ترانيم على ضفاف الأقصى
بقلم غسان عبد الله
نَهرٌ عُصِيُّ الموجِ أرَّقهُ الترقُّبُ..
حمَّلتهُ الريحُ أسرارَ التمنّي فانتشى ظمأً يحنُّ إلى بواكيرِ الصباحْ..
نَهَرُ تلكّأ في رحابِ الصمتِ فارتعَشَتْ حَواليهِ السكينةُ
فارتمى يجري على لِمَمِ المدارجِ كالرياحْ..
نَهَرٌ تصاخَبَ في المدى حيرانَ أرهَقَهُ المسيرُ
تملّكتْهُ سَماحَةُ الأَلَقِ الرَّهيفِ وأنهكتْهُ بِوابِلِ الطّوفانِ
فانتبهتْ إلى مجراهُ حالِيَةُ الربى فأباحَ من مخضلِّ نُضْرتِها الأليفَةِ ما أباحْ..
نَهَرُ تدفَّقَ في فيافي الروحِ فارتاحتْ لديهِ مسالكُ الحرمانِ
فانهمرتْ عليهِ الأمنياتُ
وحينما أغوتْهُ قَبَّلَ وجهَهَا المنثالَ من نَهَمِ السَّرائرِ فاستراحْ..
قَمَرٌ.. وفي عينيهِ أغوارُ الحقيقةِ
لم يكدْ ينأى عن الجرحِ القديمِ فعاجَلَتْ دنياهُ أمداءُ التَضَوُّعِ
فاحتمى بمرارةِ الشوقِ المهاجرِ في دنى أشجانٍ تأوي في اشتعالها ظلالُ الذكرياتِ
وَجُذْوَةٌ من لهفةٍ كانت تؤرِّقُهُ فأينَعَ زرعُها في لحظةٍ راحت تسائلهُ عن الدنيا
فأعلَنَها وأغلقَ دونَها ما اجتاحَهُ من نَفْحِ أحلامٍ تراودهُ بليلٍ دونَ راحْ.
يا أنتَ..! يا مَنْ عرَّشتْ في رحْبِ دنياكَ الأماني..
هذه روحي قد انَسَفَحتْ على كفيَّكَ.. رُدَّها إِذِ انهَمَرَتْ على عِطْفَيكَ..
سائلاً هواكَ.. فهلْ تَرى في الجرحِ نزفاً؟.. أم تَرَى أملاً يباغتُها فتدنو من رؤاهُ
وتقتفي دنيا المنى تجني لديها كلَّ ما تعطي المواسمُ من أقاحْ..
أعلنتُ باسمِكَ أيها الأقصى الجريحُ.. باسم صبركَ كلَّ خفقةِ خافقٍ..
وَأمِنْتُ تحتَ وجيبِ محرابكَ أسألُ الحزنَ الأبيدَ:
هل استرحتَ أَمِ انكَفأْتَ وكلُّ بارقةٍ لديكَ يعيدها للصدر نَزْفٌ لم تباغِتْهُ الجراحْ
وإنَّما والقلبُ ينشدُ سكرةً تهفو لديهِ هُنيهةً
ما إنْ تسامرْها الأماني تنثني وتقولُ: باسم أقصانا الجليلِ
والقبة التي لا تتلوَّنُ بغير النجيعِ أعلَنَتِ الضراعةُ أنّني:
ما اشتَقْتُ إلاّ كي أكونَ على المدّى أملاً.. وذكرى.. وانتماءً وارتياحْ.
فتدفَّقْ في أضلعِ التَّوقِ الحميمِ.. وأعلنْ “أقصايَ” للصّمتِ أو للبوحِ
أنَّ الملتقى ما كانّ إلاّ من رُعافِ الجرحِ مُذْ هَفَتِ الجراحْ..
وتوسَّد صدرَ المولَّهِ واكتبْ في الغيبِ ملحَمَةَ الشذى..
كُنَّا قُبَيْلَ الملتقى سطراً تداوَلَهُ الدُّخَانُ وحينما انهمَرَ السحابُ على المفازَةِ
أينَعَتْ في الكونِ أوردةُ الرؤى فتماوَجَتْ روحانِ وانكفأَ الصَّدى..
واجتازَ شَأْوَ الوقتِ قلبٌ أيقَظَتْهُ زيتونةٌ كانتْ وما زالتْ تسائِلُهُ:
لماذا لم نكن أرواحاً تجتازُ المدائنَ
وترقُبُ في أفقِ الأفلاكِ ولادةَ إنسانٍ من رحمِ الصبر والأشجانْ..
لماذا لا نأنسُ من جانبِ الطورِ الأيمن من القدسِ ناراً
عند نوافذِنا المشرعات على حقلٍ وغمامْ..
وكيفَ لا نعبُرُ نار اللظى بأحشاء الوقتِ المسَّرِ في عيوننا برداً وسلامْ..
لماذا لا نظلُّ نحلُمُ ونحلُمُ بعيداً عن غيابات الواقعِ المقيتِ..
فلا ودَّ يجافينا ولا يعترينا الخصامْ..
لماذا لا نظلُّ نحلُمُ بأنْ نربيَّ همستين شجاعتين ووردتينِ حميمتين..
بأنْ نظلَّ مواكبَ تروي حديثَ الحبِّ عبرَ الأمنياتِ
تحيلُ رمضاءَ الحياةِ نداوةً.. تخضلُّ دونَ الذكرياتِ بُعَيْدَ ما كانت أمانينا سُدى..؟
فتمرَّدْ.. لا تجرحْ شَجْوَ التَّرقُّبِ.. ها هيَ الأحلامُ تعلنُنا وقد أُزِفَ الإيابْ..
أنَّا وإنْ كنَّا انكفاءً ربَّما نمضي إلى غَدِنا خِفافاً نقتفي أَثَرَ الغياب..
ونبعثُ الآمالَ في صَلَفِ العذابْ؟
ها هي الأيامُ تُدرِكُنا بالعشقِ الذي غادرناهُ قهراً..
وتتركنا نهب احتضارٍ ونهب احتدامْ..
ثم تعودُ فتُلقي بنا وَسْطَ ضرامِ الوقتِ فيَغْلي بنا الضرامْ..
لماذا.. لماذا لا تُلقي علينا مآذنُنا بُعيدَ الليلِ المعفَّرِ بأنات العشقِ تحاياها..
ويكونُ مِسكَاً آخرُ عهدنا في الحياةِ والختامْ..
تدفَّق في أضلعِ الوقتِ لا تخشى عتوَّ الموج في بحار النائباتِ..
وأعلنْ “أقصايَ” للصّمتِ أو للبوحِ
أنَّ الملتقى ما كانّ إلاّ من رُعافِ الجرحِ مُذْ هَفَتِ الجراحْ..
أنَّ الحياةَ بظلِّ الجهادِ.. برغم اتقادِ جواها ستبقى لنا برداً وسلامْ.