إقليميات

التحدِّيات الإقليمية تدفع تونس والجزائر نحو اتفاق دفاعي نوعي

بقلم توفيق المديني

ووقع رئيس أركان الجيش الجزائري الفريق أول السعيد شنقريحة ووزير الدفاع التونسي خالد السهيلي الاتفاق، خلال استقبالهما في الجزائر من قبل الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون. وذكر بيانان لوزارتي الدفاع التونسية والجزائرية أنَّ الاتفاق يُعَدُّ “محطّةً فارقةً في تاريخ العلاقات بين البلدين، وخطوةً مهمةً في مسار تعزيز العلاقات العسكرية الثنائية”.

بالنسبة لتونس، تكمن أهمية هذا الاتفاق الذي تمَّ إبرامه مع الجزائر في دفع التعاون العسكري ودوره المحوري في تحقيق الاستقرار والأمن في المنطقة، إذْ يشمل الاتفاق مجالات التدريب وتبادل المعلومات والخبرات، وتكثيف التنسيق الثنائي وتعزيز العمل المشترك والتعاون الميداني في مجال تأمين الحدود.

تونس والجزائر بلدان ينتميان إلى فضاء عربي – إسلامي واحد، هو العالم العربي، والأمة العربية، ولا ينفكان يتغنيان بالروابط المشتركة بينهما: اللغة العربية، والدين الإسلامي(المذهب المالكي)، والتاريخ المشترك منذ الفتح العربي – الإسلامي، والجغرافيا الواحدة، والعادات والتقاليد والخصائص النفسية المشتركة، والعلاقات المتميزة التي اكْتَسْتْ طابعاً استراتيجياً تجلى في القواسم المشتركة، وفي مسارات الحوار المتواصل والتنسيق البنّاء بين قيادتي البلدين، وهي كلها عوامل تشجع على مواجهة التحدّيات الأمنية والمخاطر التي تهدّد استقرار منطقة المغرب العربي من مصر إلى المغرب وموريتانيا، لا سيما خطر مخطط الكيان الصهيوني والإمبريالية الأمريكية الذي يستهدف  إسقاط الدول الوطنية العربية الواحدة تلو الأخرى التي ترفض الانخراط في سياسة التطبيع مع العدو الصهيوني وتصفية القضية الفلسطينية،  وأخطار أخرى مثل الإرهاب والاتجار بالبشر والهجرة غير النظامية والتهريب والجريمة المنظمة العابرة للحدود.

التحديات الصهيونية والأمريكية

شكّلت حرب الإبادة الجماعية الأمريكية – الصهيونية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزَّة المستمرة منذ سنتين، تداعيات استراتيجية خطيرة في إقليم الشرق الأوسط  لجهة بناء نظام شرق أوسطي جديد بقيادة الكيان الصهيوني الذي يعيش مرحلة جديدة من العلاقة بالإقليم بعد سقوط النظام السوري، وتبجحه بإنشاء دولة “إسرائيل الكبرى”، على الرغم من وجود محور المقاومة بقيادة إيران وحزب الله في لبنان، والحوثيين” في اليمن وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، فضلاً عن إبرام هذا الكيان الاتفاقات الإبراهيمية مع أربع دول عربية منذ سنة 2020، (الإمارات، البحرين ، السودان، المغرب)، والأخرى في الطريق، وهو ما أوجد حالةً غير مسبوقة من تموضع الدول والحكومات العربية، مقارنةً بالعقود السابقة، لا سيما في ظل هيمنة السياسة الاستسلامية للدول المركزية تقليدياً في النظام الإقليمي العربي، مثل مصر وسوريا الجديدة، في مقابل صعود دور إقليمي لدول الخليج العربي، أو ما أصبح محلّلون سياسيون يطلقون عليه “الشرق الأوسط الجديد” (الثري والاقتصادي والبعيد عن المشكلات الإقليمية التاريخية)، في مقابل الشرق الأوسط القديم الذي تعشش فيه الأزمات والصراعات التاريخية والكبرى، هذه التداعيات الاستراتيجية الخطيرة، هي التي أمْلَتْ على قيادة البلدين في كل من تونس و الجزائر على إبرام اتفاقِ دفاعٍ عسكريٍّ مشتركٍ لمواجهة التحديات الصهيونية.

ففي منطقة المغرب العربي، هناك النظام المغربي المتحالف استراتيجياً مع الكيان الصهيوني، الذي يعتمد تاريخياً استراتيجية التطويق والمحاصرة الإقليمية للجزائر من أجل زعزعة استقرارها والنيل من وحدتها الوطنية، إ ِذْ أظهرتْ الأعمال العدائية الأخيرة، لا سيما فضيحة تجسس برنامج بيغاسوس الإسرائيلي، أنَّ الجزائر أكبر مستهدف من هذا البرنامج، وفق ما كشفه التحقيق الدولي في هذا الشأن، إذْ من بين 50 ألف شخص تعرضوا للتجسس، يوجد 6 آلاف جزائري، بينهم شخصيات سياسية وعسكرية وصحفيون ورجال أعمال. وبحسب ما ذكرته جريدة لوموند الفرنسية التي كانت أحد أطراف هذا التحقيق، فإن الجزائر كانت مُراقبة عن كثب من قبل السلطات المغربية التي اقتنت برنامج التجسس الإسرائيلي.

فقد اختار المغرب طريق الاستقواء بأمريكا، والتطبيع مع الكيان الصهيوني، لفرض الطرح المغربي المتمثل بالحكم الذاتي في الصحراء الغربية في إطار المحافظة على مغربيتها من حيث السيادة الوطنية. فكانت مبادرة ترامب في نهاية فترة ولايته الاعتراف بسيادة المغرب على كامل أراضيه المسترجعة وتأييد مبادرة الحكم الذاتي، قد شكلت للمرَّة الأولى، ترجيحاً لكفة المغرب في نزاع الصحراء، وكسراً لقاعدة التوازن التي كانت تسلكها الإدارات الأمريكية المتعاقبة بهذا الشأن. وشكَّلَ فتح قنصلية أمريكية في مدينة الداخلة بمنزلة اعتراف أمريكي ملموس بالطرح المغربي، وفي الوقت نفسه تكريساً للمغرب كبوابة لأمريكا في الانفتاح الاقتصادي والتجاري على الدول الإفريقية، مما سيساهم بلا شك، في حلحلة ملف الصحراء الذي ظلّ يراوح مكانه لصالح المغرب.

وفضلاً عن ذلك، كانت الجزائر ممتعضةً جداً من سياسة التطبيع التي ينتهجها المغرب مع الكيان الصهيوني، فقد دانتْ الجزائر قرار التطبيع الذي يُعَبِّدُ الطريق لوصول الكيان الصهيوني قرب الحدود الجزائرية، في ظل التباين الكبير واتساع المسافة بين المواقف والخيارات السياسية لكل من المغرب والجزائر وتونس، خصوصاً في مجال التطبيع مع الكيان الصهيوني، والموقف من حرب الإبادة الجماعية في غزَّة وتصفية القضية الفلسطينية، والتغلغل الصهيوني في القارة الإفريقية.

من منظور الرؤية الوطنية والقومية، تُعَدُّ الجزائر وتونس من الدول العربية القليلة اللتين ترفضان التطبيع مع العدو الصهيوني، وتعملان من أجل بناء محور إقليمي مغاربي مقاوم للسياسات الصهيونية والأمريكية المعادية التي تستهدف إسقاط الدول الوطنية في الإقليم، في حين تخلى المغرب عن قواعد ومبادئ إعادة بناء وحدة المغرب العربي الكبير، لا سيما حين جعلت  المملكة المغربية من ترابها الوطني قاعدة استراتيجية صهيونية خلفية ورأس حربة لتخطيط وتنظيم ودعم سلسلة من الاعتداءات الخطيرة والممنهجة من أجل تفكيك الدولة الوطنية الجزائرية.

وهذا ما جعل قائد الجيش الجزائري الفريق السعيد شنقريحة مع وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي، حين تم توقيع اتفاق الدفاع العسكري، يقول: إنَّ “التحديات الأمنية والاقتصادية والجيوسياسية التي تواجه منطقتنا تفرض علينا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، تعزيز العمل المشترك وفق رؤية متكاملة ومتبصّرة ترتكز على الحوار والتنسيق وتبادل الخبرات والممارسات الفضلى في ميادين الاهتمام المشترك بين البلدين”، مشيراً إلى أنَّ “الجزائر تحرص على تعزيز علاقاتها الثنائية مع تونس في شتى الميادين، لاسيما في مجالي الدفاع والأمن، لأننا نؤمن في الجزائر بأن أمن بلدينا واستقرارهما يحتاجان إلى أعلى مستوى ممكن من التنسيق والتشاور”.

وتتشارك الجزائر وتونس شريطاً حدودياً مشتركاً يقارب الألف كيلومتر، وسبق أن تعاونتا في مجال محاربة الإرهاب وملاحقة نشاط تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، الذي كان ينشط في المناطق الجبلية المتاخمة للحدود. كما تتشاركان حدوداً بحرية تفرض تنسيقاً أمنياً وتعاوناً كبيراً، خصوصاً في ظل التطورات المتلاحقة. ولم يُكشف عن تفاصيل الاتفاق، لكنَّه قد يشمل تعاوناً في مجالات التسليح والتدريب والإشارة والمعلومات والمناورات المشتركة. وخلال حوارات تلفزيونية سابقة، أكد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أنَّ “أمن تونس من أمن الجزائر”، وأنَّ “الأمن بين البلدين مسألةٌ مترابطةٌ، فما يمس تونس يمس الجزائر”.

الاتفاق العسكري بين الجزائر وموريتانيا

قبل توقيع الاتفاق العسكري مع تونس مؤخراً، وقّعت الجزائر وموريتانيا اتفاقاً جديداً للتعاون العسكري في مجال الدفاع، يسمح لجيشي البلدين بالتعاون وتنسيق الجهد الأمني والعسكري في مجال تبادل الخبرات وتكوين الكوادر العسكرية وتأمين الحدود البرية وخطوط التجارة بين البلدين.

وجاء توقيع الاتفاق في نيسان/أبريل 2025، بين رئيس أركان الجزائري نائب وزير الدفاع الوطني، الفريق أول السعيد شنقريحة، ووزير الدفاع الوطني الموريتاني حننه ولد سيدي ولد حننه، على هامش زيارة يقوم بها ولد حننه إلى الجزائر، لبحث التطورات الأمنية في منطقة المغرب العربي وبلدان الساحل، ومناقشة قضايا وعلاقات التعاون العسكري بين البلدين.

وقال شنقريحة خلال اللقاء: “نؤمن في الجزائر أنَّ أمن بلدينا واستقرارهما يحتاجان إلى أعلى مستوى ممكن من التوافق والتنسيق والتشاور، والجزائر وموريتانيا، بحكم الروابط الجغرافية التي تجمعهما، يتقاسمان نفس الطموحاتِ ونفس التحدِّياتِ”، مُشَدِّداً على الأهمية الاستراتيجية التي تكتسيها العلاقات الجزائرية – الموريتانية، والدور المحوري الذي يلعبه هذا التعاون في استقرار المنطقة ككل”. ويتضمن الاتفاق العسكري التخطيط لتسيير دوريات مشتركة على طول الحدود بين الجزائر وموريتانيا، وخلق إطار دائم للتشاور وتبادل المعلومات والخبرات بين الطرفين، من خلال اجتماعات دورية مخصصة للحوار العسكري الموريتاني الجزائري، وعبر سلسلة الزيارات واللقاءات الدورية بين قادة القطاعات والمناطق العسكرية”.

ويُعتقد أن تكون هذه الدوريات المشتركة ذات صلة بتعزيز مقومات الأمن على الحدود، وتأمين مسالك التجارة بين البلدين، خاصة مع قرب إطلاق الطريق البرِّي تندوف الجزائرية – الزويرات الموريتانية، على مسافة 700 كيلومتر، وتأمين منطقة التبادل التجاري الحر التي افتتح إنجازها الرئيسان تبون والغزواني في فبراير/ شباط 2024، إضافة إلى تأمين أنشطة شركة “سوناطراك” الجزائرية للتنقيب عن النفط والغاز في موريتانيا، وفقاً لاتفاقات وُقّعت في يونيو/ حزيران2024.

تونس والحاجة إلى تنمية إقليمية مع الجزائر

على الرغم من الإنجازات التي حققتها الثورة التونسية في مجال الحرِّيات، وعملية التحول الديمقراطي، فإنَّ الإنجاز الأهم الذي كان الشعب التونسي ينتظره ولا يزال، والمتمثل في تحول الدولة الوطنية من موقع خاضع للسيادة الرأسمالية المعولمة إلى موقع متمرد عليها، يبدو بعيد المنال، لأنَّ النخب الحاكمة حالياً ليس على جدول أعمالها  إنجاز ثورة تاريخية قادرة على الانعتاق من السيطرة الأمريكية – الأوروبية، من خلال بلورة نموذج جديد للتنمية المستدامة  بوصفه الطريق الأمثل الذي يجب على تونس أن تتبناه من أجل بناء اقتصاد السوق الاجتماعي ، أو العولمة العادلة التي تخدم مصالح الطبقات الشعبية الفقيرة ، وتعمل على ترقية الاقتصاد  التونسي و تأهيله، و تثبيته بصورة ناضجة على مسار العولمة.

لقد عبَّر الجزائريون عن تضامنهم مع الشعب التونسي على إثر العمليات الإرهابية التي تعرضت لها البلاد التونسية خلال السنوات الماضية، وأسهمت في ضرب السياحة التي تُعَدُّ مصدراً للعملة الصعبة للاقتصاد التونسي، إذ يزور أكثر من مليوني سائح جزائري تونس كل صيف، للحجز في فنادقها، ومعظمهم في سوسة والمنستير ونابل والحمامات وجربة وتونس العاصمة.

واستمر قدوم هذا العدد الكبير من السياح الجزائريين خلال السنوات القليلة الماضية. وبهذا الموقف التضامني، يكون المواطنون الجزائريون قد تجاوزوا “الحدود المصطنعة” بين الدولتين التونسية والجزائرية التي رسمها الاستعمار الفرنسي، على الرغم من مرور أكثر من ستين عاماً من الاستقلال للبلدين، وتنوع النظامين، واختلاف المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهزيمة “القومية العربية”، وضعف “التضامن العربي”.

وكانت الدول المركزية الثلاث (تونس، الجزائر، والمغرب) تعتقد أنَّ حل المشكلة الاقتصادية يتطلب النظر شمالاً نحو أوروبا، حيث أنَّ 70% من الصادرات تذهب إلى أوروبا، و60% من الواردات تأتي من أوروبا. كما تقوم السياحة بالدرجة الأولى على الفرنسيين والإيطاليين والإسبان، وبدرجة ثانية على سائر الأوروبيين، وثالثة ورابعة على العرب الخليجيين.

من الملاحظ أنَّ الدولتين التونسية والجزائرية شديدتا المركزية حول العاصمتين تونس والجزائر، بل إنَّهما تسميان باسم هاتين العاصمتين. وكان الإفراط في المركزية في السياسة والتنمية أيضاً أدَّى إلى جعل المحافظات الداخلية، ولاسيما الحدودية في البلدين كليهما “أطرافاً” هامشية وضعيفة التنمية، وبالتالي ازدهرت أنواع التهريب المختلفة في المحافظات الحدودية، والتهريب حاضنة أساسية للحركات الإرهابية.

خاتمة

   إنَّ تونس والجزائر اللتين تواجهان تداعيات حرب الإبادة الأمريكية الصهيونية على قطاع غزَّة، وأزمات اقتصادية خانقة، وإخفاق تنموي حقيقي بالنسبة للمحافظات الداخلية وعلى الحدود بين البلدين، تحتاجان إلى استراتيجية إقليمية متكاملة للتنمية، تقوم على طرح بناء سوق مشتركة بين البلدين أو أي نوع آخر من التعاون، لا سيما في مجال حرِّية تنقل رؤوس الأموال، وحرِّية إقامة المشاريع الاستثمارية. وبما أنَّ الجزائر تمتلك أكثر من كمية كبيرة من مليارات من الدولارات متأتية من عائدات النفط والغاز، فإنَّه بإمكانها أن تصرف هذه الأموال لإقامة مشاريع التنمية وتحقيق العدالة الاجتماعية داخل الجزائر لمعالجة الفوارق التنموية بين مناطق البلد الواحد بشكل حاسم، وإقامة مشاريع تنموية في المحافظات التونسية – الجزائرية المشتركة، تُزِيلُ الفوارق الإقليمية بين تونس العاصمة والمدن الداخلية والحدودية، وتَحُدُّ من الهجرة المتجددة من الأرياف التونسية باتجاه تونس وسوسة وصفاقس، وانتشار الأحياء غير النظامية، التي أصبحت مرتعا للجماعات الإرهابية.

 فمن يريد حل مشكل البطالة في كل من تونس والجزائر، وبالتالي حل مشاكل العاصمتين المكتظتين بالسكان، عليه أن يتبنى استراتيجية إقليمية للتنمية، بوصفها الاستراتيجية الحقيقية المطلوبة في عصر العولمة الليبرالية، القادرة على إقامة بنى تحتية متطورة تربط بين العواصم والمدن الداخلية والحدودية بعضها ببعض، وتفسح في المجال لولادة أقطاب تنموية أساسية في كل من تونس و الجزائر خارج نطاق العاصمتين، كما هي الحال عليه في كل من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي يتطلب تغييراً جذرياً في نمط إدارة الدولة والمجتمع، بين المركز والأقاليم، أي نحو تحقيق اللامركزية السياسية والإدارية، أي تطوير الديمقراطية التشاركية عبر خلق المجالس المحلية في المحافظات الداخلية والحدودية لكي تتمتع بسلطات حقيقية، والانفتاح المحتوم للحدود بين البلدين، يتيح حرِّية تنقل السلع ورأس المال والمواطنين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *