يا كلنا يا قمة المجد فينا
بقلم: الشيخ علي الخطيب / نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾
سنة مرت على غيابك، ما أثقله من بعد.. هو بحجم الدهر وبمقدار هذا الغياب كان الحضور.. فلئن غبت جسداً فأنت حاضر في القلوب، حاضر في الوجدان وحاضر في الميدان…
حاضر في الخواطر لا يأتي عليها النسيان، ولا يمحوها مرور الازمان..
راسخ فيها رسوخ جبال الارز في بلدي الحبيب لبنان، رسوخ جبال عاملة الشماء، تتكسر فوقها عوادي الازمان وشواطئه الصخرية تتكسر فوقها امواج الطغيان.
يا نسيم فجرنا يا زهر بنفسجنا والاقحوان.. يا عبير ربيعنا وعطر ليموننا.. يا شجر التين والزيتون في بساتيننا والسنديان في أعالينا.. يا عصف الريح وبرق الرعد، إذا حمي الوطيس وثار الغضب، فانت الربيع في فصل الربيع، وانت الصيف في وقت الصيف، والخريف إذا جاء أوانه، وفصل الشتاء إذا حان حينه.
لكل زمان كنت لكل الأمة انت يا كلنا يا قمة المجد فينا، يا بأسنا إذا اشتد البأس، يا صانع البطولة فينا وساعدنا المفتول الأسمر يقصم ظهر العدوان في ساحات النزال.
يا وجهنا المشرق يا امثولتنا الرفيعة نباهي بها الأمم، ونعلي بها الهمم.. يا ابن محمد وعلي يا ابن فاطمة ابنة محمد يا ابن الحسين اخ الحسن يا ابن السلالة الطاهرة، أيها الأمجد ابن الأماجد، طاهر من أطهار، فكل ما فيك بعض ما فيهم، حق لنا الفخر بك، إن كان من فخر، وكل فعالك تعكس بعضاً من صفاتك، وليس لمن في قلوبهم مرض إلا أن يحسدونا عليك… فكل ذي نعمة محسود.. وإلا أن يمكروا بك إظهاراً للحقد المدفون في أعماقهم بالشماتة يحسبون أنهم باستشهادك يتخلصون من حضورك، غافلين عن قول الله تعالى ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ..﴾ وأنك باستشهادك تصبح أكثر حضوراً، وحضورك أكثر بركة وإشراقاً ونوراً.. ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ فها هي المقاومة اليوم أكثر قوة وأشد ظهورا.. فالأمم بقادتها الاحياء وبشهادتهم يُكتب لها الخلود والبقاء كجذور الشجر تمدها بأسباب البقاء، وهي مدفونة تحت التراب.. والشهداء احياء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم التي يشرقون بها علينا، يضيئون لنا عتمة الطريق ويبددون لنا ظلام الليل البهيم. فطبتم وطابت الأرض التي فيها دفئتم، وبوركتم وبوركت الارحام والاصلاب التي انجبتكم.
فلا خير في أمة يخاف رجالها رحيل الشهداء.. فالشهداء أعظم خيرها بعد الإيمان، فهو من نافلة القول إذ لا شهادة من دون قضية حق، ولا قضية حق من دون الإيمان، وهو خط الأنبياء والصالحين لأن خطنا يبدأ بالتضحيات وينتهي بالشهادة للحق، كما قال إمام المقاومة الإمام السيد موسى الصدر.
هذا الخط الذي قادَتُه شهداء، ونبيُّه شهيد وأئمته شهداء، وأنت التحقت بهذا الركب وبهذه القافلة، وما قلته فيك أقوله برفيق دربك السيد هاشم، وأنا من عرفكم عن قرب، منذ أن كنا طلاباً في حلقات الدرس نتزود من أساتذتنا الكبار.. ننهل من مَعِين علمهم ونأخذ من أخلاقهم وسلوكهم وسيرتهم، سواء في النجف الاشرف أو قم المقدسة… منهم الذين سبقوا إلى نيل الشهادة وتركوا الدنيا وزينتها ومفاخرها وبهارجها، وعلى رأسهم المرجع الكبير مفخرة العلم والعلماء الإمام المجدد من شهد له أهل العلم والمعرفة من غير ملته بالنبوغ والعبقرية في الفلسفة والأصول والفقه والرياضيات آية الله العظمى المجدد محمد باقر الصدر من خَتَم مسيرته بالشهادة، الذي أنقذ الأمة بفكره المبدع بعد أن كادت أن تضل وتضيع، وكذلك الكثير من العلماء الأعلام والمراجع العظام والأساتذة الكبار.
وقد ألهبت وألهمت وأججت ثورة الإمام الخميني (قدس سره) المشاعر الثورية لدى الكثيرين من ابناء الأمة، ومنهم السيدان الشهيدان، بعد الإمام السيد موسى الصدر والامام المرجع السيد الشهيد محمد باقر الصدر، ودفع بهما إلى التمسك بهذا النهج تأثراً بأستاذنا الشهيد السيد عباس الموسوي طاب ثراه، حتى قُدِّر لهما أن يمسكا بقيادة المقاومة، واحداً بعد استشهاد الآخر، على إثر السيد الشهيد عباس الموسوي بعد مسيرة من الجهاد والمقاومة التي أعطاها سماحة السيد نصر الله دفعاً قوياً وحقق انتصاراتها المشهودة، تعاونه ثلة من المخلصين من إخوانه وغير المسبوقة في التاريخ العربي والإسلامي، والتي لم يستطع العالم المستكبر، وعلى رأسه الغرب الكافر تحملها.. ما زاد في حنقهم وخوفهم كانت ارتدادات هذه الانتصارات في العالم العربي والإسلامي، ما دفعهم إلى الانتقام بسلسلة من التشويه والتضليل وافتعال الفتن بين الشعوب العربية والإسلامية وإشغالهم بأنفسهم عن مواجهة الخطر الحقيقي الذي يمثله الغرب على وجود الأمة ومصالحها وقضيتها الأساسية، وهي القضية الفلسطينية التي تذبح الان بغفلة من الامة، حتى أصبح الخطر يتهددهم جميعا.
إن المنازلة اليوم التي تمثل المقاومة فيها رأس حربة الأمة، هي منازلة الإيمان كله مع الكفرِ كلِّه، يحاولُ فيها الكفرُ المراوغة والتضليل من جديد عبر ما يسميه بمبادرة ترامب، وهي ليست الا محاولة لفرض الاستسلام على الامة، وليس على المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني فقط.. وقد عبر الرئيس الأمريكي عن إرادته بفرض الاستسلام في مرحلة سابقة عند عدوانه على الشعب اليمني وعند عدوانه على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولكنه فشل في كلتا الحالتين، وها هو يكرر محاولته مجدداً على الشعب الفلسطيني بعد اتضاح خداعه الدول العربية التي حاول اتخاذها ستاراً لها، بعد إعطاء رئيس وزراء العدو الحق في تعديل ما اتُّفق معهم عليه.. ولا يجوز أن تمرّ هذه الخديعةُ بالضغط على المقاومة لتمريرها، بل بمساندة المقاومة لإفشال هذه المحاولة من جديد، كما أُفشِلت مع اليمن وإيران.. ﴿ولَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾.. ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾، ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
إن مصير هذه المواجهة ستقرر مستقبل الأمة اليوم، فإما أن يكتب لها الاستمرار، وإما لا سمح الله تكون الهزيمة والخروج من التاريخ… ولذلك لا مجال للاستسلام والتراجع، وتتأكد اليوم الحاجة إلى تعاون عربي اسلامي لرسم استراتيجية موحدة تخرج الأمة من هذا الانكشاف.
ومن المؤسف أن الحكومة اللبنانية التي من أولى واجباتها كأي حكومة، خدمة شعبها ورعايته، وخصوصاً في الظروف التي يمر بها، وتضميد جراحه بعد الحرب ومساعدته في إعادة بناء ما هدمه العدوان. لكنها لم تلحظ ذلك في الميزانية التي أعدتها، في الوقت الذي قدم شعبنا كل هذه التضحيات من أجل دفع العدوان وحماية سيادته وكرامته، بل تصمت صمت القبور عن اعتداءاته واغتيالاته اليومية كما أنها لم تحقق إنجازاً محسوساً يُحسب لها، وخصوصاً على صعيد ما تعهّدت به في بيانها الوزاري من تطبيق القرار ۱۷۰۱ وتحرير الأرض ووقف العدوان، وما زال الشهداء يرتقون بفعل الغدر الصهيوني والإخلال المستمر بالاتفاق، ولكنها بدلاً من ذلك تصرُّ على الإذعان وتلبية مطالب رعاته وترك الحرية لهم يتدخلون في الشاردة والواردة، وإملاء المطالب، ومنها التضييق على اللبنانيين ومصادرة أموالهم، بدلاً من تسهيل أمورهم، وخصوصاً في هذه الظروف الصعبة التي يمرون بها. فهل سمعتم أن سلطة تمنع دخول الأموال لمواطنيها، ثم تعنْوِنُ ذلك بعنوان تبييض الأموال، لتبرّر مصادرتها.. فأي خدمة تقدمها لشعبها، أم هي حكومة ضد شعبها وتنفذ أجندة سبق وأن تعهدت بها، كما هي أجندة نزع السلاح، ثم يقتصر دورها على افتعال الأزمات على أمور تافهة وتصنع منها بروباغندا إعلامية لتغطي على ذلك.
وللأسف فإن بعض القوى السياسية يتماهى معها في الإبداع بخلق توترات داخلية، كما يصنعون اليوم في تعطيل التشريع في المجلس النيابي، بدل أن يذهبوا إلى الاهتمام بتطبيق اتفاق الطائف الذي يزيل كل هذه الذرائع، خصوصاً أولئك الذين وقعوا اتفاق الطائف وأصبح دستوراً للبلاد. لذلك نحن ندعو إلى الإيفاء بعهودهم والالتزام بتواقيعهم، أم أن الدستور أصبح لديهم إلهاً من تمر، يأكلونه كلما جاعوا؟.
رحمك الله أيها السيد الشهيد، فقد كنت القائد الملهم الذي لن تكون شهادتك مع السيد هاشم وكل الشهداء، إلا مجداً تكتبه لمستقبل الأمة بعد أن كتبته في حياتك على هدي الإمام موسى الصدر والإمام المرجع الفذ الخميني(قده) والإمام محمد باقر الصدر قدست أسرارهم جميعاً.
في أمان الله أيها السيد السيد في جنان الله شهيداً فتقبل اللهم منا هذا القربان
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته…
