الأخذُ بطرفٍ من كلِّ شيء
بقلم غسان عبد الله
كثيراً ما يسأل المرء نفسه كيف يصبح مثقفاً، ويصيبهُ سؤالُه هذا بحيرةٍ مستمرة.. فمجالُ الثقافةِ أوسعُ من أن يُحصَرَ في إطارٍ ضيّقٍ، وينحصرَ جوابُهُ لنفسِهِ كمبتدئٍ في قراءةِ كُتُبِ المسابقات الثقافيةِ وسين وجيم وغيرها، ومتابعةِ برامج المسابقاتِ على التلفاز لعلَّه بذلك يُرْضِي طموحه ويحقق هدفه.
إن هذه الطريقة أشبه بوجبة هامبرغر تقدّم ضمن الوجبات السريعة، ولا يمكن من خلالها بأي حال من الأحوال أن يُشْبِعَ المرءُ حاجتَهُ منها، وثقافة الهامبرغر هذه على الرغم من بريقها وإغراءاتها الكثيرةِ لا تحقّقُ ولو الحدّ الأدنى من متطلباتِ الساعين بجدٍ نحو الثقافة.
ولكن ما الذي تعنيهِ لنا كلمةُ ثقافة بالضبط؟. الثقافةُ تعني بكلِّ بساطةٍ أن يقطفَ المرءُ من كلِّ بستانٍ من بساتينِ المعرفةِ زهرةً تكون كافيةً بأريجِها لتعطيَ انطباعاً عاماً عن فحوى بستانِها وخصائصِه، لذلك كان التّخصصُ في بستانٍ من البساتينِ كالطبِّ أو الهندسةِ أو الفلكِ أو الأدبِ عائقاً أمام المتخصصينَ لقطفِ الزّهورِ من البساتينِ الأخرى ظناً منهم بأنهم بهذا التخصصِ باتوا من فئةِ المثقّفين، وهذا هو واقعٌنا بكل أسف.
هذا ويختلف اقتناءُ المرءِ للكتبِ باختلافِ ميولِهِ وتوجُّهاته، فترى الأديبَ على سبيل المثالِ تزخرُ مكتبتُهُ بدواوينِ الشعر، والرواياتِ والكتبِ النقديةِ والمعاجمِ و…، بينما تعجُّ مكتبةُ السياسيِّ بكتبِ التاريخِ، والدراساتِ الإستراتيجيِة، ومذكراتِ الاتفاقياتِ الدولية….، ولا ينفي ذلك بالطبع توفُّرُ بعضِ الكتبِ القليلةِ الأخرى في علومٍ معرفيةٍ أخرى في مكتبةِ كلٍّ منهما.
ولعلَّ حرصَ المرءِ على القراءةِ بصفةٍ مستمرةٍ هو أحدُ أهمِّ العواملِ في تثقيفِهِ بفاعليةٍ أكبر، فيكفي على سبيلِ المثالِ أن يقرأَ المرءُ خمساً وعشرين صفحةً يومياً من أي كتابٍ أو مجلةٍ باستثناءِ تخصُّصهِ كأحدِ أهمِّ العواملِ التي تساعدُ في بناءِ عقليةٍ تتميزُ بخلفيةٍ معرفيةٍ وثقافيةٍ مقبولة.
إن عولمةَ هذا العصرِ بما جلَبَتْه من تزاحمٍ رهيبٍ في النُّظُمِ المعلوماتية، والتّدفقِ المعرفيِّ على شبكةِ الانترنتِّ كوسيلةٍ أساسيةٍ للاتصالِ والتواصلِ مع العالمِ الصغيرِ تحتاجُ بالفعلِ إلى تركيزٍ تامٍّ في كيفيةِ توظيفِها كأداةٍ إيجابيةٍ وليس سلبيةً كما بات يؤمنُ الكثيرون، وذلك في إنشاءِ آلياتٍ عمليةٍ متناسقةٍ في تصفيةِ الدّخيل وتفنيدِهِ، وطرحِ البديلِ وتسويقهِ، وهذا بالطبع هو دورُ مجموعةِ المثقفينِ في كلِّ مجتمع.. وهم الوحيدونَ الذين تتقرّرُ بهم انتكاسةُ أو نهضةُ أيِّ أمة.
إن تعريفَ المثقفِ من وجهةِ نظرِ الكثيرينَ هو أنه الأخذُ بطرفٍ من كلِّ شيء.. وهذا يعني أن على أي إنسانٍ متعلّمٍ أو متخصّصٍ في مجالٍ ما من مجالاتِ الاختصاصِ المتنوعةِ أن يعرِّج على باقي أصنافِ المعرفةِ المتاحةِ أو ربما غير المتاحةِ من خلال مبادرتهِ للتفتيشِ في أي مكانٍ عما يعزِّز مكانتَهُ الثقافيةَ الذاتيةَ كي يصبحَ بمقدورِ كلمةِ المثقّفِ الحقيقية أن تتقبّل فكرةَ إطلاقِ صفتها عليه.
ثمة أمرٌ أخير.. وهو أن كثيراً من البشر الأميين نسبياً – مقارنةً بالمتعلمين أكاديمياً – يمتلكون الحسَّ الثقافيَّ المتميّزَ حتى لَيخَالُ البعضُ منا عند مناقشةِ أحدِهِم أو الدخولِ إلى عالمهِ أنه حيالَ متعلّمٍ من الدرجةِ الأولى وقد يظنّهُ حاملاً لشهادةٍ علمية. في الوقت الذي قد نجدُ أيضاً بعضَ المتعلّمين أصحابِ الشهادات الأكاديمية العليا أو حتى الدكتوراه غير جديرين بإطلاقِ صفةِ متعلّمٍ عليهم ناهيكَ عن إطلاقِ كلمة مثقف!.
إذاً.. المثقف هو هذا الشخص الذي قطَفَ من كُلِّ بستانٍ من بساتينِ المعرفةِ ومن رياضِ المجتمعِ الذي يُحيط به، وحملَ بداخلِهِ إشراقةَ البحثِ المتواصلِ الذي لا يهدأ مهما أترعَ جعبَتَهُ من رصيد.. هو هذا الذي تراهُ كاللاهِثِ خلفَ شيءٍ يريدُ إدراكَهُ ولكنه يرى نفسِهِ في كلِّ مرةٍ أنه أول الطريق.