الشّائعات في المعنى والدّور والوظيفة وآليات المواجهة
نبيل علي صالح باحث وكاتب سوري
مع تزايد مواقع التواصل الاجتماعي، وتزايد مقدرة الإنسان على الوصول السهل والآمن للمعلومات، وتزايد الإمكانات العلمية لبث الأخبار ونشر الحوادث والوقائع والتحليلات بمختلف أشكالها وأنواعها، تتزايد معها على نحو واسع القدرة على افتعال الأحداث وفبركة الوقائع والأخبار ونشر الشائعات التي قد تلعب دوراً كبيراً وشاملاً ومؤثراً في موضوع الحروب النفسية بما قد يؤدي إلى هز ثقة الناس والمجتمعات ببعضها بعضاً، وزعزعة أمنها واستقرارها..
فنشر الشائعة بات أمراً سهلاً وميسوراً للغاية، إذ يكفي – على سبيل المثال – حجز منصة تفاعلية إلكترونية والتعاقد مع مختصين (أو حتى بدون ذلك)، للبدء في بث القلاقل ونشر الأكاذيب والشائعات وتخويف الناس وتأجيج الصراعات.. وهذا يحدثُ في كل المجتمعات تقريباً، ولكن تتفاقم خطورته أكثر فأكثر في المجتمعات الضعيفة التي تتداخل فيها الأفكار والعقائد والأيديولوجيا، وتنتشر الخلافات والانقسامات الاجتماعية والسياسية..
وليس جديداً القول هنا بأنّ استخدام الشائعات كسلاح سياسي واقتصادي واجتماعي كان قائماً منذ زمن طويل، ولكن الذي اختلف عن الماضي هو آليات تحقيق الشائعة وأدواتها فقط.. حيث بقيت عملية بث الأخبار المزيفة جزءاً أساسياً من حملات الدعاية والحروب النفسية عبر عقود، ولكن تكتسب الشائعات عبر مواقع التواصل قوة وزخماً جديداً في ظل عوامل رئيسية، أهمها: اتساع نطاق الانتشار بما قد يمتد للعالم أجمع، وسهولة تجهيل مصدر الشائعة وإطلاقها، خاصة مع انتشار الحسابات الوهمية التي قدّر فيسبوك عددها بنحو 83 مليون حساب عام 2012م، إلى جانب إمكانات الانتشار السريع عبر الشبكات الاجتماعية (يبلغ عدد مستخدمي فيس بوك مثلاً حوالي 2,9 مليار إنسان)، وكذلك توافر أدوات وبرامج تزييف الصور وفبركة الفيديوهات التي تضفي حبكة محكمة على محتوى الشائعة تساعد في انتشار الفيديوهات الكاذبة التي تكون جزءاً أو شكلاً من أشكال الشائعات.
والشائعة لا تعني فقط نشر الأخبار والأفكار الكاذبة، بل هي وسيلة وأداة فاعلة لتغيير وعي الناس واتجاهات رؤيتها وسلوكيات أفرادها من خلال التلاعب بمشاعر الخوف والتخويف عندها أو حتى مشاعر الأمل أو الغضب.. ويعرف المفكر “رالف روزنو” الشائعة من حيث أنها عبارة عن نشر معلومة غير مؤكدة تنتقل من شخص إلى آخر دون التحقق من صحتها، وعادةً ما تلعب على وتر العواطف والمخاوف الجماعية.
وأما عن أنماط الشائعات وأشكالها، فهناك الشائعة التخويفية التي تهدف إلى بث حالة من الذعر والقلق داخل المجتمع.. والشائعة التحريضية التي تُستخدم لإثارة الصراعات بين الجماعات أو لخلق انقسامات سياسية.. والشائعة التبريرية التي تهدف إلى خلق أمل زائف عند الجماهير لتوجيه انتباههم بعيدًا عن الأزمات الحقيقية..
إن الغرض الأساسي من إشاعة أجواء الشائعات يكمن في:
1- تفكيكُ الثقة بالمؤسسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الخاصة بهذا البلد أو ذاك.. حيث يمكن أن تفضي عملية نشر الأخبار الكاذبة المفتعلة إلى تقويض شرعية الحكومات والأنظمة الاقتصادية والإعلامية.
2- تفجيرُ المجتمعات بالفوضى والاضطرابات، حيثُ يمكنُ أنْ ينتجَ عن نشر شائعة ما – تتعلق مثلاً بدين أو طائفة ما – إلى تفجير واندلاع أعمال عنف وتمردات شعبية، طبعاً بناءً على معلومات زائفة..
ومع وجود خلفية نفسية لدى أي إنسان، تتمثل في أنه يميل إلى تصديق أية معلومة تثير مشاعره الدفينة، حتى وإن كانت مغلوطة وغير صحيحة، نجد أنه من السهولة بمكان أن تنفذ الجماعات النشطة من خلال هذه الآليات النفسية إلى داخل شخصية الإنسان، لتتلاعب بها، وذلك من أجل تحقيق الهيمنة والسيطرة، ودفعه للإيمان بما تنشره من شائعات وأكاذيب، فيتحقق غرضها، وتصل إلى غايتها.
وهذا ما نلاحظه مثلاً من خلال التركيز والتكرار الإعلامي الهائل على خبر بعينه، قد لا يكون صحيحاً، حيث يتم بثه وتكراره في مختلف وسائل التواصل وبشكل متواصل لكي يصبح أكثر إقناعاً ومقبولية لدى الغالبية من الناس الذين يميلون للتصديق بطبيعة الحال، فمن يبث الشائعة يعلم بأنه يستهدف مشاعر الناس، ويعزف على وتر مخاوفها، بما يدفعها دفعاً للتصديق كما قلنا.. وهذا ما يخلق الانقسامات أكثر فأكثر خاصة في البلدان التي تعاني أصلاً من أمراض مجتمعية، وتتعد فيها الانتماءات الاجتماعية والجهوية والتنوعات والطائفية والدينية والاتنية..
إنّ مواجهة الشائعات لا تكون سوى بالعلم والمعرفة وتعزيز أسس الوعي النقدي المسؤول، ورفع مستوى المهارات العقلية عند الناس.. وذلك من خلال:
1- تعليم الأفراد كيفية تحليل الأخبار وتحديد مصادرها قبل تصديقها أو مشاركتها.
2- التحقق من الأخبار عبر مصادر رسمية وموثوقة وليس عبر وسائل التواصل الاجتماعي فقط.
3- استخدام منصات التحقق من الأخبار لكشف المعلومات المزيفة..
4– الاستفادة من برامج وتطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تعتمد على خوارزميات متطورة لتحليل المعلومات ورصد الأخبار المزيفة بشكل فوري وأوتوماتيكي وأكثر سرعة من مجموعات رصد المعلومات المزيفة التقليدية.
5- مطالبة وسائل الإعلام بتقديم أدلة واضحة عند نشر الأخبار المثيرة للجدل.
6- تعزيز الصحافة الاستقصائية لكشف الحملات الدعائية والشائعات المنظمة.
7- تجريم نشر الأخبار الكاذبة التي تهدف إلى زعزعة الأمن الاجتماعي.
8- الاستفادة الفاعلة من مراكز التحكم في الشائعات، وهي عبارة عن مواقع رصد أومراصد مزودة بالتقنيات والتطبيقات التقنية اللازمة لمتابعة الفضاء السيبراني ورصد الشائعات، خاصة في فترات الأزمات والطوارئ. وقد أشار الباحث أونوك من جامعة ورك البريطانية في دراسته حول “انتشار الشائعات على وسائل التواصل الاجتماعي” إلى أهمية تلك المراكز لدحض التضليل، وتزويد المواطنين في الوقت المناسب بالمعلومات الصحيحة من خلال قنوات الإعلام والتواصل المختلفة، مثل: مواقع الإنترنت، والشبكات الاجتماعية، وخدمات التغذية الفورية، والبريد الإلكتروني، والرسائل الهاتفية، فضلاً عن وسائل الإعلام التقليدية، وهي التغذية المتدفقة التي تمثل تيارًا مضاداً يحاصر انتشار الشائعات ويمنع تداولها، مشيراً إلى الدور الإيجابي الذي لعبه مركز التحكم في الشائعات التابع للوكالة الأمريكية الاتحادية لإدارة الطوارئ خلال إعصار ساندي.
وبعودة للتاريخ الإسلامي، نجد أن من واجب الفرد المسلم –إذا ما بلغه أمر ما لا يعي مضمونه ولا يعلم خفاياه ولم يصله من مصدر موثوق- أن لا يقوم بنشره وإشاعته، فقد يكون كذباً وبهتاناً وتضليلاً.. بل يجب عليه أن يدقق ويتقصى حوله.. أي عليه أن يراقب الله في تصرفاته ووعيه وعمله، فلا يشيع خبراً، ولا يسيء ظناً، ولا يهتك عرضاً، ولا يصدق فاسقاً.. وأن يطلب البرهان والتثبت.. وهذا ما ذكره القرآن الكريم: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا﴾[النساء/83]، والمعنى: وإذا جاءَ هؤلاء -الذين لم يستقر الإيمان في قلوبهم- أمْرٌ يجب كتمانه متعلقاً بالأمن الذي يعود خيره على الإسلام والمسلمين، أو بالخوف الذي يلقي في قلوبهم عدم الاطمئنان، أفشوه وأذاعوا به في الناس.. ومعنى قوله: ﴿يستنبطونه﴾، أي: يستخرجونه ويستعلمونه من معادنه، حيث يقال: استنبطَ الرجلُ العينَ، إذا حفَرها واستخرجَها من قعورها.. وقوله تعالى: ﴿يا أيّها الذينَ آمنوا إنْ جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبيّنوا﴾ [الحجرات/6].. أي تأكّدوا، وتثبتوا، واطلبوا البرهان..
والإمام علي(ع) يقول: “اعقلوا الخبرَ إذا سمعتمُوه عقلَ رعايةٍ لا عقلَ روايةٍ، فإنّ رواةَ العلمِ كثير ورعاتَه قليل..” (أنظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج18، ص254 ). طبعاً، لا شك أنّ الناس في كثير من بلداننا ما زالت تعاني كثيراً في تدبر معيشتها، وهي ما زالت بعيدة عن بناء أسس قوية وفاعلة لنهضتها العلمية والتنموية، أي أن حياة الأفراد فيها مجيّرة كلها تقريباً لتأمين عيشها الوجودي الآدمي البسيط، والحاجة تفتح المجال للنفاذ الآمن للشائعات ولغيرها.. حيث يجري التلاعب كما سبق القول بحاجات الناس وبمظالمها لتحقيق الأغراض السيئة..
وهنا تأتي الشائعات ليكون لها دور خطير في زعزعة أمن المجتمعات واستقرار البلدان، من خلال تصنيع أخبار ومواقع وآليات التخويف والخوف الجماعي، بحيث يتم استخدامها كأداة حرب نفسية لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية. ومع تزايد استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح من الضروري تعزيز التفكير النقدي، والتحقق من الأخبار، ومواجهة التضليل الإعلامي لحماية المجتمعات من مخاطر الشائعات.
والأمر الذي يزيدُ ويفاقمُ من تلك الحالة، هو هذا التواجدُ الواسع والكثيف للناس في مجتمعاتنا على مواقع ومنصات التواصل الاجتماعي وغير الاجتماعي (فيس بوك – يوتيوب – إكس – تلغرام – وغيرها كثير)، (بمختلف اتجاهات تلك المواقع وتوجهات أصحابها وقناعاتهم وخلفياتهم وما يُهيمن عليهم).. حيث أنه ومع أن لهذا التواجد الكثير من الإيجابيات على مستوى التحاور والتواصل، وسهولة الوصول إلى المعرفة والخبر وتداول الأفكار والتحليلات والاطلاع على الوقائع والحوادث بسرعة، وتبادل المعطيات والتحاور وغيرها، ولكن أيضاً له الكثير من السلبيات خصوصاً في ظروفنا المتوترة الراهنة التي يعاني فيها الناس من أمراض وأوجاع كثيرة، يتداخل فيها الصالح بالطالح، ويتم تقديم الأخبار والحوادث كَسَمِّ زعاف ضمن طبق من حلوى لذيذة شكلاً، على طريقة المثل القائل: “دس السم في العسل”..!!..
والمشكلة أن تلك المواقع أو كثيراً منها تحولت إلى مستنقعات وبؤر لنشر التضليل وبث الشائعات، وهي تطفح بالعفن والحشرات والذباب الضار، كما أصبحت ساحات للصراع وإثارة أجواء الفتن، وباتت مجرد ميادين للسجالات حول القناعات والانتماءات..
ولا شك بأنّ للنقاش والسجال والحوار إيجابيات (في حال تحققت شروطه ومعاييره)، ولكن سلبياتها كثيرة، مع ما تختزنه من الدجل والتلفيق والتضليل والخداع الذي يسري ويدخل ببساطة إلى نفوس كثير من الناس ممن لا يمتلكون الأدوات والقدرة على التأكد من صحة المعلومات المتدفقة بكثافة، ويفتقر كثير منهم للحد الأدنى من الوعي والعقلانية للتمييز بين الغث والسمين والخطأ والصواب لمعرفة حقيقة وخفايا ما يتم بثّه وضخه وعرضه.. نعم، الضخ الإعلامي التواصلي كبير، والتلاعب بمشاعر الناس جارٍ على قدم وساق، والعزف على أوتار الحرمان والحاجات واسع وعريض ومستمر للأسف الشديد.
من هنا: الحذر والوعي والمسؤولية ينبغي أن تكون كلها في أعلى حالاتها ودرجاتها..
