فضاءات فكرية

التّراثُ الدّيني والتّجدد الحَضَاري

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

حيث تتصور بعض النخب العلمانية أن ثمة تناقضاً جوهرياً بين المنظومة القيمية الإسلامية والمنظومة الحقوقية الفردية والمجتمعية، كقيم الحرية وتعدد الآراء، مما يخلق ازدواجية مزعومة بين فكر الإسلاميين وممارساتهم وعلاقاتهم، ويُلقى باللائمة على الدين نفسه، ممثلاً بالإسلام، في عجزه – من وجهة نظرهم – عن بناء حياة سياسية متطورة تليق بمتطلبات العصر، وتستجيب للتحديات والمستجدات.

وفي هذا السياق، ما زال بعض المثقفين يصرّون على تبني رؤية مفادها أن الانتماءات الدينية والمذهبية والقبلية (أي مجمل التنوعات والخلفيات الثقافية والدينية والتاريخية التي تسم مجتمعاتنا) تقف على النقيض من مفهوم الدولة الحديثة في معناها ومعالمها ومعاييرها المعاصرة، وأن هذه الروابط والأنسجة التاريخية ما قبل الوطنية هي التي تشكل عائقاً أمام هذا التحول إلى المجتمع المدني أو الدولة المدنية، لأنها ستعيد إنتاج نفسها داخل مؤسساته، لتسيطر عليها في النهاية.

واللافت في هذا الطرح إصرار أصحابه على الخلط بين الدين كحضارة راقية شاملة للفكر والشعور والممارسة، وبين الطائفية والعشائرية كمظاهر ليست من الدين في جوهرها. فالدين يحمل مضموناً ثقافياً واجتماعياً وحتى سياسياً (في دعوته لإحقاق الحقوق) حيث يتعامل مع قضايا الحياة المصيرية التي تخص أصل وجود الإنسان العدل والحرية والإنصاف، وله خطاب حركي عملي يهدف إلى حشد الناس حول مشروعه الحضاري الإنساني.. وأي خطاب تغييري لا بد أن ينطلق من مرتكزات ثقافية إنسانية، مما يفرض عليه التعاطي مع الأدوات والأجواء السياسية عندما تمس السياسة المصير الإنساني.

أما اتهام الخطاب الديني بالماضوية والجمود وعدم الانفتاح والقابلية للتجدد، فهو يشبه اتهام أي خطاب سياسي آخر يعبر عن مضمون ثقافي خاص.. فالماضي هو بالأساس تجربة أولئك الذين عاشوا سابقاً في ظروف حياتهم وعيشهم وخصوصياتهم، فعملوا واختبروا واكتسبوا فكراً وعلماً وتاريخاً يخصهم هم.. وهو ليس ملكاً لنا إلا بمقدار ما نستفيد منه نحن في حاضرنا ومستقبلنا.. فالحياة تحتاج إلى الأفكار في كل عصر، وهناك أفكار خالدة لا يرتبط صلاحها بزمن معين، بل بخصوصيات الحياة نفسها.. يقول تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾] البقرة: 134[. فالماضي ذكرى وعبر على مستوى أنه مدرسة نستقي منها الدروس والخلاصات والنتائج المفيدة، لا أن نقدس كل ما فيه.. والتقديس إنما يكون للعناصر الخالدة التي تتصل بالحياة، لا بالزمن الذي لا يعطي الأشياء قيمتها، بل تأخذ قيمتها وقدسيتها من أصالتها ومدى نفعها لحياة الإنسان في امتداد الوجود.

وعليه، فإن تلك الانتماءات التي تُوصف بـ “الماضوية” يمكن أن تكون مصدراً للتوحد والتنوع الإيجابي الذي يثري المشروع الحضاري للأمة، وهذا ما تؤكده وقائع تاريخنا العربي والإسلامي الحضاري.. فجميع الأمم انطلقت من زمن ماضٍ، أي قامت على خلفيات قبلية وأقوامية قديمة، وكل الشعوب لها معالم وأسس متنوعة في قيمها وثقافاتها وعاداتها التي تعتز بها، ومع ذلك أنتجت مراكز إشعاع حضاري، كما فعل العرب في العصر الوسيط.

ومن هنا، فإن على تلك النخب المفارقة أن تتخلص من عقدتها النفسية التي تدفعها لتخويف المجتمع من “خطر” هذه الانتماءات، رغم تغير الظروف وحصول مستجدات ضاغطة على الجميع.. فالتعدد سنة طبيعية في التركيبة الاجتماعية، ولا يتحول إلى مرض وانقسام مدمر إلا عندما يتم توظيفه سياسياً واستغلاله مجتمعياً، لا سيما من قبل سلطات حاكمة قامت أساساً على تمكين العصبيات المحلية، مما أدى إلى تشكيل أنظمة سياسية تتبنى “ديكور” الدولة الحديثة، بينما تحافظ في العمق على مصالح الزعامات التقليدية.

ولا يكمن حل هذه الإشكالية في فرض نموذج اندماجي قسري، بل في تحويل السلطة إلى تشاركية تعددية عامة قابلة للتداول السلمي، مما يفسح المجال للحوار العقلاني البعيد عن الخوف، ويُفكك الاحتقان العصبوي المهيمن. فالسبب الجوهري لنشوء العصبيات وتوظيفها هو هيمنة أنظمة القمع واستبعادها للجماعات الأخرى، مما يولد لديها شعوراً بالقهر ويدفعها للانكفاء على ذاتها للدفاع عن وجودها.

ويظل إفلاس الفكر السياسي العربي، المرتكز على ثقافة سياسية بالية، هو السبب الكامن وراء إعادة إنتاج هذه الأزمات. ولا مناص من إنتاج ثقافة سياسية جديدة تقوم على معايير واقعية وإنسانية، تضمن حريات الفرد وتحمي استقلاله، وتؤسس لمواطنة حقيقية. فبدون ذلك، ستستمر أزمة الدولة العربية في التوالد ذاتياً في كل وقت.

أما الإشكالية التي تواجه الإسلاميين فتتمثل في سؤالهم: هل يمكن لتراثنا الديني أن يبني نظاماً اجتماعياً خالياً من العصبيات ومولّداً للأزمات، بحيث يكون قادراً على إنتاج حياة مدنية عصرية وقانون مدني عصري إسلامي؟! وما طبيعة علاقة هذا النظام بالآخر المختلف؟! وهل من صلة بينه وبين النظام العلماني؟..

في الواقع ما زالت العلمانية تشغل الأوساط الثقافية العربية التي لم تتفق على معنى محدد لها، استناداً لاختلاف السياق المعرفي الذي نشأت فيه في الغرب، ومحاولة نقلها إلى التربة الدينية الإسلامية. وقد أدى هذا الاختلاف إلى انقسام النهضويين والسلفيين حولها، وجاءت إجاباتهم دون مستوى الطموح، متأثرة بظروف الاستعمار وتحولاته..

فقد انقسمت الإجابات بين مَنْ قدس العلمانية ورآها طريق الخلاص من التخلف، وبين مَنْ رفضها وأصدر بحقها التحريمات دون دراسة متأنية لهذه الظاهرة المعقدة، التي تجمع بين تحولات تاريخية وسياسية وثقافية.

وهذه الثنائية التناقضية حرمت الفكر الإسلامي من تقديم قراءة نقدية موضوعية للعلمانية، ولغيرها من القضايا التي كانت محل انقسام حاد بين رواد النهضة والتيارات الفكرية المختلفة.

وعلاج إشكالية الثنائية المزعومة بين العلمنة والإسلام لا يكمن في تبني أحدهما وإقصاء الآخر، بل في ضرورة فك الاشتباك التاريخي والفكري بين المفهومين العليين، وإعادة بناء العلاقة على أسس جديدة تتسم بالحوار والوضوح والعمق.. وهذا العلاج يتطلب التمييز بين العلمانية كـــ “فلسفة مادية” تنكر الدين والمقدس في الحياة العامة (وهذا ما يرفضه الإسلام)، وبين العلمنة كـــــ “أداة تنظيمية” لفصل صلاحيات المؤسسات الدينية عن هياكل الدولة الإدارية.. حيث يمكن للأخيرة أن تكون أداة تقنية محايدة قابلة للتكيف مع السياق الإسلامي.. كما يقتضي الأمر – على صعيد الإسلام – تجاوز النظرة الأحادية لهذا الدين خاصة وأنه هو المرجعية الحضارية للأمة، مع ضرورة وأهمية التمييز بين “الشريعة” كمبادئ وقيم عليا ثابتة، و”الفقه” كاجتهادات بشرية تاريخية قابلة للتطور.. كما يجب الفصل بين “الدين” نفسه وبين “التراث التاريخي” للمسلمين الذي قد يحمل إرثاً ثقافياً أو سياسياً غير ملزم.

والإسلام نفسه لا يقدم نموذجاً سياسياً واحداً باسم “نظام الحكم الإسلامي”، بل يحدد “مقاصد الحكم” التي تتمثل في تحقيق العدل والشورى والحرية والمصلحة. حيث أن هذا الدين يدعو إلى ضرورة تأصيل مفهوم “المواطنة” المنطلق من الاعتراف بالآخر واعتبار التنوع الديني والثقافي جزءاً من الإرادة الإلهية، يقول تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾[هود: 118[.

إن العلاج لتلك الأزمة لا يتمثل في “العلمنة الشاملة” ولا في “أسلمة الدولة القسرية”، بل في نموذج وسطي يجمع بينثوابت الإسلام القيمية والمقاصدية العليا.. وآليات العصر الإدارية والسياسية.. واحتياجات المجتمع المتعددة والمتغيرة.

وهذا النموذج الوسطي هو ما يمكن تسميته “الدولة الحضارية” التي تحترم هويتها وتقدرها، ولا تنغلق على معطيات العصر وتحولاته الهائلة، لتكون دولة تجمع بين “الروح الإسلامية” و”الجسد المدني الحديث”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *