي الغربي كمعيار للنجاح والحداثة والرفاهية، مما أدى إلى إضعاف الثقافات والهويات المحلية.. مضافاً إليه الهيمنة على المعرفة والتعليم، حيث باتت اللغة الإنجليزية هي لغة العلوم والاقتصاد.. وحالياً وصلنا إلى ذروة تلك الهيمنة مع امتلاك الغرب للتكنولوجية الرقمية، وتحكم شركات التكنولوجيا الكبرى بالبيانات الضخمة، وكل المعلومات، حيث تجمع معلومات شخصية هائلة، وتسعى للسيطرة على البنى التحتية للإنترنت والذكاء الاصطناعي.. إضافة إلى الهيمنة على المعايير والقواعد التقنية (مثل معايير الاتصالات والقواعد التجارية، وأنظمة حماية الملكية الفكرية)، مما يضمن استمرار تفوق شركاته.
نعم إن الغرب يهيمن ويسيطر وهو مستمر في تعميق هيمنته وسيطرته مع احتكاره الكامل لكل ما يتعلق بالقيم الحداثية الكونية.
ولكن السؤال هنا: كيف يمكن مواجهة تلك الآليات، وكسر احتكار الغرب لكل ما يتعلق بالتطور والحداثة؟.. وهل من إمكانيات لدى من يريد المواجهة لإسقاط موقعية الغرب في كونه بات هو مركز العالم “شاء الآخرون أم أبوا” على حد تعبير أحد النخب المتغربة؟!.
نعم الغرب يمتلك مواقع القوة العلمية والتقنية والاقتصادية والعسكرية بلا أدنى شك، وهو في حالة سعي دائم ومتواصل ودؤوب لتعزيز سلطات هيمنته وتفوقه على العالم أجمع، يساعده في هذا، امتلاكه اليوم للقوة التكنولوجية والابتكارات العلمية، واحتكاره الكلي لأساسيات التقنية المتعلقة بها، وصياغته للتيارات الفلسفية والثقافية والفنية التي باتت تشكل أكبر عنصر جذب واستقطاب له في الخارج.. إضافةً إلى قدرته الفائقة على ما أسماه ريجيس دوبريه: “امتصاص السلبية النقدية”.. على عكس ما هو قائم في باقي عوالمنا البشرية القائمة على القمع والاستئصال والنفي ورفض الآخر..
للأسف لن نستطيع مواجهة الغرب بعقول ما زالت تدعي احتكار الحقيقة، وامتلاك ناصية التأويل، ورافضة للحوار مع عناصر مجتمعاتها.. نحتاج لنهضة عقلية وعلمية حقيقية في مواجهة أمراضنا قبل مواجهة الغرب..
إن التفاوت بيننا وبين الغرب المهيمن على كل شيء، كبير وواسع وعميق، وربما باتت مسافات تصل لحدود السنوات الضوئية..
لا أريد تيئيس ولا إحباط أحد، ولكن هذا واقعنا القائم الممتلئ عن آخره بكل أشكال وألوان ودوافع اليأس والإحباط.. استبداد وقمع، وتطرف وغلو وأصولية، وتعصب ديني وعلماني، وقتل على الهويات والانتماءات وووإلخ..
لهذا لن تقوم لنا قائمة إلا إذا قمنا على حالنا..!!. والأمل على ما يبدو من خلال ما نقرأه من دراسات وبحوث، ونعاينه في سلوكيات وممارسات، ونقارنه بأحداث وتواريخ، يقوم على غيرنا وليس فقط على غيرنا، حيث أن الغرب وعلى رأسه أمريكا باتت تواجهه تحديات جسام، مع صعود منافسين جدد مثل الصين وروسيا والهند، مما قد يؤدي إلى تحول النظام الدولي نحو تعدد الأقطاب، كذلك هناك الأزمات الداخلية البنيوية التي باتت بمثابة عيوب هيكلية في جوهر النظام الليبرالي الأمريكي نفسه، والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي الهائل، والانقسامات السياسية، مع فشل النموذج في الممارسات الأمريكية الخارجية المتناقضة مع شعاراتها حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، وسعيها المحموم لتوسيع التحالفات العسكرية وإنشاء “حكومات وصية” لفرض نفوذها.. وربما هي أيضاً مقاومة الشعوب التي يعاملونها كالعبيد، بما يدفعها لرفض محاولات تدمير هويتها، وإفقارها، والاستمرار في إذلالها واستعبادها..!!.
