فضاءات فكرية

الأقلياتُ في العَالم العَربي.. تنوعٌ ثَري وتحدّياتٌ مُعقّدة بينَ قاعِ التّهميش وسَقفِ المُواطنة

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

لكن الذي تغيّرَ وتحوَّلَ خلال العقود الأربعة الماضية بالتحديد، هو أن تلك المكونات التاريخية (التي نسميها تجاوزاً بالأقليات كون هذا الاسم مرتبط بشروط سياسية واجتماعية قاسية وبمناخات عملية تنظر للمكون نظرة دونية غير مواطنية) شهدتْ تحوّلاتٍ كبيرة تمسها في الصميم لناحية تسييس انتماءاتها، فباتت محكومة بهواجس وجودية، وتحديات مصيرية في ظل ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية متغيرة تتحكم بمفاصلها سياسات وخطط إقليمية ودولية تتلاعب بها وتتساوم عليها.

والأقلية – بحسب المعنى المعروف حالياً عنها، والمتمحور حول وجود جماعات بشرية تتسم بمعايير وخصوصيات دينية أو ثقافية أو لغوية أو قومية أو جهوية أو غيرها، تعتبرها هوية لها، وتعمل على الحفاظ عليها وحماية حقوقها في مواجهة أغلبيات هوياتية – هي مصطلح أو مفهوم جديد أو حديث نسبياً في الفضاء السياسي والثقافي الإنساني، ارتبط منذ ظهوره بولادة الدولة القومية الحديثة في الغرب منذ القرن التاسع عشر، ثم أخذ يتبلور أكثر فأكثر بعد الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية.. حيث كانت التسميات الغالبة قبل تلك الفترة هي “طوائف” أو “ملل” أو “أهل ذمة” وغيرها.. وهي مفاهيم دينية سياسية – اجتماعية عبرت عن طبيعة العلاقة السائدة بين الغالبية الحاكمة وتلك الأقليات، والتي تم تنظيمها في كثير من مراحل التاريخ العربي والإسلامي استناداً على قاعدة الولاء والطاعة والخضوع للسلطات الرسمية الحاكمة، بصرف النظر عن طبيعتها وماهيتها ولونها السياسي، في مقابل إعطائها بعض الحقوق..

ولكن مع ما تعرضت له تلك التكوينات التاريخية من تهميش وإقصاء متعمد، سياسي وثقافي واقتصادي، وأعمال قمع واضطهاد ومظالم وصلت حدود ارتكاب عنف عضوي دموي ومذابح وحشية بحقها، دفع القوى الكبرى التي كانت حاكمة لإنشاء حمايات خاصة لها، ظهرت على شكل اتفاقيات ومعاهدات، برزت على وجه الخصوص بعد صعود فكرة المواطنة والدولة الوطنية، كمفهوم سياسي حديث، مما تطلب إيجاد بيئة قانونية وسياسية لتلك الجماعات الأقلوية لضمان وجودها وأمنها وحياتها، وعدم النظر إليها كمشكلة أو عقبة سياسية واجتماعية وقانونية.. تقوم على ضمان حقوقها التاريخية والثقافية والهوياتية الخاصة بها.. وهذا ما جرى بعد تأسيس منظمة الأمم المتحدة، من خلال إكساب هذا المفهوم بعداً حقوقياً عالمياً، له ضمانات دستورية ومرتبط بقوانين حماية حقوق الإنسان والمواطنة المتساوية التي تكفل المساواة في الحقوق والواجبات بغض النظر عن الانتماء الديني المذهبي أو الإثني العرقي أو غيرها، خاصة على صعيد ضمان تمثيلها السياسي العادل، والاعتراف الواقعي بهوياتها الثقافية والدينية ووإلخ.

وللأسف فقد شهدت كثير من بلداننا العربية والإسلامية، وحتى في دول أخرى أوروبية وغير أوروبية، الكثير من أعمال العنف والقتل على الهوية والانتماء المذهبي والثقافي، ارتكبتها حكومات وجماعات تابعة لها، طالت كثيراً من الأقليات الدينية وغير الدينية، ونجمت عن خلفيات دينية تاريخية انتقامية ثأرية، أو خلافات على مصالح اقتصادية وسياسية آنية..

وهذا ما تم استغلاله أيضاً من قبل القوى الدولية الكبرى لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية ومطامع استراتيجية.. وهذا هو للأسف ديدن وعادة قوى الاستعمار بكافة أشكاله، إذ أنها تستغل أمراض المجتمعات وجروحها التاريخية النازفة المفتوحة منذ قرون وقرون، والتي لم يتم علاجها من قبل أهلها وناسها، لتدخل منها، وتقدم “حلولها!” التي لا تخدم سوى مصلحتها هي بالذات..

مع أن ديننا الحنيف – الذي هو دين وعقيدة أكثرية هذه الأمة – اعترف بالتنوع والاختلاف بين المجتمعات والشعوب، واعتبرها حالة غنى وتكامل.. قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا..﴾] الحجرات: 13[.. وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾] هود: 118[.

هذه الرؤية الإنسانية للجماعات والتكوينات البشرية يعززها القرآن الكريم، ويعتبرها ثروة يجب الحافظ عليها، وتاريخنا في بدايات الإسلام، والحكم الراشدي وبدايات الدولة الإسلامية، شهد على ذلك، حيث تعايشت يومها الأديان المتعددة رغم الخلافات والاختلافات فيما بينها، والإسلام نفسه – في نصوص القرآن والأحاديث وأحكام الشريعة – اعترف بها وأقرّ بهذا الاختلاف داعياً تلك الجماعات لممارسة طقوسها وعاداتها وثقافاتها الخاصة بلا خوف ولا وجل..

نعم إن الإسلام اعترف بحقوق الأديان والأقليات كلها وذلك من خلال ترسيخ مبادئ العدل والتسامح معها، في حماية وجودها الحفاظ على هويتها، ومساواتها في الحقوق والواجبات، بما في ذلك مشاركتها في مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

إنّ وجود التنوعات الحضارية – التي ما زالت تمارس فعالياتها وتقاليدها وهوياتها الخاصة، على الرغم من كثير من الضغوطات المسيسة التي تعرضت وتتعرض لها – ليست “مشكلة” بحد ذاتها، تستوجب الحل، بل هي كما نقول دائماً ثروة تُغني الهوية العربية والإسلامية انطلاقاً من كلمة السواء، وأنا أعتبرها هي كلمة الحق والحقوق..

والمشكلة هنا كانت وما زالت تكمن في بنية الدولة والسلطات الحاكمة ذاتها التي قامت على مبدأ القهر والغلبة ورفض الآخر، في قساوة تعاملاتها وقهرية آلياتها الفوقية، وعدم السعي لبناء وإشادة دول العدل والقيم الإنسانية.. والتي بتنا نسميها اليوم بدول حكم المواطنة والمؤسسات، والتي يمكن اختصارها في معنى أن تكون أنتَ –بصرف النظر عن ثقافتك التاريخية وانتمائك الديني وغير الديني- متساوياً في الوطن، لا مجرد ضيف عليه..!!.

واليوم، النقطة الأخطر والأكثر إشكالية في الموضوع كله، هي أنه عندما كانت “الأقليات” (الدينية وغير الدينية) في منطقتنا العربية ترفع صوتها وتطالب بحقوقها الثقافية والسياسية وغيرها، كانت تواجه دائماً بانتقادات حادة تصل حدود تخوينها وخضوعها للاستعمار وارتهانها للدسائس والمؤامرات الخارجية، وأنها مجرد جسر لتفتيت البلدان.. وللأسف كان – وما زال – هذا التعامل التخويني اللاأخلاقي – الواصل درجة استخدام العنف الرمزي والعضوي ضدها – هو الغالب على عقلية الحكومات وآليات تعاملها مع التكوينات التاريخية في منطقتنا، من دون بحثها عن أساس المشكلة وجذورها، وأن القضية برمتها تتطلب انفتاحاً وحكمةً ووعياً سياسياً وعقلاً مفتوحاً بعيداً عن لغة التحدي والمنازعة وعقلية الانفعال والتخوين..  حيث أن من أهم الحلول والمعالجات لمشكلة “الأقليات” في عالمنا العربي هو –بكل بساطة- إعطاؤها حقوقها كاملة، وحماية تلك الحقوق بالدستور والقانون ووفقاً للأبعاد الوطنية، بما يضمن حمايتها، ومشاركتها فعلياً لا شكلياً في القرار والمصير.. وهذا يجب أن يكون مبدأ فوق دستوري في دساتير الدول المتنوعة إثنياً وجهوياً وقومياً وغيرها. حيث أن الإقرار بوجود قوميات وأعراق وتنوعات وتعدديات، وتضمين مواد دستورية لحقوقها، سيقود حتماً إلى التعايش القومي والإثني والثقافي، ويعني جمعاً بين المثل العليا طويلة الأمد والتوصيات البراغماتية التي تحمي البلدان المتنوعة بعيداً عن التصدعات والنزاعات التي تتفجر بين وقت وآخر نتيجة استغلالها من قبل هذا الطرف أو ذاك. وهذا ما عبر عنه “وودرو ويلسون” (الرئيس الثامن والعشرين للولايات المتحدة) عام 1919 في قوله: “لا يمكن للمرء أن يغامر بقول شيء يدعو إلى اضطراب السلام في العالم، أكثر من الحديث عن المعاملة التي تتلقاها الأقليات تحت ظروف معينة”.. فهذا دليل على دور الأقليات في تقويض أركان أي حكم أو تثبيتها..!!.

إنّ الحلَّ البنيوي المستدام لإشكالية الأقليات في بلداننا (يحافظ على قيم التعايش ويعمق أسس السلام والأمان الاجتماعي وغير الاجتماعي)، يكمن في بناء دول طبيعية مدنية حديثة قائمة على المؤسسات والقانون وإشاعة الحريات والمساواة.. دول وطنية قائمة على المساواة والتعدد.. والتحدي هنا داخلي قبل أنْ يكونَ خارجياً..!!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *