فضاءات فكرية

الإسلام وصراعات حروب المصالح والهويات المغلقة هل ثمّة أمل في إصلاحٍ ونهضة؟!

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

نعم، المجتمعات والأمة ككل بحاجة لإصلاحٍ حقيقي بعد إيقاف حالة الانهيار المتسارع فيها، يعقبها ضرورة حدوث نهضة عقلية وعلمية..

والإصلاح المقصود هنا ليس إصلاحاً دخيلاً أو متداخلاً أو شيئاً خارجياً بقدر ما هو حاجة ذاتية وموضوعية تقتضيها طبيعة الحياة وسيرورة الوجود وسنن التاريخ التي تؤكد على أن التغيير أمر حتمي في البنى المتداعية، وأنه إن لم يحدث بيديك، فسيحدث بيد غيرك..!!.

إنها الاستجابة لعنصر البناء والتطور الذاتي والقابلية للتنمية والإصلاح، حيث تتغير الظروف مما يتطلب تغير فلسفة وجودها.

والفرد والمجتمع والأمة التي لا تستجيب لتحدي التطور والاستجابة لضرورات البقاء ومتطلبات الخارج المتحول والمتحرك، تتأخر وتتقهقر وربما تنقرض مع تقادم الأيام وتتالي العصور، وضغط عوامل وعناصر الخارج عليها.. خاصة على الصعيد السياسي – الاجتماعي، حيث تتركز الوظيفة هنا على إدارة شؤون البشر، وإدارة مؤسسات في الدولة، والفصل في الخصومات فيما بينهم، والسعي لبناء مجتمعٍ منضبط بالقانون، وأمة منظمة بالوعي والعقل والعلم.. وبما أن أمتنا واجتماعنا الحضاري الإسلامي التاريخي يعتمدُ في وجوده ومسالكه الحياتية العملية على مواقع ومصادر فكرية وفلسفية بعيدة الغور في التاريخ (مفاهيم ونصوص وإخباريات وعلوم كلام وعقائد ووو..إلخ)، مختلفة في وجودها وزمنها ومعاييرها عن زمننا الراهن، بمسافة تتعدى الألف عام، حيث الاختلاف وربما التناقض بين المفاهيم والعلوم والمعاني في حركيّتها العملية العصرية على صعيد الفرد والمجتمع وحتى الدولة… فهذا كله يجعلنا أمام خيار حتمي أو ممر إجباري ينبغي خوض غماره، وهو سلوك طريق الإصلاح وتطوير المفاهيم والقابليات الفكرية، وتأويل النصوص وتجديد المعاني، منعاً لمزيد من الابتعاد بين الفرد (الملتزم) والنص التاريخي القائم، ومنعاً لمزيد من الصدام الرمزي والمادي بين وعيين متشكلين في زمنيين مختلفين شبه متناقضين (في السياق العملي)..  وهذا لا يعني بأن اهتمامنا بأولوية التجديد الديني سيلغي من قاموسنا الإصلاح السياسي ونبذ أهم أمراضه وهو الاستبداد.. خاصة مع ما أفضى إليه واقع الاستبداد من انفجارات هوياتية أصولية وجمود سياسي وتصدعات اجتماعية، بما يعني ضرورة الربط بين الديني والسياسي، إذ لا إصلاح سياسي حقيقي من دون إصلاح ثقافي وديني.

يأتي هذا كله في ظل تعميق ثقافة الخوف والرعب والقلق السلبي الممتدة أفقياً وعمودياً في كثير من مجتمعاتنا وبلداننا، حيث الكل يخاف من الكل، والكل يلتجئ لملاذاته وكهوفه التاريخية الانتمائية الأولى الآمنة..

وكانت النتيجة أن إنساننا في هذا العصر هو محصلة لصناعة تاريخية أكثر بكثير من كونه صناعة عصره في ثقافته ووعيه وسلوكه وعلاقاته.. بحيث تشعر أن كثيرين منا ينتمون عقلياً وفكرياً ونفسياً للتاريخ ويعيشون في أحداثه ونصوصه وتحولاته وعصبياته أكثر بكثير من انتمائهم لعصرهم وراهنهم وما يمكن أن نقول عنه أنه هويتهم العصرية الحديثة في وجودهم وعملهم وكسبهم الحضاري.. بما يعني أن الجسد يتحرك في القرن الواحد والعشرين الميلادي، والروح والعقل تتحركان في القرن السابع الميلادي الهجري..!!. فأي فعل وإنتاج وإبداع وابتكار وحضور في العصر، سينطلق ويشتعل في أجساد قلقة ومتشظية ذاتاً ومعنى، روحاً ومادةً؟!..

وقد سعت كل النظم السياسية (سلطات الهزيمة) – منذ أزمة الخلافة والحكم الإسلامي الباكر- إلى تعميق تلك الحالة من التشظي (وما يتصل بها ومعها من مفاهيم وطروحات ومعاني) من خلال عملها على صياغة (وقولبة) المواطن الضعيف والمفقّر والمحتاج إليها دائماً، كي تتمكن من إلحاقه بها والسيطرة عليه، والتحكم بوجوده، أو – على الأقل – احتواء مطالبه، وتدجينه، وربطه بوعود وهمية، وجنان خلد افتراضية، وشعارات فضفاضة خلّبية لم تحقق لمواطنيها المستضعفين إلا الدمار والخراب الروحي والإفقار والتهميش المادي..

وفي ظل هذا الوضع لا يمكن للفرد المتشظي والمنقسم في ذاته وبناه النفسية والعقلية، والمصاب بالوهن النفسي والضعف الذاتي العضوي، تحقيق الاستشفاء الذاتي والإصلاح العملي المنشود لوحده, بل إنه بحاجة ماسة لإصلاح ذاتي ثقافي وديني عاجل.. بحاجة لمن يأخذ بيده قبل كل شيء.. وبالمثل لا يمكن لبلداننا تحقيق بديهيات التنمية وأولويات التقدم والنهوض بدون مساعدة عاجلة وسريعة من الحضارات الأخرى، هذا مع افتراض وجود نوايا سلمية ورغبات صادقة لدى هذا الغرب في مساعدتنا عن حق وحقيقة..!!.

وبناء الإنسان وإصلاحه، والسير بتنميته العقلية والعلمية، لا يأتي ولا يتحقق إلا من خلال (وعبر) إعطائه لحقوقه الإنسانية ومتطلبات وجوده الأساسية المادية (مأكل، مشرب، منزل، عمل، وووالخ) والمعنوية القيمية (حرية وكرامة ومشاركة وووالخ)..

فالإنسان المعافى الصحيح في جسمه وعقله والخالي من الأمراض، والواصل إلى حقوقه، هو الأكثر قدرة وفاعلية على الانخراط في مشروع النهضة العام، بل والنجاح فيه والانتصار له.. أما الإنسان الفقير والمحروم والمظلوم، والمستضعف، الذي يرى أمامه الفوارق والتمايزات الطبقية وغير الطبقية، والذي يعاين الظلم أمام عينيه، وهو غير قادر على تأمين متطلباته الوجودية الأولى، هكذا إنسان مفقّر، سيبقى مهزوماً نفسياً في داخله، وبالتالي لن يكون بإمكانه الانخراط في أي مشروع نهضوي أو معركة تنموية إلا بجسمه فقط (بينما الروح تعبة ومحلقة في مكان آخر)، ونشاطه وفاعليته وتفكيره متوجه ومنحصر ومتركز ومتمحور حول نقطة وحيدة فقط، وهي تأمين لقمة عيش لأسرته وأولاده..

.. إنّ الاعتراف بالأخطاء، ووجود الأمراض الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في جسمنا العربي والإسلامي، هو مقدمة وشرط ضروري لبدء معالجتها بعد تشخيصها على صورتها الواقعية الحقيقية بلا لف ولا دوران أو غض الطرف عنها، ولكن المشكلة هي في عقلية الإنكار والرفض، في هيمنة أصحاب العقول الأيديولوجية المغلقة على تماميات خلاصية، وعقديات اصطفائية، غالباً (بل دائماً) ما يتحدثون عن الانتصارات والنجاحات، ولا يذكرون شيئاً عن الخسارة والفشل، أو الأمراض المتجذّرة، مع أن المرض والفشل والخسارة أو الهزيمة شيء قائم، وطبيعي جداً أن يحدث في مسيرة الحياة، وهو أمر يتكرر باستمرار، ومن طبائع الحياة البشرية والاجتماعية (خاصة في بلدان مثل بلداننا تعيش في التاريخ المريض أكثر من عيشها في العصر)، ولا بد من الاعتراف به (بالفشل والهزيمة) إذا حصل، وهو حاصل لا محالة.. ليس للبقاء فيه، والتأقلم معه، بل ليكون هذا الفشل وتلك الخسارة درساً وعبرةً ودافعاً لتجاوزها في المرات القادمة.. لكن هؤلاء (أصحاب العقول المقفلة الاصطفائية الانتقائية) لا يرون سوى انتصارهم الزائف (المكلف للغاية) في كثير من الأحايين، وهذا من أهم أسباب ومسببات بقائهم في حضن الخسارة التي يحسبونها انتصاراً..!!..

من هنا إن الذي يعمق استقرار أي نظام سياسي، ويمنع حدوث هزات سياسية وأمنية فيه، ويحصّن بالتالي منظومة الحكم ككل، هو قدرة المجتمع الذي يقوم فيه ذلك النظام على تجديد ذاته والاعتراف بأخطائه ومعالجة أمراضه.. وهذا لا يتوفر حقيقةً – كما ذكرنا أكثر من مرة – إلا ببناء ثقافة مواطنة حقيقية متبادلة بين الشعب والحكومات، ثقافة احترام الدستور والمؤسسات، بحيث تكون العلاقة والشراكة بين مختلف تلك المؤسسات والسلطات قائمة ومرسومة على توازن دقيق ومحدد بحيث تعرف كل مؤسسة وظيفتها ودورها لتقف عندها دونما تدخل بوظائف المؤسسات الأخرى..

والإسلاميون اليوم، معنيون أكثر من غيرهم (من باقي التيارات والحركات والأحزاب) بتلك الأفكار المؤسسة، ومطلوب منهم الانفتاح الجدي عليها، والسعي للعمل بها، أي أن قبولهم لها لا يجب أن يبقى في دائرة الرؤية والنظر والإعجاب والإشادة بها، بل أن يصل إلى دائرة التطبيق العملي والتنظيمي لها.. فالإسلام اليوم متهم، وفي دائرة الاستهداف المتواصل، كدين عنف وإرهاب، ودين قتل ورفض للآخر وإقصاء لكل مختلف ومغاير.. على الرغم من كل ما قيل دفاعاً عنه من أنه (أي الإسلام) هو دين الرحمة واليسر والعفو والمغفرة، وهو دين محبة ودعوة خير ووئام وسلام مثل المسيحية، والعنف ليس إسلامياً وليس دينياً بل هو عنف سياسي مرفوض من الإسلام ومن المسيحية، وكل التيارات والجماعات حتى المسيحية منها داخلها العنف والإرهاب…

طبعاً هذا الكلام صحيح بلا أدنى شك، ولكنه لا يعفينا من مسؤولية الاعتراف بوجود عنف ديني يتلبس لبوس الإسلام منتشر ومستشرٍ، ووجود كثير من التيارات والتنظيمات الإسلامية المتشددة، وكثير من النخب الإسلاميين المتّهمين اليوم بتفجير الواقع والحياة العربية والإسلامية وحتى الغربية منها، وسلوك طريق الدم والعنف كطريق أوحد عندهم للتغيير والإصلاح والدعوة، وفرض ما يرونه حق مطلق على غيرهم.. وهؤلاء حقيقةً، لم يأتوا إلينا من كوكب آخر، بل خرجوا من هذه الأرض، من رحمها التاريخية، وتربتها الفكرية والثقافية، من مناخها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، من معاركها ضد بعضها البعض، من أجواء الإقصاء والكبت والرفض والرفض المتبادل، مثلما خرجت تيارات أخرى، وأحزاب وحركات دينية وعلمانية يمينية ويسارية أخرى، سبق أن قامت وارتكبت ربما أسوأ مما قام به الإسلاميون، وارتكبت الأفاعيل، وتورّطت، وارتكبت الكثير من الارتكابات عنفاً وبطشاً وإرهاباً… فكلنا في الهمّ شرق.. والزنا السياسي وغير السياسي مارسه الجميع إلا ما (ومن) رحم ربي..!!..

من هنا، ليكن عندنا قليل من الموضوعية والإنصاف والنظرة العلمية المتوازنة للأمور والأشياء خاصة السلبية والسيئة منها، في ضرورة وقوفنا النقدي أمامها، ووعينا لها والإقرار بوجودها لمعالجتها والتخلص منها، وفهم الأحداث الفكرية والتطورات التاريخية والمستجدات الواقعة في مجالنا الحضاري واجتماعنا الديني العربي والإسلامي.. ثم: وماذا بعد؟.. خصوصاً اليوم، حيث الدول تتداعى، والمجتمعات تتدمّر في عالمنا العربي، والمثقفون والمتعلمون يتهمون بعضهم بعضاً، ويخوّنون بعضهم بعضاً، والغرب وأمريكا والكيان الصهيوني يضحكون ويقهقهون ويزيدون الشروخ والانقسام أكثر فأكثر..!!..

إن الإسلامُ لا يتدمّر، الإسلام يبقى لدى أبناء الأمة في وعيهم وروحهم وتطلعاتهم – كمصدر للقيم الإنسانية الأصيلة ومنبع للنهضة المنشودة – فكراً متسامحاً، ودعوة إنسانية شاملة للحق والخير والجمال والعدل والحرية… مهما زايدوا في كلامهم، وحاولوا تشويه صورته، وحرفه عن مبادئه، وتزييف أدبياته وتاريخه، سواء الغرب السياسي، أم تنظيمات الإرهاب الدينية القابعة في بيئتنا ومناخنا السياسي العربي والإسلامي.. الإسلام شرط وجودي لنهضة المسلمين، وهو بحاجة لإرادة أهله ووعيهم وتطوير مهاراتهم وانفتاحهم على الحياة والعصر.

نعم نحن بحاجة للتجديد الديني في آليات تفكير الناس ووعيهم العقلي العملي، لأنه سبيل تحسين أوضاعهم السياسية والاقتصادية، والاجتماعية، التي يعانون فيها من أشد أشال التخلف في شتى المواقع والمجالات..

وبناء المجتمعات القوية القادرة والفاعلة، الحاضرة في عصرها إنتاجاً ومعرفةً، وتطوير حياة أفرادها في حقوقهم ومعيشتهم وازدهارهم، لا يكون بالقوة والعنف والإقصاء، بل بالعقل والعلم والتنمية وإشاعة أجواء المشاركة وقيم التسامح والعدالة والإنصاف والحرية الحقيقية المسؤولة..

والعلم بهذه الحرية (المسؤولة) مشروطٌ بالوعي بالذات، الذي منه يتم نقل الإنسان من حالة العبودية في كونه عبداً مستلباً إلى واقع الحرية في كونه إنساناً حراً يتمتع بكرامته كذات حرة منتجة فاعلة، لا كذات تابعة خاضعة مستلبة.. فالوجود العاقل يضع نفسه رهن إشارة موجودات عاقلة يجمعها العقد الاجتماعي في دولة تحكم بالحرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *