غصّةٌ أخيرة.. قُبيْلَ الموتِ بقليل
بقلم: غسان عبد الله
الكوارثُ التي تحلُّ عليكَ، تنهالُ بسياطها على ظهرِ آمالك.. تريدُ أن تأوي إلى فراشكَ.. ولكنَّها لا تنفكُّ تعتملُ برأسكَ المترعِ بالأفكار الوسواسية.. تأخذُ حبّة كزانكس.. علَّكَ تبرّد حدّة الوسواس القهري فتغو ولو إغفاءة بسيطة.. لكنك محكومٌ بالقلق..
تفتحُ التلفاز.. تريدُ أن تفتِّشَ عن محطّةٍ بلا حواراتٍ ساخنة أو باردة.. تريدُ أن تشاهدَ ما ينهاكَ عن الوسوسةِ القهرية.. تبحثُ بالريموت كونترول عن قناةٍ للرّسوم المتحرِّكة.. علّك تستطيعُ أن تستحضر شيئاً من طفولتكَ يسليكَ في هذا الوقتِ المترعِ بالأسى.. لكنَّ الرسومَ المتحرِّكةَ باتت مملةً ومليئةَ بالقرف الحداثي الذي طالها.. فترى أشكالاً من البشر ليسوا كالبشر.. ترى كوارثَ على شكلِ حبات البونبون.. تُطفئ الجهاز، تحاول من جديد أن تلجأ إلى السرير، تحاولُ هدهدةَ روحكِ ببعض قصار السور كي تغمضَ عينيك.. بعدما تعذّبت بمشاهد الطوابير على المحطات.. وصور الإذلال اليومي لشعبك.
عالمٌ من النوائبِ يكسرُ شبابيكَ منزلك، يقتحمُ غرفةَ جلوسِكَ لتشهدَ العنفَ والدّمارَ وسيولَ الدماء.. تحضن روحكَ، تهدهدها “يا روح ما بعدك روح” لكن!.. أين المفر من الحزن؟.. تأكل اللقمة، تتذكر أن هناك جياعاً في غزة فتصدّها عن فمك، تدفأ في سريرك فتطفو أمام عينيك صورَ المجاهدين في الأصقاع الحارة والباردة بلا كساء، ولا غطاء.
تفتح كتاباً مسليّاً لتقرأ فتُطِلُّ عيونُ الأطفالِ الأيتام، والمرضى.. تقلق تفكيرك فلا تترتب جملة في عقلك.. تحمل كوب الماء البارد لترتشف منه رشفةً، تحسُّ أن الماء تلوّنَ بدم شهداءِ قصفتهم الطائرات في فلسطين أو ذبحتهم سكين داعش في سوريا والعراق، أو دكّتهم جحافلُ الشرطةِ في البحرين في سجونٍ مظلمةٍ ضيِّقةٍ كقبرٍ بلا رمس… أين تذهب في ليلك الطويل؟ كيف تصد هجمات الأخبار الآتية إليك بلا تعثُّر ولا تباطؤ!.
تغمضُ عينيك، تقول: لعلّ حلماً جميلاً يحلِّقُ فوقَ وسادتِكَ، يلامسُ بأجنحته الحريريةِ وجنتك الملبدة بآثار الجحيم، لعلّ وعسى يزرع وردةً ويرش رحيق العسل.. يجذُبُك عالم الحلم، يدسّك في ثناياه، يتلوّى بك في الأزقة المدلهمة والمضاءة، تتعثرُ في مشيك، تشتهي تائهاً وحيداً يبحث مثلك عن أنيس، وما تكادُ تحسُّ وقعَ أقدامهِ تقتربُ من مسامعكَ حتى تنطلق بعمق فرحتك، جذلان مترقباً للقاءِ أنسٍ يمحو وحشة الوسوسة.
وما تكاد تهيئ روحك لانزلاقها في سلافةِ زهرٍ تبعثُ بأريجها طمأنينةً تجعلُ الليلَ مؤاتياً لحلمٍ جميل حتى تعصفُ بكَ زوابعُ أفكارٍ مهندَسةٍ على قياس اقتلاعِ الجبال، تهدر الرعود، تهطلُ السماءُ قمامةً وقيحاً، يتسرب الضيق إلى صدرك، تمتلئ أوعية رئتيك الرفيعة بثاني أكسيد الكربون حدّ الاختناق، يتكوّمُ فوقك تسونامي يحوّلك ورقة، ريشة، غصناً جافاً، تجرفكَ السيول بعيداً عن زهرتك، يذروك إلى حيث رمادُ الحرائق ما يزال لاسعاً على الرغم من انطفاء الجمر، تناضل كي لا يمسك الضرُّ بنصب وعذاب، تشحن كيانكَ بقوة هائلة، تظنُّ أنكَ سوف تنجو..
تحلِّقُ عالياً.. تغادرُ مدار الزوابعَ باحثاً عن واحةٍ فيها شاطئ مليءٌ بمحارٍ من أمان، تهبطُ بكلِّيّتكَ فيها، يمتدُّ الموجُ فوقَ أعشاب الواحةِ، تضحكُ والموج يسري بك إلى العمق، وحلمُكَ بالأمانِ المرجوِّ يرافقُ إغفاءتكَ، تلتقي بحيتانٍ ما لها شبيهٌ حتى في ما وثّقتهُ قنواتُ “Animal Planet” تلاطمُ جنباتكَ وكأنكَ حشرة مطاردةٌ بمبيدٍ قاتل.
الحلم يخدعك، لا أمان، ولا نوم هانئ.. ولا أفكار بنّاءة.. أنت في مواجهة حيتانٍ أسطوريةٍ تبدأُ لعبتها الخسيسة، تناورك، تتسلى بك قبل أن تفتح مغارات أشداقها وتلتهمك، أنت الذي لا تجيدُ الغوصَ ولا الملاحةَ لا في المياه الضحلة ولا في عمق المحيط.
تفاجئك قوةٌ هائلةٌ حباً بالحياة.. الحياة التي لا تريد أن تُحرمَ من مباهجها، تنبتُ لك زعانفُ عملاقة، أذرع، تتحدى الحيتان، تهب مرتفعاً برأسك حيث تطل على اليابسة، الرمل الذهبي الخلاب، الأعشابِ الملونةِ بأرياش الطيور وأوراق طائرات الأطفال التائهة، تصرخ فرحاً بالحياة، وبالنجاة، تندلقُ على الرمل، تتثاءب، تتمطى، تتبلل برذاذ الماء المتناثرِ في كل مكان، عيناك المغمضتان تحلمان أن قمراً سيطلُّ عليك، يلتوي حاضناً روحك الوالهة، لكن المفاجأةَ تُرعبك، فكُّ نمرٍ مفترسٍ ينغرسُ في عمقِ روحك، أين المفر؟!!.. الواقعُ يلاحقكَ بالأرق، ويواصلُ مسلسل النوباتِ المتلاحقة للوسواس القهري.. ولا نفع لكلِّ المهدِّئاتِ التي جرّبتَها طوالَ ثلاثين عاماً.. لم يعُدْ ينفعُكَ شيء.. وثمّةَ الأحلامُ التي تحلمُ بها.. تركَتْكَ رهن الوهمِ والخوفِ.. ولا مناصَ من الأرقِ اليومي!..
كيف ستمضي بقيّةَ عمرك؟.. تسأل نفسكَ.. تنتفضُ عن سريركَ كمن مسّه تيارٌ كهربائيٌّ.. تظنُّ أن الكهرباء في وطنكَ صارت 24/24 لكنكَ تبقى أسيراً لنفس القلق.. ونفسِ الألم.. والسؤال عالقٌ في صدرِكَ كغُصّةٍ أخيرةٍ قُبيلَ الموتِ بقليل.