أول الكلام

صدى التمتمات .. “من جدل القلب”

بقلم: غسان عبد الله

مَنْ أنتَ؟ حتَّى أستفيضَ أمامكَ كالبحرِ؟ لا تتساءل‏ وتجاهلْ هذا الجنونَ،‏ فتلك أرضُ بصيرتي اكتشفَتْ نوافذَ فضّةٍ‏ يتسرَّبُ الإيقاع منها.. أنتَ مائدةُ الحوارِ،‏ يداكَ مفتاحُ الكلامِ‏.. وأنا بيوتٌ أُقْفِلَتْ بالحزن، فافتتحْ.. أضئ كوكبي الأقصى.. تدلَّى من ثريّاتِ الهيامِ‏.. وتجوَّلْ في تيه أعماقي، ارفعْ حجر الظَّلامِ‏ تجد المغنّي داخلي جسراً تمرُّ عليه قافلةُ الوجود الرَّاحلِ‏… وإذا عثرتَ على الطَّبيعة داخلي‏ فتقاسمها كلَّها ودَعْ لروحي فطرةً أولى،‏ وقلباً ضلَّ عن خفقاتهِ الجذلى وألَّفَ فيَّ غيماً للجنونْ..‏ ما زال يبحث عن تراب فوقَهُ يرمي تحيَّتَهُ،‏ ليقدر أن يكونْ..‏

حرّاً كما ذكرى تفاجئ حارس الظّلماتِ‏ تدخلُ أيَّ نافذة،‏ تعيدُ قراءة الأشياء، تكسر لي المرايا‏.. وتشدّني نحوي فأمْسِكْ بي،‏ كأني من جديد أُكْتَشَفْ‏ فإذا أنا فخّارُ أحزانٍ على جدرانِهِ‏ سال البكاءُ المريميُّ،‏ ومنه يُنطلق الدعاء، ومنه تُبْتَكَرُ التُّحَفْ‏.. لا تغلق باب الصَّباح عليّ، أنتَ صباحُ بابي‏.. منه سأدخل نحو أصدائي القديمةِ،‏ منه أبتدئُ التجوّل في ضبابي‏ لألمَّ ذاكرةً تشظَّتْ في الهواء‏ أديرُها في الرّيح أطلقها طيوراً‏ نحو عائلة القبابِ‏.. أنتَ الّذي لا أدّعي ذهباً لحضرته…‏ ولكن أدَّعي غَيْبي به لأغيبَ بضع مواسم عنّي، وأسهو عن خرابي…‏ فأراكَ عصفوراً بريشِ بنفسجٍ‏.. ويدين من زهرٍ خجول طازجٍ‏ وسريرَ أفكارٍ تحطّ عليه أسراب الحمام.

هذا أنا: صيَّادُ أشواقٍ، وصيْدٌ للصَّدى‏.. فخُذْ جميعَ فرائسي الزّرقاء والخضراء والحمراء‏ والتحفْ بأجفاني،‏ ونمْ…‏ نمْ، ولي صحوٌ فضائيٌّ ولي أرقُ الأنامِ‏.. هبطتْ مخيِّلةٌ معطَّرةٌ،‏ أضاءَ السوسنُ البريُّ في شغفِ الحقولْ‏.. وشممتُ طيبَ الأرض من بعدِ الهطولْ..‏ وسمعتُ بوح العاشقين من الآياتِ البيّناتِ‏ وجوهُهُمْ كدموعِ أخيلةٍ.. ونهدتُهمْ وجيبُ الأمهاتِ‏ ورأيتُ نفسي بينهم أتلو عليهم ما حفظتُ،‏ فقيل: صمتاً يا فتى…‏ فهنا نقولُ بلا كلامِ…‏

دعَ عنك لوعاتِ اليقينْ..‏ اسلك متاهَ الشاردينْ..‏ واتبَعْ دعاءَكَ‏ وانفصل لتنالَ من فصلٍ وصالَكْ‏ وارجع إلينا يا حفيدَ الوجدِ،‏ يا بْنَ الوجدِ خلاّقاً‏ كأنَّكَ لم تكن ذكرى على جَمْرِ الغضا‏ ترخي ظلالَكْ..

كم مرّةٍ نوديتَ: أنتَ على شغاف القلبِ‏ تمشي غافلاً، فاخلع نعالَكْ‏ واقبَلْ مزيجَ الوقت في إبريق ساعاتٍ‏ تعانقُ زفرةً معصورةً بيدِ الدّهورِ‏ والرّوحُ بين يديكَ طيِّعةٌ ومطلَقَةُ السُّرورِ‏ فاكتبْ على الآفاقِ،‏ أين تألّقتْ عيناكَ، فالآفاقُ من نارٍ ونورِ…‏

صمتاً إذاً… ما للكلام المستحيل؟ ومَنْ أحالَكْ؟‏ قلنا وقيَّدَنا الكلامُ، فلا أبا لكْ‏… اسفَحْ دعاءَكَ كلَّهُ ليصدِّق السوسنُ دعاءَكْ.

نمْ… ولي كبدُ القصيدةِ، مجمَعُ الأشواقِ فيه:‏ أنتَ واللّغةُ العتيقَةْ‏.. نمْ… هنا أوراقُ أحلامي تطيرُ من الأغاني‏ كلَّما حركتُ أوتاري، سمعتُ صدى حريقي‏ ثمَّ انحنيتُ على دماري‏ نوَّرتُ بيتَ الرّوحِ.. ألقيتُ العتابَ على أصابعه‏ أفاقَتْ من مغارتها القصائدُ…‏ كلُّ خفقٍ ظلُّهُ شِعرٌ‏ وتحتَ لسانكَ نبعٌ من السّحر القديمِ‏ يضيءُ وعد الياسمينْ‏ يسقي نباتَ العارفينْ..‏ ورأيتُ صوتك منذراً ومبشّراً‏ مغزولةٌ كلماتُه بنسيج زينِ العابدينْ‏.. نمْ مرّةً أخرى، لأصحو مرّةً أخرى،‏ أعلّمكَ السَّهَرْ؟؟؟‏.. ضمَّ يديكَ على القَمَرْ‏.. ولتسمحْ للغيم أن يجلو الفضاء.. أصْغِ لإيقاع الكواكبِ في السَّحَرْ‏.. الكونُ في عينيكِ أصغَرُ من حنيني‏ إلاّ قليلاً، فاستعنْ بالدَّاخل الناري، أضئ محرابَ قلبكَ بالصّلاة مع الشّجرْ‏.. لا تقرأ كتباً، وطفْ حول عطر مستتِرْ‏.. خلف الضَّمير، فكلُّ وردٍ مستمرْ..‏ بعبيرِهِ…

استمعْ إلى النّسيان حتّى تذكُرَ وكلْ من الشَّجرِ المباركِ واكبُرْ فجرَيْنِ… وارتدَّ إلى حجرٍ يذوِّبه حَجَرْ‏ هذي هي الجدرانُ راكعة وراءكَ تصلي،‏ والدّجى شيخٌ جليلٌ ينتظرْ..‏ أنْ تأمُرَهُ بالرَّحيلْ‏ هل تبصرُ الآن لونَ العشقِ والصلواتْ.. ومضَ الوجدِ والذكريات.. فاسمعِ الآنَ همسَ الليلِ وصوتَ الموجِ.. وصدى التمتمات.