أول الكلام

موت بلا موت ..

بقلم غسان عبد الله

ليس بالضرورة.. أن تلفُظَ أنفاسَكَ.. وتُغمِضَ عينيكَ.. ويتوقفَ قلبُك عن النبضِ وجسدُك عن الحركةِ.. كي يقال عنك إنك فارقتَ الحياة.. فبيننا الكثير من الموتى.. يتحركون.. يتحدثون.. يضحكون.. لكنهم موتى.. يمارسون الحياة بلا حياة..

إن مفاهيم الموت لدى الناس تختلف.. فهناك من يشعر بالموت حين يفقد إنساناً عزيزاً.. ويُخيَّلُ إليه أن الحياةَ قد انتهت.. وأن ذاك العزيزَ حين رحلَ أغلقَ أبوابَ الحياةِ خلفَهُ، وأن دورَه في الحياة بعدَهُ قد انتهى!!!..

وهناك من يشعر بالموت حين يحاصره الفشل من كلِّ الجهات ويكبِّلُه إحساسه بالإحباط عن التقدم فيخيّلُ إليه أن صلاحيتَهُ في الحياةِ قد انتهت، وأنه لم يعدْ فوقَ الأرضِ ما يستحقُّ البقاءَ من أجله.. والبعضُ تتوقفُ الحياةُ في عينيهِ في لحظاتِ الحزن.. فالحياةُ تستحقّ… وأنْ ليسَ فوقَ الأرضِ مَنْ هو أتعسُ منه.. فيقسو على نفسِهِ حين يحكمُ عليها بالموت، وينفِّذُ بها حكمَ الموتِ بلا تردُّد.. وينزعُ الحياةَ من قلبِه.. ويعيشُ مع الآخرين كالمَيْتِ تماماً.. إذ لم يعُدِ الرحيلُ هو المعنى الوحيد للموت. وهناك من يزاولُ الحياةَ بطرُقٍ مختلفةٍ، ويعيش تفاصيلَ وتضاريسَ الموتِ.. وهو على قيدِ الحياة.. وكثيرونَ يتمنّون الموتَ ظناً بأنه الحلُّ الوحيد والنهايةُ السعيدةُ لسلسلة العذابات..

لكن هل سألَ أحدُنا نفسَهُ يوماً.. تُرى ماذا بعد الموت.. نعم.. ماذا بعدَ الموت؟!.. حفرةٌ ضيقةٌ.. وظلمةٌ دامسةٌ.. وغربةٌ موحشةٌ.. جنةٌ.. أو نارٌ.. وأنا منهم.. من الذين ذكرَتْهم كلماتي منذ قليل.. أتنفّسُ.. قلبي ينبضُ.. جسدي يتحرَّك.. لكني فارقتُ الحياةَ منذ فَقَدْتُهم.. دخلتُ دائرة الموتِ منذ رحلوا.. غابوا.. ولهم أسبابُهم في الغياب.. لكنَّ الحياةَ خلفَهم مستمرةٌ.. فالشمسُ لا زالت تُشرِقُ.. والأيامُ تتوالى.. والزمنُ لم يتوقّف بعدُ.. ونحن لا زلنا هنا.. ولا يزالُ في الجسدِ دمٌ وفي القلبِ نبضٌ.. وفي العمرِ بقية.. فلماذا أعيشُ بلا حياةٍ.. وأموتُ بلا حياة.. فالحياةُ تستحق.. إذاً سأحاولُ كسرَ دائرةِ الموت.. وطرقَ بابِ الحياةِ بإلحاح.. وإن لم يُفْتح لي فسوف أقفزُ فوقَهُ.. لكن قبلَ أن أُشرِعَ في أي فعل.. أريد أن أسأل هل حقاً تستحقُ هذي الحياة؟؟.

أقول.. الحياة التي أتحدَّث عنها نعيشُها.. تماماً كما يعيشُ العصفور أو كما تحيا البهائم.. إلا أننا نختلفُ في مزاولةِ الحياة.. فنعيش موتى أو نموتُ أحياءً.. وهذهِ سُنّةُ الوجودِ وشريعةُ الحياة.. وإذا كنا سنسألُ ذات يوم هل تستحقُّ الحياةُ ستضجُّ الأرضُ بنا وتقول لنا.. هل تستحقونَ أنتم الحياة.. فالحياةُ كدحٌ.. والكدحُ زرعٌ.. والزرعُ ثمار.. والثمارُ بذور.. والبذور زرعٌ.. والزرعُ حصاد.. والحصادُ كدحٌ.. ومن ثم حياة.. فهل بعدَ هذا نتنكَّرُ لهذه الحياة؟.. ثم ماذا بعد الموت؟؟.

إن بعد الموت ما فعلناه في الحياة.. فإن عشنا ميتين فيها فلسوفَ يرافقنا الموتُ إلى ما بعد الموت.. وإن كنا نكابدُ الموتَ فيها لنحيا ومن ثمَّ يحيا غيرُنا بحياتنا يصبحُ للموتِ نكهةُ الحياة.. وهكذا.. فلمَ أسأل ماذا بعد الموت؟.. فربَّ حفرةٍ صغيرةٍ في قبر منسيٍّ تترادفُ فيها أسراب الملائكةِ يؤانسون عُمّارها.. ورُبَّ أُخرى.. فسيحةٌ بإرادة الدافنين تضيقُ بما رحُبَت.. وتنفتحُ على الجحيم قبل الولوجِ إلى عالمِ الآخرة..

لذا.. وأخيراً.. أنا لا أملكُ إلا أن أُذكِّرَ نفسي بحديثٍ لأمير المؤمنين علي(ع) حيث يقول: “من استوى يوماه فهو مغبونٌ، ومن كان آخرُ يوميهِ شراً فهو ملعون، ومن لم يكن على الزيادةِ فهو في النقصان، ومن في النقصان فالموت خير له، ومن اشتاق إلى الجنة سارعَ في الخيرات، ومن أشفقَ من النارِ لُهِيَ عن الشهوات، ومن ترقّبَ الموتَ هانتْ عليه اللذاتُ، ومن زهُدَ في الدنيا هانتْ عليه المصيبات”..

 فلنعمل إذاً أن لا نعيشَ الرتابة والهامشيةَ ولنكن دوماً في ازديادٍ من كلّ شيء.. حتى تصبحَ الحياةُ أولى لنا من الموت ولكي يصبِحَ ما بعدَ الموتِ أجملَ من الحياة.