الهويّة العربية الإسلامية وفن إدارتها بين مغاليق الواقع وممكنات الانفتاح
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
لا شك بأنه يوجد لكل مجتمع من المجتمعات أو أمة من الأمم عادات وتقاليد وتراث وثقافة تاريخية، تكون كلها موضعَ فخرٍ واعتزاز عند أفراد تلك المجتمعات أو الأمم.. ومنها ما يكون مقدساً لا يجوز المساس به، ومنها ما يكون عبارة عن طقوس وثقافات فلكلورية تاريخية تتصل بأبعاد حضارية تاريخية عريقة غير مقدسة، تدخل ضمن نطاق ما يسمى بالتراث المادي أو اللامادي المطلوب المحافظة عليه ونقله كمواريث ثقافية معنوية ورمزية من جيل إلى آخر..
هذه الثقافة التاريخية والمواريث الحضارية تشكل بمجموعها هوية ثقافية وحضارية لها ملامح ومعالم خاصة بهذا الشعب أو ذاك، وهي قد تختلف من منطقة إلى أخرى ومن أمة عن أخرى.. لكن بالأٍساس هي عبارة عن حصاد فكري وثقافي معنوي ومادي أبدعه وأنتجه هذا المجتمع أو ذاك.
بما يعني أن الهوية تصبح حالة أو ظاهرة خاصة بأيّ مجتمع من تلك المجتمعات تعبر عن الذات التاريخية بشكل من الأشكال، لتشكل – في الجانب الثقافي الخاص والحضاري العام – الإطار النفسي والفكري الثقافي العام الذي يعبّر عن وجود الناس التاريخي والمعاصر المكونين لهذا المجتمع، وعن حالة الحراك الاجتماعي والسياسي العملي الذي يقومون به…إنها تأتي كنتيجة طبيعية للتفاعل الحاصل بين مجموعة من العوامل الفكرية والمعرفية التي تحكم سلوك أعضاء هذا المجتمع لتوجه حركتهم، وتحدد لهم مساراتهم المتنوعة في الحياة، وذلك على مستوى التأهيل الصحيح والواضح للشخصية العامة للفرد (والمجتمع ككل)، لتحكم على طبيعة العلاقة الكائنة بين الأنا وبين الآخر، بما تختزنه (هذه الهوية) في داخلها من قيم ولغة وعادات وتقاليد مشتركة، وتعبر عن ذات الجماعة التي تقوم بممارسة تلك المشتركات ضمن وطن واحد.
وبذلك تكون الهوية مرتبطة بالحياة في مواقع تأثيرها، ومرتبطة بالوعي التاريخي للثقافة والفكر بمظاهر تلك الحياة ومختلف مواقعها، حيث يكون هذا التاريخ مصدر علمها وثقافتها وانفتاحها وامتدادها إلى ساحات الحياة الإنسانية كلها.
طبعاً، هذا التعريف للهوية هو تعريف من جملة تعاريف، أي أنه ليس نهائياً وحاسماً، مما يفسح المجال للاختلاف والسجال والإضافة، لأنه لم يتم الاتفاق بعد – وهذا أمر صعب – على تحديد مفهوم دقيق واضح ونهائي بين الجماعة البشرية، يعرف ويوضح معنى الهوية.
وعلى ضوء ذلك، يمكن اعتبار الهوية الحضارية لأيّ مجتمع أو أمّة تعبيراً عن الناس، عن إرادتهم، ووعيهم، وطبائعهم وأمزجتهم، ومعتقداتهم ومختلف تصوراتهم عن الكون والوجود والحياة في سياق تحديدها لطبيعة العلاقات الاجتماعية السائدة فيما بينهم، ومعايير السلوك ووسائل المشروعية، ونظام القيم الواجب الاتباع، أو علاقتهم ببيئتهم، أو بعالم ما فوق الطبيعة
وأما على صعيدنا العربي والإسلامي، فقد تشكلت الهوية بالدرجة الأولى من انتماء الأمة للإسلام الذي بات هوية حضارية عقائدية قارّة، لها خصائصها وسماتها وخصوصيتها الذاتية التي لا تمنع وجود سمة كونية لها باعتبارها هوية منفتحة على كل الحياة والإنسان، لها مظهر دعوتي رسالي إنساني يتحدد كواجب شرعي وأخلاقي وقيمي.
وعلى الرغم من عالمية تلك الهوية وكونيتها الواضحة في القرآن الكريم وروايات الرسول والأئمة(ع)، فقد لاحظنا وجود محاولات لدعاة ونخب ومؤسسات حزبية قومية وحتى دينية، لتجسيد وتمثل وبناء هيكل الهوية العربية والإسلامية على ضوابط ومعايير تاريخية ولغوية وثقافية وجغرافية دينية، بحيث كانوا يطالبون دوماً بالاجتماع “الهوياتي” المغلق حولها (حول تلك الهوية الحضارية الإسلامية)، وسلكوا في سبيل تثبيتها في الوعي الجمعي أساليب وسلوكيات عملٍ غير منطقية وغير عقلانية (ومبتذلة)، بل ومكلفة مادياً ومعنوياً، كما استخدموا أدوات ومناهج عمل سحرية طوطمية وهمية، حيث تكاد كتبنا المدرسية العربية لا تخلو من تجليات تلك الحالة الملتهبة غير الطبيعية لهويتنا العربية والمتركزة في هذا الكم من الادعاء المجتمعي العام بتفرد العرب والمسلمين، وتميزهم الإنساني، وعلو شأنهم وكعبهم على باقي الناس، وتمثّلهم للمجد والفخار والبطولة والرفعة العالية، وادعاء القيمومة على باقي الحضارات والأمم والشعوب.. مع أن الله تحدث أن معيار التفاضل الهوياتي يكون فقط بالتقوى والعمل والصالح وخدمة الناس.
وأجيالنا العربية والإسلامية التي لا تزال تُربى على ثقافة التمجيد والتعظيم لسنن الآباء والأجداد، وتتلقى وتتلقن بلا وعي كثيراً من مظاهر وتجليات مثل هذه الأمجاد التاريخية أقوالاً وتواريخ فائتة، وتضخ في شرايينها ولا وعيها كميات هائلة من أحاديث وروايات وحكائيات ورمزيات وصور تحشيدية هائلة من هذا التاريخ العربي (القومي) المكلل بالمجد والفخار والعزة والكرامة والنخوة على عكس كثير من المعاني والوقائع الحقيقية لهذا التاريخ التي نقلتها بعض العقول الواعية الموضوعية… وهنا نسأل: ماذا سيحدث لتلك الأجيال بعد أن تكبر وتفاجأ بواقعها القائم، وتنظر إلى واقعها المعاصر الذي تعيش فيه ومن خلاله في أتون المحرقة الحياتية اليومية بكل تعقيداتها ومستوياتها، فتشاهد وتعاين على الأرض العقم الحضاري المقيم، والفشل والخراب والتبعية والاستلاب، والحطام المجتمعي العام سياسةً واقتصاداً وتنمية، وهيمنة الفساد والاستبداد، وحالة التقهقر الحضاري العربي المريع؟!.
أليس من باب الأمانة والصدق والمسؤولية ألا نكذب وننافق وندلّس على هذه الأجيال؟!، أليس من الصدق والحق والعدل أن نضعها أمام الحقائق الصحيحة والواضحة، وعدم تبييض صور التاريخ العربي بالكامل أمامها؟! أليس من الواجب تعليمها وتدريبها على قيم النقد والمساءلة لكثير من موضوعات وحقائق هذا التاريخ؟!.
طبعاً هذا النقد لا يعني أنه ليس للعرب أو للمسلمين هوية أو معاني قيمية وسلوكية حضارية إنسانية معينة يعتزون بها، ويفخرون بمعاييرها ومبادئها بين باقي أمم وحضارات الأرض، وإنما نعني به مراجعة دفاتر التاريخ بوعي وعلم وموضوعية، ونقد هيمنة هذه الحالة المتصاعدة من المبالغة والتكلف الكبيرين في الدعوة إلى تبني والتزام، مثل هذه الهوية التاريخية العربية الإسلامية المعيارية الصلبة التي تحولت إلى ما يشبه المقدس الديني الثابت غير القابل للتحول والتغير والمساءلة، وعدم ممارسة أيّة عملية نقد حقيقي بشأن تكلفها وبعدها عن منطق التاريخ والسنن الطبيعية الموضوعة فيه.
ولا شك في أنّ أزمة أو مشكلة الهوية في عالمنا العربي (والإسلامي عموماً) ليست حديثة العهد، بل هي برزت للعلن منذ وقت طويل، وتسببت خلال مسيرة تحولها -كنتيجة طبيعية لطغيان قيم وأفكار التعصب والتزمت للرأي والمعتقد والمبدأ- في اندلاع صراعات وحروب واقتتالات أهلية عربية وإسلامية، برزت للعلن جراء انغلاق أتباع كل هوية فكرية أو سياسية أو دينية أو أقوامية أو إثنية أو طائفية، على مفاهيمهم ووعيهم “الهوياتي” العتيق… مع رفض وإنكار لهويات وانتماءات الآخرين التاريخية الحضارية.
بمعنى أنّ التعصب الأعمى للهوية والأنا “الهوياتية” التاريخية التقليدية، ورفض هويات الآخرين (وما يمكن أن يتفرع عن تلك الهوية من ثقافات وانتماءات وخطوط وتقاليد وعادات ونظم ومعاني فكرية وغير فكرية) كانت هي البوابة والمقدمة (وشرارة البدء) لاشتعال واندلاع كثير من الصراعات التاريخية الدموية، ونشوء كثير من الأزمات العربية العربية اللاحقة في الداخل والخارج..
وقد يقول البعض إنّ لمجتمعاتنا حالة خاصة، باعتبارها مجتمعات ذات هوية دينية ورسالة إنسانية، أوجدها انتماء المجتمعات إلى الدائرة الحضارية التاريخية الإسلامية، وهي تشتمل على انتماء المسلمين إلى دائرة الإسلام، واتباعهم للقرآن، والنبي محمد… أي أنها عبارة عن هوية نهائية (تراث ثابت)؛ وبالتالي فهذا النوع من الهوية (التراثية) مقفل ونهائي وغير قابل للنقد والمساءلة… ولذلك، فعامل أو عنصر الزمن لا يستطيع أن يتدخل في مقومات تلك الهوية (الدينية)، ليعدل أو يغير باعتبار أنها تختزن في داخلها كل عناصر الثبات ومقومات الاستمرار.
طبعاً خصوصية الهوية للعرب والمسلمين، هي نفسها في الإطار العام ما نسمعه ونقرأه من وجود خصوصية دينية أو فكرية لغيرهم من القوميات والحضارات والشعوب الأخرى التي يدعي كل منها أنّ له فرادة وتميزاً وخصوصية ما. وقد يبدو هذا الكلام صحيحاً من ناحية أنّ الهوية الدينية الثابتة (الكتاب – الوحي أو الإلهام – الرسول) هي هوية مقدسة غير قابلة للحوار والنقد، باعتبار أنّ معطيات العلم التجريبي غير قادرة على مساءلة تلك الثوابت تجريبياً، بل يمكن فقط مناقشتها عقلياً.
وفي مواجهة حالة الثبات والديمومة الهوياتية – إذا صح التعبير- تطرح متطلبات الحياة المتغيرة باستمرار أسئلة متعددة سياسياً وفكرياً ومعرفياً واجتماعياً، تتعلق بالعلاقة القائمة حالياً، أو التي يجب أن تقوم بينها وبين الهوية الثقافية والحضارية للمجتمعات التي صدمتها مختلف تطورات وتحولات وتحديات العصر بتعقيداتها وتشابكاتها المتعددة، ومنها مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
بمعنى ضرورة البحث عن كيفية إدارة وتدبّر مختلف شؤون تلك الهوية، في ظل محاولات تجييرها واستغلالها، وفي ظل الحروب التي تشن عليها، وفي ظل انشغال أهلها بقشور الاستهلاك الزائف، وانهماكهم في مواقع تظهرها كهوية مبتذلة وقبيحة وبعيدة عن أية مضامين ومعايير روحية إنسانية حقيقية.
في الواقع، نحن نقبع حالياً في ظل عصر جديد ومتنوع في مفاهيمه وأساليبه ومعاملاته ومعاييره، وهو يختلف اختلافاً كبيراً – شكلاً ومضموناً – عن العصور السابقة، حيث نعايش فيه مشكلات وأزمات وتحديات وجودية “مصائرية” شديدة الغنى والتعقيد في كثافتها وألوانها وتنوعها، حيثإنها أحدثت فراغاً وجودياً هائلاً، وفتحت المجال الواسع لإثارة وطرح مجموعة كبيرة من الأسئلة المتعلقة بطبيعة النظم السياسية والاقتصادية، وبأنظمة المعنى ومعايير القيم والثقافات التي يمكن أن تمضي قدماً في مسيرة الإنسانية خلال القرن الحادي والعشرين.
والواضح لنا جميعاً هنا أنّ مفردة “الصراع” عادت لتتحكم وتهيمن بقوة من جديد على مختلف الأوضاع الراهنة بمحددات وآليات عمل خارجية جديدة، أبقت على المضمون العنيف والمتوتر، وغيرت شكل التعامل فقط.. أي هناك حالة صراع وجودي قائم ومتجدد، وبالتالي لا بُدّ لنا عرباً ومسلمين – على طريق وعي الهوية من الداخل كقيمة متحركة منفتحة وليس كقيمة تمامية مغلقة ثابتة، بحيث أن الخصوصية لا تمنع ولا تلغي العمومية والكونية – من التأسيس الجدي لفضاء معرفي وثقافي تعددي سلمي، يسمح لأصحاب كل تلك الخصوصيات والتنوعات الهوياتية الدينية وغير الدينية التي تزين تاريخنا وحضارتنا العربية بالتعبير عن قناعاتهم ومعتقداتهم وقيمهم ضمن مساحة الاعتراف بالآخرين والتسامح معهم في فضاءات التنوع المجتمعي الجميل.
بمثل هذه المعاني الوافرة للهوية المنفتحة الخالية من العقد الأيديولوجية الدينية وغير الدينية، يمكن هضم وتكييف تحولات وتطورات الحياة والعصر الهائلة، وبالتالي تتفتح الهوية أكثر فأكثر لتقبل الآخر روحياً ومادياً، فتعترف به نظيراً لها في الوجود والواقع، ويلاقيها من الموقع ذاته، لتحتك فيه وتتفاعل معه، وتأخذ منه، الأمر الذي يفسح المجال أمام مجتمعاتنا للعيش المنتج والحضور المؤثر في الحاضر والمستقبل.
وها لا يعني أن نتماهى مع المظاهر والمعايير والقوانين التي فرضها الآخر، بل أن تكون الكونية النابعة من القيم الإنسانية الأصيلة المشتركة لكل حضارات العالم التي فيها نفحات إنسانية بلا أدني شك.. أي أن الانفتاح لا يعني التماهي الكامل، كما لا يعني الذوبان الكلي في ثقافة الآخر السائدة والمهيمنة، بل يعني التفاعل الإيجابي والبناء والمثمر.. يعني عدم المساس بالمقومات والأسس والسياقات الحضارية والتراثية لدى الشعوب المعبرة عن هوياتها.. فلا وجود لهوية خارج التاريخ، سواء تعلق الأمر بهوياتنا العربية الإسلامية أو بالهويات الأخرى المتفاعلة معها سلباً أو إيجاباً.. يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(الحجرات/13).
وما أحوجنا اليوم إلى ضرورة تفعيل ثقافة الحكمة والحوار والمسؤولية والتواصل.. نعم فالتواصل والتفاعل بين الهويات والثقافات الحضارية في هذا العالم، هو أمر ضروري وحيوي ولا بد منه، بل هو السبيل الوحيد لتجنب الصراعات والحروب، والإسهام في بناء عالم إنساني متعدد الثقافات والحضارات ينعمُ بالسلام والاستقرار، ويرفل أهله وناسه بالهدوء والسكينة والازدهار المادي والرمزي.