إقليميات

تحولات بالاستراتيجيات الدفاعية العربية واللجوء إلى “المظلة النووية”

بقلم زينب عدنان زراقط

من مبادرة ترامب لوقف إطلاق النار إلى بروز “ناتو إسلامي” محتمل، مروراً بتسريبات تقنية تفتح أبواب سباق تسلح جديد، ومؤشرات على تراجع هيمنة البترو/دولار لصالح الصين. فهل نحن أمام شرق أوسط متعدد الأقطاب أم فوضى استراتيجية تسبق الانفجار؟.

في ذكرى الحدث الاستثنائي الذي غيّر موازين سياسية عِدّة حول العالم وشكّل مُفترق طُرقٍ، عامان مضيا على طوفان الأقصى وحرب الإسناد من أجل “غزة”، انكشف خلالُهما إجرام الجيش الإسرائيلي المُحصّن بالدعم الأمريكي الكامل، وعلت مظلومية الشعب الفلسطيني ليصدحَ بها جميع “شعوب” العالم. بينما العدو الصهيوني بقيادة “نتنياهو” خطرٌ مُحتمل التفشي لا يمكن أن يؤمن جانبه، محور المقاومة في حالة تأهّب واستعداد والعرب نحو توازُنات إقليمية جديدة.

كذلك الوجود العسكري الأمريكي المتزايد في البحر المتوسط، والحماية السياسية المطلقة لإسرائيل في الحرب والسلم، ما يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت واشنطن تدفع نحو مواجهة محدودة تُعيد ترتيب المشهد الإقليمي، أم أنها تحاول فقط احتواء التصعيد دون تفجيره. ومع ذلك، تبقى احتمالية سوء التقدير واردة، وقد تفتح الباب لانفجار يصعب ضبطه.

ولادة “الناتو الإسلامي” وكسر البترو/دولار

سبق خطوة ترامب، خطوة لافتة من المملكة العربية السعودية وباكستان في 17 سبتمبر 2025، بتوقيع اتفاقية دفاع مشترك تنصّ على أن أي اعتداء على أحد البلدين سيُعتبر اعتداءً على الآخر.

الاتفاق، الذي يُعدّ الأول من نوعه بين دولتين محوريتين في العالم الإسلامي، أثار اهتماماً دولياً لما له من تداعيات على التوازنات العسكرية والإقليمية. فقد لجأت السعودية إلى باكستان كونها الدولة النووية الوحيدة في العالم الإسلامي. علاوة على ذلك، فإن باكستان لم توقّع على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية (NPT)، ما يمنحها هامش مناورة أوسع لتقديم “مظلة نووية” لحلفائها دون الالتزامات المقيدة للمعاهدة. هذا التحالف يأتي وسط توترات إقليمية متصاعدة، وخصوصاً بعد تصعيد المواجهة في غزة، وتحركات إسرائيلية في البحر الأحمر والخليج، ما أعاد للأذهان فكرة التكتلات الأمنية كضرورة استراتيجية للردع والدفاع الذاتي.

هذا الانزياح الخليجي نحو شراكات دفاعية أو اقتصادية تربط سعر النفط بعملات أو أنظمة دفع أخرى سيضرّ برمز القوة الأمريكية “الدولار” وبالامتيازات الاقتصادية والسياسية المرتبطة به. من زاوية ترامب، الذي يُنظر إليه كرجل أعمال وحارس للمصالح الاقتصادية الأمريكية، كانت هذه قراءة كافية للاستنفار السياسي والاقتصادي.

ما هي الرسائل من وراء هذه المبادرة؟

1- ترسيخ الردع وتوسيع الحماية: الاتفاق يُشكّل إشارة إلى أن السعودية تبحث عن مظلة دفاعية موازية، أو مكملة، تحسباً لاضطرابات أمنية محتملة في المنطقة دون الاعتماد على الحماية الأمريكية.

2- البعد النووي: أورد تحليل لرويترز أن السعودية ربما تطمح إلى ما يشبه مظلة نووية من باكستان، هناك تأكيد ضمني من الجانب الباكستاني أن بعض القدرات قد تُتاح للسعودية تحت الاتفاق، بما في ذلك قدرات الردع التي قد تشمل عنصراً نووياً من منظور ردع شامل. هذا يجعل اتفاق الدفاع بمثابة أول حالة نصّ فيها طرف نووي يعبر علناً عن استعداده للاستخدام النووي ضمن تحالف مع طرف غير نووي.

3- رسالة لتحذير إسرائيل وأطراف إقليمية: بعض المراقبين يرون أن الاتفاق يُعدّ بمثابة إنذار رمزي إلى إسرائيل، مفاده أن السعودية قد تلجأ إلى تحالفات بديلة إذا تعثرت مسارات التطبيع أو التفاهم مع تل أبيب.

بناء برنامج نووي من الصفر يحتاج إلى سنوات، إن لم يكن عقوداً، إضافة إلى مليارات الدولارات، وجهود دبلوماسية لتجنّب العقوبات. لكن باكستان تملك “المنظومة الكاملة”: المعرفة، الجاهزية، القدرة على الإخفاء، وحتى السلاح. التعاون مع إسلام آباد يقدّم حلاً أسرع وأقل تكلفة سياسياً من الانخراط في سباق نووي علني.

كذلك أيضاً إنَّ التحوّل في سياسة دول الخليج تجاه الصين أصبح أكثر وضوحاً. فعلى الصعيد الدفاعي، تزايد التعاون العسكري والتقني بين الجانبين، لا سيما في مجال تقنيات المراقبة والطائرات المسيرة. أما اقتصادياً، فقد بدأت بعض دول الخليج في اعتماد اليوان الصيني في جزء من تعاملاتها النفطية، وهو ما اعتبره تقرير فايننشال تايمز “إشارة أولى إلى تآكل هيمنة البترو/دولار”، النظام الذي قامت عليه شراكة استراتيجية طويلة بين واشنطن والعواصم الخليجية.

هذه التحولات تأتي في ظل شعور متنامٍ في الخليج بأن الولايات المتحدة لم تعد الشريك الأمني الموثوق به، خصوصاً بعد ترددها في دعم بعض الحلفاء خلال أزمات إقليمية حرجة. وبما أن الصيني هو العدو اللدود لأمريكا، هذا الوضع سيجعل ترامب يستشيط غضباً، كي يقوم بمبادرة تضع حداً للدمار والفشل المتواصل الذي يُقدم عليه نتنياهو، وهي مُناوشات اتفاق غزة الذي اقترحه ترامب.

نذكر في هذا السياق، تسريباً غير مسبوق لوثائق حساسة من شركة “روستك” الروسية في الآونة الأخيرة، عبر مجموعة هاكرز تُدعى “بلاك ميرور”، كشفت فيها عقوداً عسكرية واتفاقات تسليح شملت دولاً من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. الوثائق المسرّبة، التي اطلعت عليها The Intercept، تتضمن إشارات إلى بيع منظومات تشويش إلكتروني متقدم لدول عربية بينها مصر، ضمن صفقات توقفت بفعل الحرب في أوكرانيا. ويُعتقد أن هذه التقنيات تنتمي إلى فئة الأنظمة الدفاعية التي تعتمد على الذكاء الصناعي والموجات الكهرومغناطيسية لتعطيل الرادارات والطائرات.

كما أظهرت التسريبات استخدام روسيا شبكات مالية بديلة تعتمد على اليوان والروبل والعملات الرقمية، في محاولة للالتفاف على العقوبات الغربية. هذه المعطيات تؤكد أن الحروب الحديثة لم تعد تُخاض فقط في ميادين المعركة، بل في فضاء البيانات والاقتصاد الموازي. التسريبات تذّكر بأن الحروب الحديثة ليست فقط في الميدان، بل في خطوط الأنابيب الرقمية والعقود العسكرية، حيث تُصمَّم صفقات تتجاوز ما يُعلَن عنه رسميّاً، وتعتمد على قدرات تكنولوجية سرّية للتحكّم في الحلبة العسكرية.

تحولات إقليمية مقبلة

أ‌- ستشهد منطقة الشرق الأوسط صياغة تحالفات دفاعية جغرافية تتجاوز المحيط التقليدي، وربما تشهد “ناتو إسلامي” كما أشير إلى أن بعض الدول ترغب في الانضمام إلى الاتفاق بين السعودية وباكستان.

ب‌- قد تدور مناورات مشتركة صينية روسية مع دول في الشرق الأوسط، في إطار مشاريع تقنية وسلاحيه ثنائية أو متعددة الأطراف.

ت‌- التسليح المُتزايد في دول الخليج، مع طلبات لمقاتلات متقدمة أو أنظمة تشويش متطورة تعزيزاً للردع الذاتي.

ث‌- قد تصبح الخلافات الاقتصادية العالمية، خصوصاً في العملات ونظم الدفع، ميدان صراع بين الولايات المتحدة من جهة والتحالفات الجديدة من جهة أخرى.

الأهم من كُل ذلك، إنه إعلانٌ مشروع وصريح لبدء اعتماد القوة النووية لضمان الأمن والحماية لدول المنطقة في منأىً من الحماية الأمريكية أو الاتفاقيات الإبراهيمية التي أثبتت عدم جدواها في تأمين الحماية العسكرية للدول العربية في المرحلة الأخيرة.

وفي ظل الإجرام اللامُتناهي الذي تمت مُشاهدته في حرب إسرائيل على غزة ولبنان والدعم الأمريكي المُطلق، والتدخل المُباشر بضرب المفاعلات النووية الإيرانية والإمعان باستخدام حق النقد الفيتو في الأمم المتحدة لإسقاط قرار وقف إطلاق النار على مدار سنتين في “غزة”، وعلى حذو السعودية التي لجأت لدولةٍ نووية لتحتمي بها من هذا التمرد العسكري، فلماذا لا يكون خبر الهزة الأرضية في إيران التي حدثت منذ أيام بالتزامن مع الإعلان عن التخصيب اليورانيوم بنسبة 90% هو تجربة نووية لم تخرج للعلن بعد؟.

إن المسارات التي تتّخذها الدول في هذه المرحلة ليست مجرد حركات تكتيكية عابرة، بل تشكّل لبنة في بناء نظام إقليمي جديد. – التفاصيل التقنية، العقود الدفاعية، تسريبات التكنولوجيا، التحالفات الدفاعية والاقتصادية – كلها مفاتيح لفهم كيف ستُدار موازين القوى في السنوات المقبلة.

وفي المقلب الآخر، بالنسبة للاتفاق على الخطوة الأولى من خطة ترامب من وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، ما الذي يضمن الاستمرار بالخطوات التالية؟ وهل يبقى نتنياهو دون “حرب” تشغله عن محاسبته “بقضايا الفساد”؟ وإنّ صحَّ اتفاق غزة، بكل الأحوال فإن ترامب هو الرابح الأكبر، ولكن ما هي الجبهة التالية في حسابات نتنياهو؟.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *