حرية الكلمة ليست خطراً
بقلم: غسان عبد الله
ثمة نوع من الجدل الذي لا ينتهي حول حرية التعبير وحرية الكلمة، حدودها ومرادها والغاية منها وأضرار وفوائد هذه الحرية سواء كانت في كلمة أو كتاب أو جملة أو من هذا القبيل.
في مجتمعنا العربي بشكل خاص حرية الكلمة ربما لم تنل درجة من التفاهم أو التسامح أو حق إبداء الرأي إذا كانت على النقيض مما يؤمن به المجتمع أو فئة منه، وهذا النمط الذي يراد من خلاله تنميط المجتمع بذات القناعات والآراء والأفكار هو نمط غير واقعي وغير صحي بدرجة كبرى، فالرأي والقضية الواحدة لها وجهات نظر لدى أفراد المجتمع ومن الصعب جمع الناس على رأي واحد، لهذا طبيعة البشر هي التنوع والاختلاف في النظر للأمور كل من زاويته.
ماذا لو أبدى أحد في مجتمعنا رأياً يخالف رأي الأكثرية، ويجهر برأيه في المجالس والمنتديات والصالونات الثقافية هل يكون رأيه وقناعته خطراً على المجتمع، لو أن أحداً من الناس خرج برأي لم يسبق به أحد من العالمين من قبله، وقال شيء لا يصدقه العقل ولا المنطق وتنكره النفس ولا تطيق سماعه، هل يعتبر هذا الرأي خطراً على المجتمع؟ وكيف يتم التعامل معه؟. الطريقة التقليدية السائدة التي تنشأ عليها مجتمعاتنا العربية طوال العقود الماضية هو التنمُّر والإقصاء وإثارة الأرض ومَنْ عليها لأجل إسكات أو قمع هذا الصوت، بغضِّ النظر عن موقعه الفكري بين أطياف المجتمع. التعاطي مع حرية الكلمة بين عدد كبير من الأطياف الفكرية والأفراد هو واحد، حتى أن هذا التعاطي أصبح سلوكاً شبه ثابت وتنشئة اجتماعية ودينية على هذا السلوك. لم تعد تطيق نفوسنا مجرد سماع وجهات نظر تختلف عن ما نؤمن به وتطمئن له نفوسنا.
سأضرب عدة أمثلة، ونحاول من خلالها أن نفهم حقيقة أثر حرية الكلمة على أرض الواقع، دينياً وسياسياً على سبيل المثال:
دينياً وربما حرية إبداء رأي ديني داخل المنظومة الدينية كالخلافات الفقهية والفكرية الدينية نحو القضايا هي الأكثر إشكالاً في مجتمعاتنا العربية، والغريب أن هذا الرأي إن كان من داخل المنظومة الدينية لا يُنظر له بأنه اجتهاد من المحتمل أن يكون صواباً أو أن يكون خطأً، بل على عكس الأدبيات الدينية فإن الإقصاء والتحريض والتكفير وإثارة الرأي العام حول هذا الفقيه أو المجتهد أو أي كائن كان هو نمط سائد في الخصومة الدينية، وللأسف أغلب الخصومات لا تتسم بالشرف ولا بدرجة معينة من التخلُّق بالأخلاق الحسنة في التعاطي مع المخالفين، والمشاهدات على هذه كثيرة في واقعنا.
ماذا لو كان الرأي هو مخالف لكافة القناعات الدينية، أي أن الرأي يستخفُّ ويقلل من الإسلام ويقدح في الذات الإلهية والأنبياء ويقول عنهم ما يعتبره المسلم هو كفر بالله وآياته ورسوله، كيف يمكن أن يتم التعاطي مع هذا النمط؟ بالعودة للقرآن الكريم نجد في سورة النساء هذه الآية الكريمة ﴿إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾، تشير الآية بوضوح إلى منطق عقلاني في التعاطي مع من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها، وهو عدم الجلوس معهم، واشترط العودة لذات المجلس هو خوضهم وحديثهم في موضوع آخر غير الموضوع السابق. هذه الآية تبين لنا البون الشاسع الذي تعيشه مجتمعاتنا العربية في التعاطي مع من لديهم قناعات مختلفة فضلاً عن من هم لا يتّفقون مع الدين في شيء، حيث أشار القرآن بعدم الجلوس في حال الحديث عن الدين باستهزاء وكفر بآيات الله، إن الأمر الإلهي هو كنوع من المقاطعة والإعراض عن هذه المجالس، والعودة مشروطة بتغير الموضوع!. هل هذه الآية والحكمة الدينية لها من الواقعية شيء في واقعنا العربي. الإسلام له أكثر من ١٤٠٠ سنة ومرّت أمم وعقود وقرون بأحداث قد لا نعلم الكثير عنها، حاولت أن تنال من الإسلام، لكن هي الأفكار من الصعب أن يتم التعاطي معها بمنطق القمع والإقصاء.
النقطة الثانية، حرية الكلمة سياسياً، الأنظمة السياسية ومن يعملون فيها هم بشر ولهم أخطاؤهم وزلاتهم التي لا تنتهي، ومن الطبيعي أن يكون لأفراد المجتمع سواء الخبراء والمثقفين والمواطنين وجهات نظر نقدية على هذه البرامج أو أداء الحكومة، أو أداء رئيس الحكومة أو الحاكم ذاته.
هل حرية الكلمة أو النقد لهذه المؤسسة السياسية أو الوزير أو الحاكم خطر حقيقي على المجتمع؟ على سبيل المثال لو أن زيداً من الناس لديه قناعة مختلفة عن قناعة خطط التنمية الحالية لدولة عمرو هل قناعة زيد تهدّد دولة عمرو؟ هي مجرد قناعة أو رأي يعتمد على حجج ورؤى معينة والحديث عنها أمام الملأ هو لا يشكل تهديداً، بل هو مجرد رأي وربما يكون رأياً عابراً. لهذا عندما نشاهد الأنظمة العربية ترتبك من كلمات ومقالات وبيانات المثقفين أو حتى أفراد المجتمع هي تدل على أن ثمة إشكالاً حقيقياً في معنى حق الكلمة ومعناها لدن هذه الأنظمة.
حرية الكلمة هي ظاهرة صحية لأي مجتمع من المجتمعات، في المجتمعات المتقدمة الشعب والإعلام يرصد حركات الأنظمة التي تمثلهم عبر مؤسساتها كيف تعمل وكيف تتعاطى مع الإشكاليات التي تواجهها، والكلمة ربما تكون الرقيب الذي يصوب الخطأ ويعالجه، أما سياسات بعض الدول فهي تحاول أن تحدَّ من حرية الكلمة وهي للأسف تجني نتيجة عكسية لما تريد، لا أحد يخالف الطبيعة وينتظر ردة فعل طبيعية، وكل فعل له ردة فعل أخرى.
عندما يُمنع الناس أو يتخوّفون من الحديث عن إشكالية في العلن فإن هناك فضاءً آخر يتشكل في الخفاء للحديث وربما يشوبه العديد من المخاطر، فالكلمة التي تقال بخوف هي كلمة وفكر مريض، لكن الكلمة التي تقال في وضح النهار هي كلمة طبيعية وصحية أكثر من التي تقال بوجل وخوف في الظلام. حرية الكلمة ليست خطراً حتى مع الكلمات التي نختلف معها، من حق كل إنسان أن يقول ما يشاء ومتى ما شاء، هي قناعته الخاصة ومن حق الناس أن ينتقدوا هذا الرأي كرأي بعيداً عن التحريض والفجور في الخصومة وأيضاً القمع للكلمة، التي هي مجرد كلمة وربما تكون كلمة عابرة لا أكثر.
حرية الكلمة والنقد هي ظاهرة صحية وإن كانت هذه الكلمة تخالف رأي الأكثرية، إن وجود رأي يخالف رأي الأكثرية هو نمط صحي وعلامة رشد لهذا المجتمع، لنترك الجميع يتحدث بما يريد ولندع الناس تسمع ما تريد.