فضاءات فكرية

شَذراتٌ نقْديّة فِي الفِكرِ والإنْسَانِ والحَياةِ

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

الشّذرة الأولى- الإسلام رسالة عدل وكرامة إنسانية، ودعوة علم ومعرفة وعقلانية؟!:

ولا شك بأن العرب الأوائل قد أسهموا في نهضة هذا الدين، ونقله إلى كثير من الأمم والمجتمعات، بالحوار والفكر والحرية، فالإسلام أولاً وأخيراً دين الفطرة، ودين الإنسانية، وقيمه التي يسعى لتمكينها في حركة الواقع البشري، هي قيم إنسانية تتناسب وتلك الفطرة التي فطر الله الناسَ عليها.. فالعدل والحرية والمساواة أهداف وغايات نبيلة كبرى لكل الأفكار والأيديولوجيات الكبرى التي مرت في تاريخ الحضارات البشرية.

ولكن هل يكفي هذا العز والمجد على المستوى النظري؟!، خصوصاً وأن العرب – وعموم المسلمين – يغرقون اليوم في دوّامات التنظير لما كانوا عليه وفيه، بعدما غرقوا في أتون مشكلات سياسية واقتصادية كبرى نتيجة الاستبداد والهيمنة والتبعية والفساد؟! ثم ماذا فعلنا وأنجزنا نحن العرب طيلة قرون طويلة، وماذا اكتشفنا واخترعنا وقدمنا على صعيد ضرورة الارتفاع والاستجابة لتلك المقاصد القيمية (عدل – مساواة – حرية – كرامة -.. إلخ)، وأن نكون أوفياء لمتطلباتها ومقتضياتها في التنفيذ العملي على صعيد الفرد والمجتمع والمنظومات السياسية الحاكمة المفترض أن تكون انعكاساً حقيقياً لتلك القيم والمقاصد العليا؟ هل طوّرنا وحسّنّا وغيّرنا (وتغيرنا) إيجابياً في سبيل ذلك، و ﴿الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾؟!.. أليس الله تعالى هو القائل: ﴿ولم يكُ الله مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾؟!!!.. وأليس الرسول الكريم(ص) هو القائل: “اعقلها وتوكل“.. كدعوة للعمل المنتج والفاعل وعدم الانتظار والتواكل والانتظار السلبي؟!..

ثم، أين نحن من المعرفة العلمية ومن العقلانية والتفكير والتخطيط السليم المبرمج؟ أين نحن من الانفتاح على العلوم والقوانين العلمية القادرة على تحقيق الفعل والبناء والتغيير نحو الأفضل والأحسن؟!.. حقيقةً – لنقلها بصراحة ووضوح وبلا أقنعة – أنتم بعيدون عنها من دون أدنى شك، والدليل هو واقع الهزيمة النكراء الذي نقبع فيه منذ قرون، واقعنا المترهل والمتخلف الذي نجتر فيه خسائرنا ونقف مكتوفي الأيدي أمام نهب مواردنا وثرواتنا وإنفاقها على الهوى والمزاج والمجون، ونشر الإفساد وإخراج أسوأ ما في النفس البشرية من غرائز وقاذورات مكبوتة، دونما سعي حقيقي لامتلاك أسس المعرفة والتصنيع والتكنولوجيا الحقيقية؟!..

لقد حلّ القول والكلام النظري التمجيدي والشعاراتي محل العلم والعلماء والفعل العملي.. وباتت الكثير من المواقع والمنابر محصورة في العقول الفارغة من الكاسدين فكرياً وتاريخياً وسياسياً.. كلهم أسهموا في نشر وإفشاء ثقافة مضللة مناقضة للعلم ومضادة لثقافة العلوم الحديثة، حتى – مثلاً – على مستوى تنظيم المدن وتخطيطها عندنا، حيث تجد أن هكذا قرار يتدخل فيه بل ويتخذه رجل سياسة أو رجل عسكري، ولا يقرره ولا يتخذه رجل علم مختص في مجاله الهندسي..!.

نعم أحبتي.. فأن يعزّنا الله بالدّين الإسلامي هو أمر جيد وجميل، ويجب أن نشكر الله عليه، ليس فقط بالصلاة والعبادة، بل بالمعرفة والعلم وفتح الآفاق الكونية أمام نشر أخلاق هذا الدين وفضائله وقيمه العليا..

نعم لا يكفي التمجيد بقيمنا، ولم يعد يجدي كثيراً في عالم القوة العلمية الضاربة والتنمية الفردية والمجتمعية المهاراتية المميزة، وبناء “الفرد – المواطن” القادر والنافع.. وهذا ما يفرض علينا التزامات عملية للفعل تجاه الله والحياة والإنسان، بل هو أمر يحمّلنا مسؤوليات مضاعفة للعمل والبناء والتطوير والإنجاز العلمي الحقيقي.

انظروا أين أصبحت الدول التي أخذت بناصية العلم والقرار العلمي والإنتاج الصناعي الحضاري المتين، وقدمت العلماء وليس غيرهم من رجالات التنظير السياسي وغير السياسي.. وانظروا بالتالي: ماذا حلّ بنا نحن العرب والمسلمين، أهل الكلام والأقوال والبدائع الكلامية اللفظية والمنبريات الخطابية الدعائية والاستهلاكيات التجريدية المفارقة؟!!. منذ نكبة فلسطين ومن ثم نكسة حزيران.. ولن أقول قبل تلك التواريخ المؤلمة الحزينة التي ارتبطت – في ذكرتنا القريبة وليس البعيدة – بالهزائم تلو الهزائم؟!!.. حتى وصلنا في أيامنا هذه أن نتفرج على مقتلة غزة ومذبحة أهلنا في فلسطين المحتلة دونما أدنى قدرة أو إرادة عملية حقيقية لإنهاء هذا العدوان وهذا الشر الصهيوني المستطير..!!.

وقد قرأتُ لكم أنه وقبل سنوات كثيرة، وبعد هزيمة العرب النكراء في عام 1967، كتب المفكر المصري أحمد بهاء الدين كتاباً ملخصه أن “هزيمة العام 1967م (يعني النكسة) حدثت بسبب بعدنا عن العلم الحديث”.. وهو قول صحيح، وفي مكانه، حيث أننا لم نهتم بدراسته وفهم معانيه، وتعميقه لأكثر من خمسين سنة.. كما أن هناك مقولة مشهورة لمناحيم بيغن (أحد القادة البارزين التاريخيين للعدو الصهيوني) مفادها: “أنا أؤمن بالتوراة، وأضع ثقتي في الفانتوم”، كما كررنا كثيراً كالببغاوات قولَ موشي ديان: “إن العربَ قومٌ لا يقرؤون”..!!..

ثم انظروا بتمعنٍ أيضاً إلى ردّ فعل صدام حسين عندما قيل له إن طائرة “الشبح” (الستيليث) الأمريكية لا يمكن لأي رادار رصدها.. ردَّ بالقول على طريقة أي جاهل متعجرف في بلداننا العروبية قائلاً: “إنّ الراعي عندنا يمكنُ أنْ يراها”!!.. ثم ضحكَ وقهقهَ وجسمه يهتزّ، وكان ما كان من أمر هزيمة العراق، ودماره وتدميره من قبل الغزاة الأمريكيين… وما يعانيه العراق اليوم هو نتيجة مباشرة لذلك الجهل الفاضح والخطير للغاية في اتخاذ القرار الصائب الذي كان من المفترض أن يكون مبنياً أولاً وأخيراً (ليس على الادعاءات الفارغة والنرجسية المريضة والبطولات الكلامية الدونكيشوتية)، بل على العقلانية السياسية والعلم والحقائق العلمية.. وهذا ما يميز آلية صنع القرار (الناجحة) في الغرب عنا..!!.

نعم أيها الأحبة القراء، إنّ من أبرز وأهم تلك التحديات والأولويات وأكثرها حيوية اليوم وغداً وبعد غد التي تواجه الحضارة والثقافة العربية الإسلامية – والفرد المنتمي إليها كهوية ثابتة في الجوهر ومتحولة (منفتحة) في الممارسة – هي تحديات توطين المعرفة وإنتاجها ذاتياً، أو ما يطلق عليه بــــــ “فلسفة العلوم”، ومحاولة إيجاد علاقة معرفية وفلسفية منتجة بين الثقافة الإسلامية السائدة ومجمل النتاجات والمنتجات والمكتسبات والاختراعات والمكتشفات والتطورات العلمية التي تمكن الإنسان من الوصول إليها، ومحاولة تبيئتها محلياً.. أي إيجاد أرضية (وفضاء) ثقافي وبيئة معرفية عربية إسلامية مُنتجة للعلم والمعرفة العلمية الحقيقية الخصبة والثرية، ليس فقط من زاوية القدرة على تحقيق الاستجابة النوعية الفاعلة على مجمل التطورات العلمية الحاصلة باستمرار في صميم وجود وحركة المجتمع الإنساني، بل بالأصل والأساس امتلاك المعايير والمعادلات والنظم البنيوية المؤسِّسة للإنتاج العلمي عملياً وليس فقط نظرياً، أي امتلاك القوانين المولِّدة والصانعة للعلوم ذاتها، لا أن تكتفي تلك الثقافة فقط وحتى الآن بلعب دور المتلقِّي والمنفعل والمستهلك والمستجيب قسراً وغصباً لتلك التطورات العلمية الهائلة في عمق المعرفة العلمية الإنسانية على مستوى العلم النظري والعلم العملي فكراً وتجربةً وإنتاجاً.

الشّذرة الثانية- الفساد وضرورة التربية الإيمانية:

هل الإنسان فاسدٌ بذاته وطبعه؟!..

لا، ليس الإنسان فاسداً بذاته، ولا بجوانيته وجوهره، ولا بحقيقته العارية الأولى.. وهو لا يُولدُ من بطنِ أمّه ممهوراً بخاتم الفساد والإفساد.. فالإنسان يولد كالأرض الخالية، تكون بحسب ما تبذر فيها، وتلقي بين طيّاتها.. أي هو يكون ويصبح بحسب الأجواء التي يُوضع فيها، ويتحرك في مسارات الحياة، وبحسب التربية والتعاليم والنظم الفكرية والسياسية التي ينوجد فيها ويتلقاها وينشأ ويتربى في حجرها ومحضنها..

نعم، الإنسانُ من ساعة ولادته، لديه استعدادات وقابليات ذاتية وفطرية ليصبح منتجاً ومعطياً أو عاطلاً وكاسداً.. فالتربية لها دور أساسي، والتنشئة له دور حيوي، والتعليم له دور نوعي، خاصةً التعليم الفني والمهني المهاراتي؛ والتنمية الفردية لها دورٌ أكثر من ضروري.. بما يعني أنّ الظروف المحيطة والتكوين النفسي والعقلي والبناء المدني الحقوقي كلها هي التي تُنتِجُ وتصنعُ وتقدم لنا الفردّ الواعي المسؤول القادر على تصنيع ذاته وبناء مستقبله، وألا يتحول إلى مجرد إنسان منفعل وخاضع وعاطل وكسول، عالة على نفسه وغيره، يعيش العطالة في عقله وفكره وعلمه ووعيه، والبطالة في سلوكه وعلاقاته ومختلف تعاملاته..

من هنا قولنا: وفِّروا الأجواءَ الملائمة لتنمية القابليات الفردية وتفتيح الاستعدادات والمواهب الذاتية، وأعطوا “الإنسان – الفرد” حقه، وعندها سترون منه العجب في النهوض والحضور والفاعلية والإثمار الحضاري..

وقد يقول قائل إن طبيعة الحياة المادية اليوم الطاغية على كل شيء، هي بذاتها تسبب للإنسان القلق والشك، وتدفعه دفعاً للارتماء في أحضان الفكر الحسي المادي، وما ينتج عنه من هيمنة عقلية وسلوكيات الفساد والإفساد، بفكره ورموزه ومواقعه.. وهذا كله أثر تأثيراً كبيراً على إيمان الناس بقيم دينهم الروحية، وجعلت الإنسان يعيش الغرور بعقله (وما هو عليه من أمور حسية مادية عيانية) في التركيز على الأمور المحسوسة، ورد كل ما لا يدرك العقل كيفيته.. طبعاً، هذا مرض ويجب تداركه، من خلال بيان أهمية العقل وحدوده ودوره وحدوده، وأثر الإيمان والتسليم في علاج مثل هذه الأمراض..

إن قيم الدين أساسية وضرورية للإيمان الروحي الحقيقي ومحاربة الفساد النفسي والعملي.. والتربية منذ نعومة الصغر على الإيمان بالله في مواقع عظمته، أيضاً لها دور كبير في بناء شخصية الإنسان وتكاملها الروحي والحياتي.. لنكون أمام شخصية متوازنة هي المنتج النهائي للعملية التربوية الفعالة والمنتجة.. تمتلك كفايات معرفية جيدة، ومهارات حياتية نافعة ومؤثرة، إضافة إلى ما تحوزه من ملكات اجتماعية فاعلة..

 إن التربية الحقيقية تهدف لبناء شخصية يوازن فيها المربي بين العقل والجسد والروح، فللعقل غذاءه الروحي والعلمي، وللجسد احتياجاته ومتطلباته، وللروح أشواقها وآفاقها الكبرى..

الشّذرة الثالثة- التطرف والتعصب ومنطق الإرهاب:

تعاني كثير من المجتمعات اليوم من شيوع ثقافة التعصب لما تؤمن به من أفكار وقيم وخلفيات حضارية وعادات مجتمعية تاريخية، تعتبرها محور حياتها، وتعتقد بهيمنتها على غيرها من الثقافات والأفكار.. ولعل المركزية الثقافية الغربية هي اليوم التعبير الأعلى والممثل الأهم لتلك الثقافات المهيمنة المتعصبة، والتي وصلت مستويات تعصبها إلى حدود التطرف الأعمى وممارسة الإرهاب بحق كثير من ثقافات العالم ومجتمعاتها، وشن الحروب ضدها لفرض الهيمنة والسيطرة ونهب المارد والثروات..

طبعاً لا شكَّ أنّ هناك إرهاباً تعاني منه كثير من بلدان هذا العالم، يأتي بعضه على شكل حروب خارجية، وبعضه الآخر يأتي على شكل حروب داخلية وصراعات أهلية مجتمعية، خصوصاً منطقتنا العربية المتصدعة تاريخياً، سواء كان إرهاباً ذاتي الحركة أم مصنعاً ومدفوعاً من دوائر خارجية معلنة أو خفية هنا وهناك.. نعم، هناك تصنيع للإرهاب، واستخدام له واستثمار وتجيير لأفعاله وارتكاباته..

لكن الإرهاب – إذا أردنا النظر إليه من زاوية أشمل وأعم وأكثر موضوعية على صعيدنا العربي والإسلامي – هو محصلةٌ لتداخلات ودوافع وتعقيدات ومسببات وعوامل عديدة اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية داخل البلدان التي تفجر فيها، ولا يقتصر وجوده ونشأته على معطى أو عاملٍ أو سببٍ واحد بعينه.. والتشخيص السليم للمرض، يجب أن يسبق وصف العلاج الذي نراه مناسباً..

وبرأيي، تتداخل كل العوامل السابقة لولادة الإرهاب الدموي ونشوء أفكار التعصب والإقصاء العضوي، في داخل بِنية مجتمعاتنا العربية الإسلامية اليوم (على وجه الخصوص)، حيث كان لظروف الحرمان من الحريات والمشاركة في صنع القرار، والفشل التنموي الاقتصادي، والتفكك المجتمعي، وتكريس النمطية الثقافية التقليدية، وهيمنة ثقافة الوعظ والتوجيه الفوقي النخبوي القسري، إضافة إلى العقم السياسي وانعدام الحقوق في بيئاتنا العربية الإٍسلامية، كان لها كلها الدافع الأكبر لنمو واشتعال العنف والإرهاب منذ عقود عديدة في تربة هشة وضعيفة التكوين كتربة مجتمعاتنا.

وما نعنيه هنا هو عموم الإرهاب، وليس فقط الإرهاب المتلبّس اليوم باللبوس الديني التقليدي.. نعم، انطبعَ الإرهاب والتّطرف والعنف اليوم بالطابع الديني، ولكن يجب أنْ نعلمَ أنَّ الإرهاب والتّطرف تاريخياً ليس له طابعه الديني البحت فقط، وهو لا يضرب الأيديولوجيا أو الفكر الديني كفكر خاص بذاته، بل يمكن أن يضرب أي فكر بشري آخر، كالفكر الوضعي العلماني مثلاً.. فكثير من الحركات اليسارية العالمية – وفروعها وتناسُلاتها في المنطقة العربية – آمنت بأفكار العنف والانقلاب الثوري الدموي، ودعت إليه، ومارسته، أي انتهجت هذا السبيل، وركّزتْ مفهومها السياسي ومهمازها العملي الحركي على قاعدة التغيير بالقوة والعنف وإلغاء الآخر والاستئثار بالسلطة والموارد والخيرات والثروات.. ويجب ألا ننسى أو نتناسى أيضاً أن بؤرة وأساس العنف الأبرز في المنطقة، والذي هو سبب دائم لتفجّر الإرهاب والعنف، يكمن في وجود الكيان الصهيوني المزروع في قلب وطننا العربي… فكل حروبنا منذ عقود إلى اليوم، كانت إسرائيل هي الحاضر المباشر، أو الحاضر الغائب الأبرز فيها..!!.. إرهابها وإرهاب ربيبتها أمريكا شيء لا يصدق… قتل شعوب بأكملها، واستيطان أوطان بأكملها.. هذا أس الإرهاب في عالمنا المعاصر.