أول الكلام

حديثُ الأشياء

بقلم غسان عبد الله

كنت أنظر للسماء الملوثة بالدخان وأتمنى لو كنت امتلك مروحة عملاقة لأبعد هذا الدخان.. أو أربطها على ظهري وأطير مبتعداً عن هنا.. ولكن السماء الآن محجوبة بالدخان وهذا الكائن البائسُ ما زال يتحدث بقلبٍ محطّم عن الحب.

عجزت عن احتمال المزيد من نواحِهِ.. فانفجرتُ وقلتُ له بأنه من الغباء أن أهب قلبي لكائنٍ مثلي.. وبأننا أوغادٌ ولا بد أن يحطّم أحدُنا قلبَ الآخرِ ليعيدَ صياغَتَهُ من جديد كما يريد.. ولو أنه وَهَبَ حبَّه لله (عز وجل) بَدَلَ أن يَهَبَهُ لكائنٍ غبيٍّ لهُ جدائل.. لما تحطم قلبُهُ أبداً.

صَمَتَ قليلاً ثم قال: أن أتحوَّل إلى غبي بقلبٍ محطَّمٍ أَحَبُّ إلي من أن أكون شيئاً معقّداً بلا قلبٍ مثلك..!!.

أشعلْتُ سيجارةً وأسندتُ ظهري على الجدار وردّدت في نفسي: “قلبي عامرٌ بحبٍّ لا مثيلَ له وهبتُهُ أيضاً لكائنٍ لهُ جدائل.. وليس بغبي…!!”.. لعلّه على صواب.. لعلّي الغبي الذي فهم الأمر بطريقة خاطئة.. (من المفيد أن تفهمَ بعضَ الأشياء بطريقتك الخاطئة..!!).

نظرتُ للفراغ الذي تحتلُّه السموم وقلت له: حسناً.. تباً لك ولأشيائك العاطفية إذاً.. نهض بكسل وقال وهو يغادر: “تباً لك أيضاً.. إني أُحبُّك فقط لأني أعلم بأنك تكرهُ أن يُحبَّك أحد..”.. بعدها اختفى في تفاصيل مشهد الحياة دون أن استئذان.. وبقيت وحيداً وسط الدخان لأكتب.

أحياناً أكون غبياً أكثر مما ينبغي فأعيدُ ارتكابَ الحماقاتِ القديمةِ على أملِ حدوثِ الأمورِ السحرية التي ستجعلني أؤمنُ بأنّ الحقيقةَ لا بد أن تنتصر.. أحياناً أفكِّر بكتابة كلمة “لا تصبحْ مثلي” على يافطةٍ كبيرةٍ وأعلِّقها على رقبتي وأسيرُ على أرصفةِ هذه الضاحية.. علِّي حينها أصبح عضواً فعّالاً بالمجتمع.. هناك دائماً عسكريٌّ وأرعنٌ وامرأةٌ خلْفَ كلِّ مشاهدِ المجتمع.. إنّ المجتمعَ قضيةٌ خاسرةٌ على كلِّ حال.. من الغباءِ أن أصبحَ قدّيسَ القضايا الخاسرةِ وأنا مجرّدُ صعلوكٍ يحبُّ الغوصَ في تفاصيل الأشياء.

لا أدري بماذا كان يفكر أوّل شخصٍ ابتكرَ الكتابة.. لعلّه يئسَ من الحاضرِ فاخترعَ آلةَ الزمنِ البدائية.. قرّر الوثوقَ بالحجرِ وبدأ يعبِّر عن ذاتِهِ المنفيةِ عن واقِعه.. إنني أفعلُ مثله.. إلا أنني لم أخترعْ أي شيءٍ على ما يبدو لي.

آه.. لعلِّي أنا المعنيُّ في تلك الحكمة التي تتحدث عن الأشياء الزائدة على الحياة.. ما الذي يحدث الآن؟؟.. لمَ أصبحتِ السماءُ تمطرُ فجأةَ.. إن المطرَ ينهمرُ بغزارةٍ والناسُ يركضون كالمجانين.. كلُّ شيءٍ يرقصُ ببهجةٍ خَفِيّةٍ تحت المطر.. وكأنَّ شيئاً جميلاً على وشْكِ الحدوث.. وكأنَّ العيدَ ينتظرُ هناك على أطرافِ الفجر.. ثمةَ ابتسامةٌ صغيرةٌ ستحدُثُ قريباً.. كانت الكائناتُ الخياليةُ تقول لي بأني حين أخذِلُ أحلامي لن أصبحَ إلاّ مجرد “أحد الأوغاد”.. سأعتمر لعنتي وأسير تحت المطر.. لعل هذا الضجيج يهدئ ولعلَّ تلك النار تنطفئ.

قطرةٌ أخرى ضعيفةٌ تحطُّ على راحةِ يدي بوهن.. كنت أنظرُ إليها مشفقاً.. لو كنت مثلها لانتحرتُ فوق خطوةٍ تائهة.. ولكني لستُ مثلها.. إني مجرّدُ كائنٍ ذو مزاجٍ معطوبٍ يحاولُ النّظرَ للحياةِ على أنها حدثٌ استثنائيٌّ لا بد من الاهتمام به إلى آخرِ هذا الهراء الذي يفقدُ معناهُ كلما نهضتُ من النومِ وقلتُ كلمةً نابيةً لوجهي المرمي في المرآة!.

إن التّكرار يُفْقِدُ الأشياءَ اللامعةَ قيمتَها.. في النهايةِ تبرُزُ جماليةُ تلك الأشكال العشوائية الكئيبة.. تبدأُ بنسجِ عقلانيةٍ ما في رأسي.. لعلَّ الأشياءَ التي تحدُثُ لتختفي تستحوذُ على الذاكرةِ حين نصدِّقُ اللعبةَ ونبدأُ بالهرولةِ خلفَ تلك الأشياءِ المؤقتةِ الغبية.. تباً لكلِّ شيء.. لم أعدُّ أُبالي.. سأركضُ كالمجانينِ بدل أن أسيرَ مثلهم تحتَ المطر.

إن الأشياءَ تبوحُ لي بأسرارِها لأنها تعلمُ بأنّ أحداً لن يصدقني.. لذا كانت تبكي وتضحكُ أمامي.. بعدها.. يعتصرُ الألمُ قلبي.. فأطلبُ من الأشياءِ أن تكفَّ عن الثرثرةِ لأستمِعَ للكونِ وهو يسبِّح لله.. فأسيرُ مبتعداً بسعادةٍ زرقاء.

بعيداً.. في الضياع.. لا تحدُثُ الأشياءُ من تلقاءِ نفسها.. لذا لا تستطيعُ الكَذِب.. وحدي فقط من كان يُتقِنُ هذا.. لذا أخبرتُ نفسي بأني على ما يُرام.. ولكنه “ما يرام” فريد من نوعه.

والآن سأكتب بكل ثقة “إلى اللقاء”………….. ولن يصدقني أحد!!..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *