ثقافة المبدع.. لغةً وشعراً..
بقلم غسان عبد الله
اللغةُ هي أهم صلات الترابط واستمرارية التواصل بين أفراد الأمة؛ ولا تعني اللغة بهذا المفهوم أنّها رباط مصلحي للتعبير عن حاجاتنا ومصالحنا فقط؛ بل هي كياننا ووجودنا.. حاضرنا العتيد وماضينا المجيد..
وإن لكلّ مفردة إيحاءاتٍ تمتد إلى عصورٍ مختلفةٍ، وتشغل حيزاً في عقولنا تعجز عشرات الصفحات عن توضيح مدلولها وتفسير رمزها.. فكلمة (فرس) لا تعني هذا الحيوان الماثل أمام أعيننا بأذنيه وعينيه وذيله وأقدامه الأربعة.. كلّا وألف كلاّ؛ فهو يشخّص لنا عنفوان الفرسان، وسنابك الخيول، وقرقعة السلاح.. انتصارات الأمة وحروبها، فتوحاتها وانتكاساتها.. وتتراءى لنا من خلاله حارات دمشق وحواريها، وأزقة بغداد وسقّائيها.. قوافل الحجيج، فروسية عنترة، والسيف أصدق أنباءً من الكتب!!.
فحبّنا للغتنا الجميلة، وعشقنا للذاذة شعرنا الرائع ليس بدافع العبث وقتل الفراغ – حالنا كما هو حال الآخرين وحبّهم للغاتهم – بل تمنحنا اللغة عمر الأمة كلّه على امتداد التاريخ، وتاريخ الأمم بكينونة ومضِ عمرنا الشخصي الضئيل العابر كلمح البصر، وبعبارة أدق: إنَّ اللغة أداة تكثيف الزمان والمكان وما يضمان، فحقّ لها آن نشمخ بها.
ومن اللغة الشعر بشكله ومضمونه؛ لأنّ لا مضمون بدون تشكيل.. ولا تشكيل بدون لغة، ومن هنا يأتي التمايز بين لغة النثر ولغة الشعر، وتذهب دائرة المعارف الإنكليزية في تعريفها للشعر، بأنه الطريقة الأخرى لاستعمال اللغة.
وشرعنا بكتابة الشعر العمودي؛ لأنّه هو الأساس الذي يجب أنْ يُبنى عليه الشعر العربي؛ وإلاّ سيكون الشعر هش البناء، عديم الذوق والطعم، لا يمتُّ بصلةٍ إلى الأصالة والنَّفَسِ القومي الموروث عن تراث الأمّة ووجدانها، ويفتقد الشاعر لأهم المقومات الأساسية للموهبة الشعرية الصادقة، ويبقى نتاجه مجرد إرهاصات نثرية عقيمة لا تقوم لها قائمة، سيبتلعها الزمن مع عصرها. ولا أعني بطبيعة الحال الشعر الحر الموزون (شعر التفعيلة) الذي جُدّد على أيدي الروّاد؛ فالشعر ليس بمفرداته ومضمونه ومعناه وصوره فقط؛ بل بموسيقاه وانسيابه وأشجانه وألحانه، تقرأه بنغماته الشجية الصادرة من أعماق قلوبٍ متأججة شاعرة لتطرب إليه، وتتغنى به، فهو ليس مجموعة لحباتٍ من العنب متكتلة متراكمة بترتيبٍ معين، وتنظيمٍ دقيقٍ لتمنحكَ صوراً جميلةً، وتشكيلاتٍ بديعةِ اللمعانٍ عميقةٍ على أحسن الأحوال.. وإنما هو تحول نوعي تام من حالٍ إلى حال، ليصبح في صيرورة جديدة.
وللشعر ركنان أساسيان لا بدَّ منهما في كلّ شعر، وهما النظم الجيد ونعني به الشكل والوزن أولاً (ويخضع كما هو معلوم لعلوم النحو والصرف والبلاغة والعروض)، ثم المحتوى الجميل أو المضمون الذي ينفذ إلى أعماق وجدانك، وتنتشي به نفسك دون أن تعرف سره، وتفقه كنهه، فهو الشعاع الغامض المنبعث من النفس الشاعرة.
وتسأل عن الناس، فالناس أجناس، فمنهم مَنْ يتذوق الشعر ولا يستطيع أنْ يدرك الموزون من المختل، وينطبق هذا على أكثر الناس، ومن الأقلية مَنْ تجده يستطيع أن ينظم الشعر بشكل ٍمتقنٍ، ولكن لا تحسُّ بشعره نبض الحياة ونشوة الإبداع، وهذا هو الناظم، أمّا الشاعر فهو الذي يجيد النظم إجادة تامة، وتتأجج جذوته ليحترق، ويمنحك سرّ الإبداع، ولذاذة الشعر، تتحسّس بجماله، ولا تدرك أسراره – كما أسلفنا – والشاعر الحساس يرتكز لحظة إبداعه الإلهامية على مظاهر التأثيرات الوراثية التي تسمى بعلم النفس (الهو)، وما يختزنه في وعيه واللاوعي من معلومات وتجارب وعقد، ولك أن تقول ما في عقليه الباطن والظاهر (الأنا العليا)، ومن البديهي أن ثقافة المبدع بكل أبعادها الإيحائية واللغوية والمعرفية والسلوكية والفلسفية والتجريبية – والعلمية إلى حد ما – تؤثر على القصيدة أو النص الأدبي.
ومِنْ الشعراء المتميزين مَنْ يتمرد على التراث الشعري وهؤلاء من عباقرته الذين يمتلكون حقّ التجديد والتحديث، ومن الناس من يرفض القديم بحجة المعاصرة والتقليد، وهؤلاء يلجون عالم الشعر، وهم ليسوا بأهل ٍله، لأن ّ ما لا يكون لا يمكن أن يكون! فالقدرة على الصياغة النغمية تكمن مع صيرورتها – وبدرجات مختلفة – الانفعال الشديد، والإحساس المرهف، والخيال الخصب، والإلهام الفطري، وهذه بذور الإبداع متكاملة مندمجة بماهية واحدة، وبدونها لا تنبت النبتة الصالحة لتعطي ثمارها وأُكلها.
فذلكة الأقوال نقول: نعم للتشكيل اللغوي المحكم، والتصوير الفني البديع، والتنظيم الواعي الدقيق دور كبير في بناء القصيدة، ولكنه دور مكمل يحتاج إلى قدرات عقلية كبيرة، وثقافة موسوعية عالية ورفيعة (على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ)، ولكن – مرّة أخرى – الاعتماد على العقل وحده دون الغريزة الفنية والقدرة الموروثة أصالة أو طفرة، لتتفاعل هذه كلـّها حيوياً لحظة الإبداع وصناعة القصيدة، وبكلمة أدق ولادتها (وخلها حرّة تأتي بما تلدُ)، كما يقول الجواهري. فكلّ عباقرة الشعر يغرفون من بحر وتولد القصائد عندهم ولادة، ثم يجرون بعض التعديلات اللازمة عليها، والقصائد كالشعراء، تولد ولا تصنع، ومهمة الشاعر أن يجعلها تولد وهي أقرب ما يكون إلى السلامة، وإّذا كانت القصيدة حية فأنها تكون تواقة مثله إلى التخلص منه وتصرخ ملء صوتها بغية التحرر من ذكرياته الخاصة، تداعياته، رغبته في التعبير عن الذات وكلك تتخلص من حبال سرته وأنابيب التغذية المتعلقة بذاته جميعاً.
يتولى الناقد العمل حيث يتوقف الشاعر، ولا يستطيع النقد العمل دون نوع من علم النفس الأدبي الذي يربط الشاعر بالقصيدة. وقد يكون جزءاً من ذلك العلم دراسة نفسية الشاعر مع أن هذه الدراسة مفيدة بشكل رئيسي في تحليل الاخفاقات في تعبيره. فالعقل وحده دون الغريزة الفنية لا يمكن أن يوّلد شاعراً كبيراً، ولا عبقرياً عظيماً في مجال الشعر، بل والفنون، والحديث شجون، ولله في خلقه شؤون!.
