اليمن ما بعد وقف الحرب على غزة.. ثبات على العهد والموقف
بقلم نوال النونو
شكّل دخول اليمن في مرحلة إسناد غزة بعد عملية “طوفان الأقصى” في أكتوبر 2023م حالة استثنائية غير متوقعة في تاريخ الصراع العربي مع كيان العدو الإسرائيلي، فكل القراءات والتحليلات لم تكن تتوقع دخول اليمن كلاعب رئيس خلال هذه الجولة من الحرب.
وجاء العدوان الصهيوني على قطاع غزة بعد “طوفان الأقصى” في وقت كان فيه اليمن يرزح تحت وطأة المعاناة والحصار وغبار الحرب، حيث قضى 10 سنوات في مواجهة محتدمة مع تحالف العدوان على اليمن بقيادة السعودية الذي بدأ في 26 مارس 2015م بهدف القضاء على أنصار الله وإخراجهم من العاصمة صنعاء، وقد تعرض اليمن لأبشع أنواع القصف والحصار والإبادة غير المرئية للعالم.
ومع بدء الطوفان في غزة، وانتقال الأحداث إلى طور جديد غير مسبوق، ولجوء الكيان إلى حرب الإبادة الجماعية والحصار الخانق على الفلسطينيين في القطاع، ودخول أمريكا على خط المواجهة، كان الإعلان المفاجئ بأن اليمن لن يكون في خانة المتفرجين، وأنه سيقف سنداً قوياً إلى جانب إخوانه في قطاع غزة، ما أثار الكثير من السخرية لخصوم أنصار الله بشأن ما الذي يمكن أن يقدموه لغزة وهم الفقراء المحاصرين الخارجون من حرب مدمرة تلقوا خلالها المزيد من الضربات والخسائر الكبيرة.
ولم يكتفِ اليمن بالمواقف الداعمة لغزة، بل انتقل إلى الإسناد الميداني المباشر من خلال العمليات النوعية للقوات المسلحة التي سلكت مسارين رئيسيين، الأول من خلال القصف المتواصل في عمق كيان العدو بالأراضي الفلسطينية المحتلة بالصواريخ الباليستية الفرط صوتية والطائرات المسيرة، والمسار الثاني من خلال إحكام الحصار البحري على الملاحة الصهيونية في البحر الأحمر، والتي أدت إلى إفلاس ميناء إيلات وتوقفه عن العمل، وقد كان لهذه العمليات أثرها البارز في إيلام العدو وإحداث الخسائر الاقتصادية الكبيرة به.
ضرورة أخلاقية ودينية
ويؤكد أنصار الله أن دخولهم في معركة الإسناد لغزة هي ضرورة أخلاقية ووطنية وإنسانية، وأنها جاءت من منطلقات دينية وإنسانية خالصة، لذلك لم يكن في واردهم أي اعتبار للمصالح السياسية أو تحقيق مكاسب خاصة، وإنما كان إسناداً لوجه الله كما يقولون حتى لا يصيبهم عذاب الله، وهذه رؤية دينية لا تعيرها الدول أي اعتبار، إذ إن خلاصة السياسة لدى دول العالم هي تقديم المصلحة على كل الاعتبارات.
من هذا المنطلق، عاش اليمنيون على مدى عامين في حالة طوارئ غير معلنة وتعبئة متواصلة، معتبرين أن ما يحدث في غزة كأنه يحدث في صنعاء، وأن الألم الذي يتجرعه الغزاويون يتجرعه كذلك اليمنيون، وبناءً على ذلك عملت القيادة اليمنية على كافة المسارات في إسناد غزة، ومنها الخروج المليوني أسبوعياً كل يوم جمعة في ساحة ميدان السبعين بصنعاء وعموم المحافظات اليمنية، إضافة إلى حرص السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي على إلقاء خطاب أسبوعي يخصصه للحديث عن آخر التطورات والمستجدات في قطاع غزة، كاشفاً عن حجم المأساة وهول الفاجعة وفداحة العدوان الصهيوني وبشاعته، ومفنداً مواقف الدول العربية والإسلامية من هذا التوحش الصهيوني، ومستعرضاً كذلك الموقف اليمني وما الذي يمكن أن يقدمه من أجل غزة.
لقد سلك اليمنيون مساراً طويلاً في معركة استثنائية في تاريخ الأمة، فكان لهم شرف الحضور والثبات على الموقف المساند لغزة، رغم ما تعرض له اليمن من عدوان صهيوني وأمريكي غاشم، وتعرض مقدرات البلد للقصف العنيف، واغتيال أهم كوادره وفي مقدمتهم رئيس الحكومة أحمد غالب الرهوي وعدد من رفاقه الوزراء، واستهداف المؤسسات الإعلامية، فكان الإسناد له ثمنه، ولم يكن مجرد نزهة أو مسرحيات كما يزعم خصوم أنصار الله.
وبالتوازي مع مرور عامين من طوفان الأقصى، جاءت التصريحات الرسمية اليمنية لتجدد الموقف اليمني الثابت والمبدئي تجاه القضية الفلسطينية، ولتؤكد أن معركة غزة لم تعد حدثاً فلسطينياً محلياً، بل محطة فاصلة في الوعي المقاوم للأمة بأسرها، حيث شكلت «طوفان الأقصى» نقطة تحول استراتيجية في الصراع مع العدو، وأحبطت مشاريع التهويد والتصفية، وكشفت هشاشة “الجيش الذي لا يقهر”، كما يقول رئيس المجلس السياسي الأعلى المشير الركن مهدي المشاط، الذي أكد أن عمليات القوات المسلحة اليمنية شكلت فارقاً ميدانياً باعتراف العدو نفسه، وأن اليمن قدّم شهداء من كبار قادته في طريق القدس.
ومن خلال عمليات القوات المسلحة اليمنية في البحر الأحمر وخليج عدن، أثبت اليمن أن الإسناد لفلسطين يمكن أن يتحول من خطاب إلى أداة ضغط استراتيجية على المصالح الصهيونية والغربية، كما أن الخطاب اليمني يوجّه رسالة واضحة للدول المطبّعة بأن خيار المقاومة لا يزال قائماً، وأن التطبيع لم يحقق الأمن للعدو بل زاد من عزلة الأنظمة المطبّعة أمام شعوبها.
لقد بات الموقف اليمني جزءاً من معادلة الردع الشاملة التي تربط مصير فلسطين بمصير الأمة، وهو ما يجعل اليمن شريكاً فاعلاً في رسم مستقبل الصراع، ولهذا وجد المفاوض الفلسطيني أنه يمتلك أوراق ضغط على كيان العدو منها ورقة البحر الأحمر والصواريخ اليمنية التي وُضعت بالكامل تحت تصرف المقاومة الفلسطينية، دون أن يتدخل اليمن في رسم مسار المفاوضات أو وضع اشتراطات أمام العدو، وإنما ترك الأبواب مشرعة أمام الفلسطينيين ليقرروا ما يريدون وما يشاؤون.
